عندما التقيت ماركو روث للمرّة الأولى في جامعة ييل، بدا لي وجهه مألوفا بشكل غامض. وخُيّل إليّ انه لم يأت من الولايات المتّحدة، وإنما من موسكو أو فيلنيوس أو براغ أو أيّ مكان آخر ذي تاريخ مضنٍ ومشرّب بالشعور بالذنب. وبدا لي وهو يمشي كما لو انه محبوس في فضائه الخاصّ أو في كرة شفّافة من الجليد كتلك التي تظهر في لوحة هيرونيموس بوش عن الجنّة (أم ترى هل كانت الجحيم)؟!
أتذكّر لقائي مع ماركو وصديقه في احد شوارع نيوهيفن وبحثي عن شيء ما أقوله له أكثر من مجرّد التحيّة التقليدية. وبقدر ما أردت أن أبدأ معهما حديثا، لم يأت إلى ذهني شيء. كنت محرجة وكانت لغتي الإنجليزية ضعيفة. وبدا لي أن ماركو وصديقه لا يمكن الاقتراب منهما. لم يكن لديّ أيّة فكرة عن واقع حياتهما. وتذكّرت كلمة صاغتها آنا اخماتوفا: اللا لقاء.
بعد مرور حوالي خمسة عشر عاما على ذلك "اللا لقاء"، قرأت في إحدى الصحف أن ماركو روث بدأ في نشر مذكّراته بعنوان "العلماء: قصّة حبّ عائلية"، والتي يصف فيها كيف، وهو ما يزال في سنّ المراهقة، كان يراقب والده، وهو خبير في أمراض الدم كان قد أصيب بعدوى الايدز إثر خطأ طبّي فادح، وهو يموت. كان ماركو يحلم بأن يقتفي خطى والده فيصبح عالما ويجد علاجا لمرض والده، على الرغم من انه يعرف أن هذا كان مستحيلا.
ولأنني نشأت في روسيا، لم أكن قد عرفت أيّ شخص مصاب بفيروس الإيدز. في الواقع، عندما علمنا عن الايدز في أواخر الثمانينات، كان هناك شيء أسطوريّ تقريبا يحيط بهذا الموضوع بالنسبة لنا. فبالتأكيد هو فيروس غربي يدلّ على الانحلال، ومن المستبعد جدّا أن يوجد أو يحدث في بيئة مثل بيئتنا.
ومع ذلك عندما بدأت قراءة كتاب ماركو، ساورني شعور بأنني كنت أقرأ مذكّرات أحد أفراد أسرتنا. وتساءلت: ترى ما هو هذا الجسر الذي يربط صبيّا نشأ على الجانب الغربي من مانهاتن وشاهَدَ والده وهو يموت نتيجة مرض مع فتاة نشأت في عاصمة الاتحاد السوفياتي السابق؟ ولماذا بدا لي وجهه مألوفا عندما رأيته لأوّل مرّة في نيوهيفن؟ لو أنني تكلّمت معه في ذلك الوقت لكنت قد عرفت أننا كنّا معا واقعين تحت هاجس الموت.
عندما علمت لأوّل مرّة عن احتمال وجود حياة بعد الموت، تحدّثت عن ذلك بحماس مع والدي. سألته: من الذي لا يريد أن يؤمن بالحياة بعد الموت؟ فأجاب: من الممكن أيضا أن يعيش الإنسان دون أن يؤمن بفكرة الحياة السعيدة بعد الموت". وأضاف: هذا يعني أن تعيش حياتك كما لو أنها مأساة".
بالنسبة لفتاة مرحة لا يتجاوز عمرها التسع سنوات، بدت لي هذه النظرة حزينة بشكل لا يُصدّق. وفي مناسبة أخرى تساءلت متعجّبة: من يمكن أن يكون غبيّا بما يكفي لأن يقتل نفسه؟ فقاطعني أبي مرّة أخرى وقال: من المؤكّد أن هناك حالات يكون فيها الموت أفضل من الحياة".
ومع ذلك، كان والدي واسطة العقد في حلقة من الأصدقاء. كان يرتاد الحفلات بانتظام وكانت عنده دائما حكاية أو نكتة يرويها. وكان من عادته أن يتباهى انه استطاع أن يدمّر صحّته القويّة بكثرة الشراب. وفي أحاديثه مع والدته، أي جدّتي، اعتاد أن يمازحها بالقول أنها ستعيش أطول منه. وبالفعل عاش والده ووالدته معا بعد رحيله. فقد توفّي عندما كنت في العشرين من عمري.
