"كلّما كان العقل قويّاً، كلّما كان أكثر ميلا إلى العزلة" – آلدوس هاكسلي ، كاتب وروائي بريطاني
أكثر الناس هذه الأيّام لا يتحسّرون أو يندمون على نعمة الترابط والتواصل التي أتاحتها وسائل الاتصال الحديثة بين الناس من مختلف البلدان والثقافات. لكن من وقت لآخر يحتاج الإنسان لأن يخطو إلى الوراء قليلا ويلتمس لنفسه شيئا من العزلة يصرفها في التأمّل والقراءة والبعد عن صخب وتشوّش العالم. بعض الناس يفضّلون الجلوس أمام البحر والبعض الآخر يفضّلون المشي والتأمّل ومن ثمّ الكتابة أو قراءة كتاب مفيد.
وهناك من يفضّل أن يقضي أيّاما أو أسابيع في عزلة في الصحراء أو في جزيرة بعيدة مدفوعا بالرغبة في أن يعيش دون قيود أو قواعد تكبّله أو تلزمه بالتصرّف بطريقة محدّدة.
والحقيقة أن الإنسان لا يحتاج لأن يكون راهبا أو ناسكا كي يجد العزلة ويستمتع بها ويكتشف منافعها. وهناك من يرى بأن العزلة، خصوصا في هذه الأيّام، هي ضرورة ملحّة لأكثر من سبب. فهي تنتشلنا من سطوة الجموع وتعيدنا إلى ذواتنا الحقيقية لبعض الوقت. وفي العزلة فقط يمكن أن نجد الاستنارة الروحية ونكتشف قيمة الصمت ونستلهم أعظم الأفكار وأعمقها.
من أشهر من كتبوا عن العزلة من المفكّرين والفلاسفة كلّ من جون موير وسيغيرد اولسون ورالف ايمرسون وهنري ديفيد ثورو. وبعض هؤلاء اعتبروا العزلة فنّاً له طقوسه وقواعده.
ملاحظات ثورو عن تجربته مع العزلة تعبّر عن العديد من الأفكار الشائعة عن مزايا هذه الحالة. وقد شرح بعضها في كتابه والدن أو العيش في الغابات (1854)، الذي سرد فيه تجربته عن الفترة التي قضاها وحيدا في غابات ماساتشوستس. يقول: عندما قرّرت أن أجرّب العزلة، كنت آمل أن أتواصل مع عالم أوسع بكثير من عالم البشر، وبذلك أصبح أكثر قدرة على البقاء على قيد الحياة وأستعيد الإنسان الذي كنته قبل أن آتي إلى هذا الوجود".
وإحدى الخطوات الرئيسية لبلوغ الطاو أو "الطريق" في الفلسفة الطاويّة هي الذهاب إلى البرّية والبقاء فيها بانتظار ما قد يجده المرء هناك، سواءً كان ذلك من نوع غواية وعذابات القدّيس أنطونيوس أو حالة من حالات انفصال المعلّمين الطاويين عن الحياة.
عندما نكون لوحدنا في البرّية، فإننا نتخلّى عن الأعراف التي تحافظ على بقاء المجتمع في حالة عمل، كالتحرّر من الوقت على وجه الخصوص، وهو عامل في غاية الأهمّية. في البرّية أو الغابة، قد تتحدّث إلينا الحيوانات وتوجّهنا الطيور نحو الماء أو الضوء. وفيها أيضا، قد نجد أجسادنا الحقيقية كما هي، حيّة وغير قابلة للتجزئة عن بقيّة الخليقة. ولكن هذا لا يأتي إلا عندما نتحرّر، ليس من قيود الوقت والأعراف الاجتماعية فحسب، وإنما أيضا من الآمال والتوقّعات والمخاوف السرّية التي نصل إلى هناك وهي معنا.
بالنسبة للكثيرين، تُعتبر العزلة شيئا مغريا لأنها "حالة تطهير" تحقّق لنا المتعة البسيطة في أن نبتعد عن الحشود دون أن نشغل أنفسنا بتفاهات وفساد العالم من حولنا.