كان ماركو في المدرسة عندما أصيب والده بفيروس نقص المناعة المكتسبة. ويفترض انه أصيب بالعدوى عن طريق حقنة ملوّثة. ذكرى تلك اللحظة التي اخبره فيها والده عن مرضه أفلتت منه. لكن قد يكون ذلك حدث عندما كان في الرابعة عشرة من عمره. ولمّا كانت تلك هي الأيّام الأولى للوباء، فقد تمّ إرسال ماركو إلى طبيب نفسيّ لتعريفه بكيفية التعامل مع مرض والده. وقد نصحه الطبيب بأن يُبقي على الأمر سرّا.
ولكوني الطفل الوحيد لعائلتي، مثل ماركو، أتذكّر انه انتابني يوما نفس الشعور الغامض. كان عمري ثلاث أو أربع سنوات، إن لم تخنّي الذاكرة، عندما تشاجر والداي حول كيفية تعليمي الحروف. وساورني وقتها شعور بأن هناك شيئا ما خطأ، وأنني لم اعد في مركز الكون بالنسبة لهما، وأن هناك قوى أخرى، لا استطيع تسميتها، في حالة اشتباك وتفاعل.
ومع ذلك، بمجرّد أن أحسست بهذه القوى وهي تسحب من أحببتهم بعيدا عنّي، أصبحت على قناعة أنه يمكنني التغلّب عليها. تمنّيت لو أصبحت أكثر علما أو ذكاءً أو مراعاة أو اهتماما أو محبّة، فحديثهما معي كان سيكون بالتأكيد أكثر تسلية من الشجار أو السباب. وقلت: عليّ فقط أن احتفظ بكفاحي سرّا لفترة من الوقت فقط طالما أنني لم انتصر بعد.
وكان سرّ ماركو روث أكثر فظاعة من ذلك بكثير. لو عرف الناس أن والده كان يحمل فيروس نقص المناعة، لربّما فقد والده مختبره ولأصبحت الأسرة تعاني الإقصاء والنبذ. ولأنه كان بحاجة لأن يحتفظ بالسرّ، مرّ ماركو بأوّل إحساس له بالاغتراب. كان يقف بجانب جسر أفينيون المكسور وينظر إلى الناس أسفل الجسر وهم يستحمّون في سعادة والى الصيّادين وهم منهمكون في عملهم.
كان ماركو يحمل سرّه معه مثل المسيح. وفي وقت لاحق، سأله صديق في الجامعة: لماذا تريد أن تعذّب نفسك بهذا القرف الاوديبي الاستبدادي؟ فقال: ربّما كان ذلك نتيجة الشعور بالذنب. لا أستطيع الهروب من رغبة الخربشة في هامش وعيي لأكتب أنني فشلت في إنقاذ والدي".
كانت تخالجه رغبة في الاختفاء من العالم. وبدلا من الذهاب إلى الكلّية أصبح يفضّل الانتقال إلى نوع من المجتمع الزراعي. وفي رحلة إلى المكسيك، فاجأه نوع من الإحساس بالعدم. "أحسست كما لو أنني سبّورة بيضاء مُحيت خطوطها لكنها ما تزال تحمل لطخات غير مقروءة لكثرة ما كُتب عليها".
وأنا اعرف تماما تلك الرغبة وذلك الشعور. كنت أحمله معي من روسيا إلى ألمانيا فالولايات المتحدة فالصين وتايلاند وهولندا وسويسرا، ومرّة أخرى إلى الولايات المتحدة. جدّتي، الفلاحة الروسية البسيطة، علّمتني أن الحبّ بلا مقابل هو الوسيلة الأفضل لندرك أن هناك دائما أملا، بل وحتى أملا بإنقاذ من نحبّ من الدمار.
أتذكّر لقائي مع ماركو وصديقه في احد شوارع نيوهيفن وبحثي عن شيء ما أقوله له أكثر من مجرّد التحيّة التقليدية. وبقدر ما أردت أن أبدأ معهما حديثا، لم يأت إلى ذهني شيء. كنت محرجة وكانت لغتي الإنجليزية ضعيفة. وبدا لي أن ماركو وصديقه لا يمكن الاقتراب منهما. لم يكن لديّ أيّة فكرة عن واقع حياتهما. وتذكّرت كلمة صاغتها آنا اخماتوفا: اللا لقاء.
بعد مرور حوالي خمسة عشر عاما على ذلك "اللا لقاء"، قرأت في إحدى الصحف أن ماركو روث بدأ في نشر مذكّراته بعنوان "العلماء: قصّة حبّ عائلية"، والتي يصف فيها كيف، وهو ما يزال في سنّ المراهقة، كان يراقب والده، وهو خبير في أمراض الدم كان قد أصيب بعدوى الايدز إثر خطأ طبّي فادح، وهو يموت. كان ماركو يحلم بأن يقتفي خطى والده فيصبح عالما ويجد علاجا لمرض والده، على الرغم من انه يعرف أن هذا كان مستحيلا.
ولأنني نشأت في روسيا، لم أكن قد عرفت أيّ شخص مصاب بفيروس الإيدز. في الواقع، عندما علمنا عن الايدز في أواخر الثمانينات، كان هناك شيء أسطوريّ تقريبا يحيط بهذا الموضوع بالنسبة لنا. فبالتأكيد هو فيروس غربي يدلّ على الانحلال، ومن المستبعد جدّا أن يوجد أو يحدث في بيئة مثل بيئتنا.
ومع ذلك عندما بدأت قراءة كتاب ماركو، ساورني شعور بأنني كنت أقرأ مذكّرات أحد أفراد أسرتنا. وتساءلت: ترى ما هو هذا الجسر الذي يربط صبيّا نشأ على الجانب الغربي من مانهاتن وشاهَدَ والده وهو يموت نتيجة مرض مع فتاة نشأت في عاصمة الاتحاد السوفياتي السابق؟ ولماذا بدا لي وجهه مألوفا عندما رأيته لأوّل مرّة في نيوهيفن؟ لو أنني تكلّمت معه في ذلك الوقت لكنت قد عرفت أننا كنّا معا واقعين تحت هاجس الموت.
عندما علمت لأوّل مرّة عن احتمال وجود حياة بعد الموت، تحدّثت عن ذلك بحماس مع والدي. سألته: من الذي لا يريد أن يؤمن بالحياة بعد الموت؟ فأجاب: من الممكن أيضا أن يعيش الإنسان دون أن يؤمن بفكرة الحياة السعيدة بعد الموت". وأضاف: هذا يعني أن تعيش حياتك كما لو أنها مأساة".
بالنسبة لفتاة مرحة لا يتجاوز عمرها التسع سنوات، بدت لي هذه النظرة حزينة بشكل لا يُصدّق. وفي مناسبة أخرى تساءلت متعجّبة: من يمكن أن يكون غبيّا بما يكفي لأن يقتل نفسه؟ فقاطعني أبي مرّة أخرى وقال: من المؤكّد أن هناك حالات يكون فيها الموت أفضل من الحياة".
ومع ذلك، كان والدي واسطة العقد في حلقة من الأصدقاء. كان يرتاد الحفلات بانتظام وكانت عنده دائما حكاية أو نكتة يرويها. وكان من عادته أن يتباهى انه استطاع أن يدمّر صحّته القويّة بكثرة الشراب. وفي أحاديثه مع والدته، أي جدّتي، اعتاد أن يمازحها بالقول أنها ستعيش أطول منه. وبالفعل عاش والده ووالدته معا بعد رحيله. فقد توفّي عندما كنت في العشرين من عمري.
كان ماركو في المدرسة عندما أصيب والده بفيروس نقص المناعة المكتسبة. ويفترض انه أصيب بالعدوى عن طريق حقنة ملوّثة. ذكرى تلك اللحظة التي اخبره فيها والده عن مرضه أفلتت منه. لكن قد يكون ذلك حدث عندما كان في الرابعة عشرة من عمره. ولمّا كانت تلك هي الأيّام الأولى للوباء، فقد تمّ إرسال ماركو إلى طبيب نفسيّ لتعريفه بكيفية التعامل مع مرض والده. وقد نصحه الطبيب بأن يُبقي على الأمر سرّا.