العزلة هي أن تبقى هادئا وبتمام عقلك في عالم عنيف وفوضوي. لكنّها أيضا وسيلة لفتح مساحة إبداعية، لإعطاء نفسك فرصة أن تكون هادئا بما يكفي لأن ترى وتسمع بشكل أوضح ما يدور حولك بعد ذلك.
الذين يقصدون البرّية أو الصحراء ليجدوا فيها فسحة مؤقّتة للتأمّل، يحرصون على العودة إلى ملعب الحياة اليومية. لكن هناك أيضا زوّارا دائمين، وهؤلاء يبحثون عن شيء ما أكثر من ذلك ويطرحون أسئلة من نوع: ماذا عن الآن؟ ما الغرض من هذه العزلة؟ وما هي فائدتها؟
العزلة يمكن أن تحيي إحساسك بالمعنى الحقيقيّ للصُحبة. ويمكن أن تكون جزءا من سعيك الروحي نحو الكمال. المتصوّف الأنغلو أمريكي ثوماس ميرتون قال ذات مرّة: ليست هناك كارثة في الحياة الروحية اكبر من أن تكون مغمورا في عالم غير واقعي، لأن الحياة يحافظ عليها ويغذّيها بداخلنا علاقتنا الحيوية مع الحقائق خارجنا ومن فوقنا". العزلة، إن مورست كجزء من المسار الروحي، لا كمهرب من الفساد أو تعبيرا عن كراهية البشر، فإنها تؤتي ثمارا طيّبة.
وهذه هي نفس النقطة التي يشير إليها رالف ايمرسون ، صديق ثورو ومعلّمه، عندما يقول إن العزلة ضرورية للطريق الروحي، لأنها تعيد ربطنا بالواقع. العزلة عنده ليست حالة نرى فيها بشرا اقلّ، وإنّما تجربة نصبح بعدها مستعدّين لأن نصبح أكثر تعاطفا مع الآخرين وأكثر تفهّما للواقع.
كان كارل ماركس يرى الدين، واستطرادا الحياة الروحية بشكل عام، على انه أفيون الشعوب. لكنّ النقطة المهمّة هي الحاجة إلى توخّي الحذر من مخاطر تفكير الغابة. وكما هو الحال مع كلّ حكاية خيالية وقصّة رومانسية من القرون الوسطى، فإن البرّية تسكنها الشياطين. بعضهم فقط هم سكّان أصليّون في ذلك المكان. والباقون أدخلهم الحاجّ الانفرادي نفسه الذي يبدو أن بحثه كان نقيّا وحسن النيّة عندما بدأ سعيه.
إذا كانت العزلة لا تقودنا مرّة أخرى إلى المجتمع، فإنها يمكن أن تصبح طريق روحيّا مسدودا، أي فعلا من أفعال الانغماس الذاتيّ أو الهروب من الواقع، كما عرَف ذلك كلّ من ميرتون وايمرسون وثورو والمعلّمين الطاويين.
إننا قد نُعجب بحرّية القطط البرّية، وحتى قد نحسدها عليها، مع أنها لا تستطيع أن تمارس حرّيتها تلك سوى داخل حدود الغابة فقط. لكن طالما أن آخرين مستعبدون أو جائعون أو أسرى للأعراف الاجتماعية البالية، فإن من واجبنا أن نعود ونفعل كلّ ما في وسعنا من أجل تحريرهم وخلاصهم.
وبصرف النظر عن ما تقوم به، لا يمكن أن تكون حرّا حقّا في حين أن الآخرين مستعبدون. ولا يمكن أن تكون سعيدا فعلا بينما الآخرون يعانون ويتعذّبون. ومهما كان كوخك الانفرادي في البرّية أو الصحراء سامياً أو قريباً من الإله، فإنه جنّة عقيمة ومجدبة من الفراغ والعدم ما لم تكن على استعداد للعودة والمشاركة بنشاط في العالم الاجتماعي.
هنري ديفيد ثورو، ذلك الرمز الايقوني للتأمّل الانفرادي، عاد في نهاية المطاف من عزلته ليدعم قضيّة إلغاء الرقّ في أمريكا. ومن خلال ذلك الموقف، كان يرسي مبادئ العصيان المدني التي من شأنها أن تلهم في ما بعد كلا من غاندي ومارتن لوثر كنغ والحركات المناهضة للإمبريالية في جميع أنحاء العالم.