ولكوني الطفل الوحيد لعائلتي، مثل ماركو، أتذكّر انه انتابني يوما نفس الشعور الغامض. كان عمري ثلاث أو أربع سنوات، إن لم تخنّي الذاكرة، عندما تشاجر والداي حول كيفية تعليمي الحروف. وساورني وقتها شعور بأن هناك شيئا ما خطأ، وأنني لم اعد في مركز الكون بالنسبة لهما، وأن هناك قوى أخرى، لا استطيع تسميتها، في حالة اشتباك وتفاعل.
ومع ذلك، بمجرّد أن أحسست بهذه القوى وهي تسحب من أحببتهم بعيدا عنّي، أصبحت على قناعة أنه يمكنني التغلّب عليها. تمنّيت لو أصبحت أكثر علما أو ذكاءً أو مراعاة أو اهتماما أو محبّة، فحديثهما معي كان سيكون بالتأكيد أكثر تسلية من الشجار أو السباب. وقلت: عليّ فقط أن احتفظ بكفاحي سرّا لفترة من الوقت فقط طالما أنني لم انتصر بعد.
وكان سرّ ماركو روث أكثر فظاعة من ذلك بكثير. لو عرف الناس أن والده كان يحمل فيروس نقص المناعة، لربّما فقد والده مختبره ولأصبحت الأسرة تعاني الإقصاء والنبذ. ولأنه كان بحاجة لأن يحتفظ بالسرّ، مرّ ماركو بأوّل إحساس له بالاغتراب. كان يقف بجانب جسر أفينيون المكسور وينظر إلى الناس أسفل الجسر وهم يستحمّون في سعادة والى الصيّادين وهم منهمكون في عملهم.
كان ماركو يحمل سرّه معه مثل المسيح. وفي وقت لاحق، سأله صديق في الجامعة: لماذا تريد أن تعذّب نفسك بهذا القرف الاوديبي الاستبدادي؟ فقال: ربّما كان ذلك نتيجة الشعور بالذنب. لا أستطيع الهروب من رغبة الخربشة في هامش وعيي لأكتب أنني فشلت في إنقاذ والدي".
كانت تخالجه رغبة في الاختفاء من العالم. وبدلا من الذهاب إلى الكلّية أصبح يفضّل الانتقال إلى نوع من المجتمع الزراعي. وفي رحلة إلى المكسيك، فاجأه نوع من الإحساس بالعدم. "أحسست كما لو أنني سبّورة بيضاء مُحيت خطوطها لكنها ما تزال تحمل لطخات غير مقروءة لكثرة ما كُتب عليها".
وأنا اعرف تماما تلك الرغبة وذلك الشعور. كنت أحمله معي من روسيا إلى ألمانيا فالولايات المتحدة فالصين وتايلاند وهولندا وسويسرا، ومرّة أخرى إلى الولايات المتحدة. جدّتي، الفلاحة الروسية البسيطة، علّمتني أن الحبّ بلا مقابل هو الوسيلة الأفضل لندرك أن هناك دائما أملا، بل وحتى أملا بإنقاذ من نحبّ من الدمار.
وفي محاولتي إنقاذ والدي، لم أكن بأفضل من ماركو وهو يسعى لإنقاذ والده. أبي لم يكن أبدا يعتني بصحّته ولم يتوقّف مطلقا عن الشراب. وعندما توفّي فجأة، كنت خارج البلاد. لا أحد كان يملك الشجاعة ليقول لي انه مات بالفعل عندما اتصلوا بي هاتفيّا. أخذت الطائرة وذهبت إلى موسكو على أمل أن أصل إلى هناك وقد تعافى. وأتذكّر صلواتي في الطائرة، كما أتذكّر إخبارهم إيّاي، بعد الهبوط، أنه كان قد مات منذ يومين.
إحدى المرّات النادرة التي رأى فيها ماركو والده وهو يبكي كانت عندما دخل إلى غرفته ووجده يستمع إلى مقطع من إحدى أوبرات هنري بورسيل: عندما أوضع في التراب، أصلّي أن لا تتسبّب خطاياي في أيّ متاعب لكم. تذكّروني لكن لا تنشغلوا بمصيري". يقول روث: كانت هذه أوامره أيضا. وأنا أيضا سأطيعه".