إن إحدى المفارقات الكبيرة في العزلة هي أنها لا توفّر لنا مهربا أو ملجئا أو سكناً يحافظ على سلامتنا من عالم شرّير وفاسد ولا أخلاقي، ولكنّها توفّر طريقا للعودة إلى ذلك العالم ودافعا جديدا لتغييره وجعله مكانا أفضل لعيش الإنسان.
وهناك من يفضّل أن يقضي أيّاما أو أسابيع في عزلة في الصحراء أو في جزيرة بعيدة مدفوعا بالرغبة في أن يعيش دون قيود أو قواعد تكبّله أو تلزمه بالتصرّف بطريقة محدّدة.
والحقيقة أن الإنسان لا يحتاج لأن يكون راهبا أو ناسكا كي يجد العزلة ويستمتع بها ويكتشف منافعها. وهناك من يرى بأن العزلة، خصوصا في هذه الأيّام، هي ضرورة ملحّة لأكثر من سبب. فهي تنتشلنا من سطوة الجموع وتعيدنا إلى ذواتنا الحقيقية لبعض الوقت. وفي العزلة فقط يمكن أن نجد الاستنارة الروحية ونكتشف قيمة الصمت ونستلهم أعظم الأفكار وأعمقها.
من أشهر من كتبوا عن العزلة من المفكّرين والفلاسفة كلّ من جون موير وسيغيرد اولسون ورالف ايمرسون وهنري ديفيد ثورو. وبعض هؤلاء اعتبروا العزلة فنّاً له طقوسه وقواعده.
ملاحظات ثورو عن تجربته مع العزلة تعبّر عن العديد من الأفكار الشائعة عن مزايا هذه الحالة. وقد شرح بعضها في كتابه والدن أو العيش في الغابات (1854)، الذي سرد فيه تجربته عن الفترة التي قضاها وحيدا في غابات ماساتشوستس. يقول: عندما قرّرت أن أجرّب العزلة، كنت آمل أن أتواصل مع عالم أوسع بكثير من عالم البشر، وبذلك أصبح أكثر قدرة على البقاء على قيد الحياة وأستعيد الإنسان الذي كنته قبل أن آتي إلى هذا الوجود".
وإحدى الخطوات الرئيسية لبلوغ الطاو أو "الطريق" في الفلسفة الطاويّة هي الذهاب إلى البرّية والبقاء فيها بانتظار ما قد يجده المرء هناك، سواءً كان ذلك من نوع غواية وعذابات القدّيس أنطونيوس أو حالة من حالات انفصال المعلّمين الطاويين عن الحياة.
عندما نكون لوحدنا في البرّية، فإننا نتخلّى عن الأعراف التي تحافظ على بقاء المجتمع في حالة عمل، كالتحرّر من الوقت على وجه الخصوص، وهو عامل في غاية الأهمّية. في البرّية أو الغابة، قد تتحدّث إلينا الحيوانات وتوجّهنا الطيور نحو الماء أو الضوء. وفيها أيضا، قد نجد أجسادنا الحقيقية كما هي، حيّة وغير قابلة للتجزئة عن بقيّة الخليقة. ولكن هذا لا يأتي إلا عندما نتحرّر، ليس من قيود الوقت والأعراف الاجتماعية فحسب، وإنما أيضا من الآمال والتوقّعات والمخاوف السرّية التي نصل إلى هناك وهي معنا.
بالنسبة للكثيرين، تُعتبر العزلة شيئا مغريا لأنها "حالة تطهير" تحقّق لنا المتعة البسيطة في أن نبتعد عن الحشود دون أن نشغل أنفسنا بتفاهات وفساد العالم من حولنا.
العزلة هي أن تبقى هادئا وبتمام عقلك في عالم عنيف وفوضوي. لكنّها أيضا وسيلة لفتح مساحة إبداعية، لإعطاء نفسك فرصة أن تكون هادئا بما يكفي لأن ترى وتسمع بشكل أوضح ما يدور حولك بعد ذلك.
الذين يقصدون البرّية أو الصحراء ليجدوا فيها فسحة مؤقّتة للتأمّل، يحرصون على العودة إلى ملعب الحياة اليومية. لكن هناك أيضا زوّارا دائمين، وهؤلاء يبحثون عن شيء ما أكثر من ذلك ويطرحون أسئلة من نوع: ماذا عن الآن؟ ما الغرض من هذه العزلة؟ وما هي فائدتها؟
العزلة يمكن أن تحيي إحساسك بالمعنى الحقيقيّ للصُحبة. ويمكن أن تكون جزءا من سعيك الروحي نحو الكمال. المتصوّف الأنغلو أمريكي ثوماس ميرتون قال ذات مرّة: ليست هناك كارثة في الحياة الروحية اكبر من أن تكون مغمورا في عالم غير واقعي، لأن الحياة يحافظ عليها ويغذّيها بداخلنا علاقتنا الحيوية مع الحقائق خارجنا ومن فوقنا". العزلة، إن مورست كجزء من المسار الروحي، لا كمهرب من الفساد أو تعبيرا عن كراهية البشر، فإنها تؤتي ثمارا طيّبة.
وهذه هي نفس النقطة التي يشير إليها رالف ايمرسون ، صديق ثورو ومعلّمه، عندما يقول إن العزلة ضرورية للطريق الروحي، لأنها تعيد ربطنا بالواقع. العزلة عنده ليست حالة نرى فيها بشرا اقلّ، وإنّما تجربة نصبح بعدها مستعدّين لأن نصبح أكثر تعاطفا مع الآخرين وأكثر تفهّما للواقع.
كان كارل ماركس يرى الدين، واستطرادا الحياة الروحية بشكل عام، على انه أفيون الشعوب. لكنّ النقطة المهمّة هي الحاجة إلى توخّي الحذر من مخاطر تفكير الغابة. وكما هو الحال مع كلّ حكاية خيالية وقصّة رومانسية من القرون الوسطى، فإن البرّية تسكنها الشياطين. بعضهم فقط هم سكّان أصليّون في ذلك المكان. والباقون أدخلهم الحاجّ الانفرادي نفسه الذي يبدو أن بحثه كان نقيّا وحسن النيّة عندما بدأ سعيه.
إذا كانت العزلة لا تقودنا مرّة أخرى إلى المجتمع، فإنها يمكن أن تصبح طريق روحيّا مسدودا، أي فعلا من أفعال الانغماس الذاتيّ أو الهروب من الواقع، كما عرَف ذلك كلّ من ميرتون وايمرسون وثورو والمعلّمين الطاويين.
إننا قد نُعجب بحرّية القطط البرّية، وحتى قد نحسدها عليها، مع أنها لا تستطيع أن تمارس حرّيتها تلك سوى داخل حدود الغابة فقط. لكن طالما أن آخرين مستعبدون أو جائعون أو أسرى للأعراف الاجتماعية البالية، فإن من واجبنا أن نعود ونفعل كلّ ما في وسعنا من أجل تحريرهم وخلاصهم.
وبصرف النظر عن ما تقوم به، لا يمكن أن تكون حرّا حقّا في حين أن الآخرين مستعبدون. ولا يمكن أن تكون سعيدا فعلا بينما الآخرون يعانون ويتعذّبون. ومهما كان كوخك الانفرادي في البرّية أو الصحراء سامياً أو قريباً من الإله، فإنه جنّة عقيمة ومجدبة من الفراغ والعدم ما لم تكن على استعداد للعودة والمشاركة بنشاط في العالم الاجتماعي.
هنري ديفيد ثورو، ذلك الرمز الايقوني للتأمّل الانفرادي، عاد في نهاية المطاف من عزلته ليدعم قضيّة إلغاء الرقّ في أمريكا. ومن خلال ذلك الموقف، كان يرسي مبادئ العصيان المدني التي من شأنها أن تلهم في ما بعد كلا من غاندي ومارتن لوثر كنغ والحركات المناهضة للإمبريالية في جميع أنحاء العالم.
إن إحدى المفارقات الكبيرة في العزلة هي أنها لا توفّر لنا مهربا أو ملجئا أو سكناً يحافظ على سلامتنا من عالم شرّير وفاسد ولا أخلاقي، ولكنّها توفّر طريقا للعودة إلى ذلك العالم ودافعا جديدا لتغييره وجعله مكانا أفضل لعيش الإنسان.