"هذا مجرّد حلم مزعج". قلت لنفسي وأنا اشهد جنازة والدي. "يجب أن تستمرّ حياتي". لم اعش في روسيا أبدا ثانية. بعد بضعة أشهر من فقدان والدي، وقعت في الحبّ، وكان حبّا بلا مقابل.
بعد النهاية المرعبة لحياة والده، سيتعيّن على ماركو روث أن يبحث عن آباء جدد وعن أماكن جديدة. سوف يدرس ماركو مع جاك دريدا في باريس وسيُكلّف بتقديم عرض عن كتاب جوناه المقدّس. سيكون هناك أيضا أحاديث عن إمكانيات لم تتحقق، تلك الاحتمالات التي تطاردنا طوال حياتنا ولا تتحقّق أبدا.
عندما أتذكّر لقاءنا في ذلك الشارع في نيوهيفن، يتولّد لديّ شعور غامض: كان يمكن أن نتوقّف ونجري حديثا. كان يمكننا أن نتحدّث عن بروست وفرويد. كان يمكنني تقديم ماركو وصديقه لأصدقائي.
في مذكّراتها بعنوان بارك أفنيو 1185 ، والتي نشرتها بعد بضع سنوات من وفاة شقيقها، أشارت عمّة ماركو الكاتبة آن ريتشاردسون روفي إلى أن والده ربّما كان يخفي ميولا مثلية وأن حكاية الحقنة الملوّثة لم تكن سوى ضرب من الخيال. وتحت تأثير إصابته بالصدمة والاضطراب ممّا كتبته عمّته، ولأنه كان يتمنّى أن يكون والده أصيب بمرض الإيدز بطريقة أكثر مثاليّة، قرّر ماركو أن يعيد قراءة الكتب التي سبق لوالده أن أعطاها له، بحثا عن أيّ "رسائل مشفّرة".
وكانت تلك فكرة محفوفة بالمخاطر، إذ قد لا يكون هناك رسائل أبدا. من بين تلك الكتب التي اقترح عليه والده قراءتها تونيو كروغر لـ توماس مان ومصير الأجساد لـ سامويل بتلر، بالإضافة إلى كتابين روسيّين: الأوّل آباء وأبناء والثاني اوبلوموف لـ ايفان غونتشاروف. وأذكر أنني قرأت الكتابين الأخيرين وأنا طفلة. كما أتذكّر الشفقة التي أحسست بها تجاه بطليهما المنكوبَين: بازاروف الضعيف والفخور، وأوبلوموف المعطاء الذي كان يشعر بالخزي من العيش في هذا العالم.
ماركو يفكّر في احتمال أن يكون والده قد رأى نفسه في اوبلوموف، بالنظر إلى انه كان يحمل معه نفس الشعور "بعدم كفاية العالم" وبأنه "ابن غير محبوب من زواج كريه"، على نحو ما صوّرته عمّته عن طفولة شقيقها.
وبينما كان ماركو يستعدّ لمواجهة مزاعم عمّته، بدأ في مقابلة أصدقاء والده كي يعرف منهم الحقيقة حول حياته الجنسية. وبهذا أصبح هو نفسه عالما من نوع مختلف. أصبح مخبرا وكاتب سيرة وطبيبا نفسانيّا لحالات ما بعد الوفاة.
أتذكّر أنا كيف كان والدي يجلس على حافّة سريري ويشتكي مازحا من والده، أي جدّي. قلت له يوما: أنت لا تحبّه؟ فأجاب: أنا أحبّه. هو الذي لم يكن يحبّني، وتلك كانت المشكلة".
الطفل الذي لم ينعم بالحبّ يظلّ طفلا حتّى عندما يكبر. وإذا تصادف انه أبوك فأنت ملزم بأن تحبّه كما لو انه ابنك. كان أبي مفتونا بالنكات عن الموت وبحضور الجنازات وبرغبة لا هوادة فيها في تدمير نفسه بالشراب على الرغم من كبده المريضة. كان ذلك أمرا مخيفا وغير مفهوم. وربّما أنني، وعلى عكس ماركو روث، لم يكن لديّ الشجاعة لأن أحاول أن افهم ذلك.
اضطرّ ماركو، تحت تأثير كتاب عمّته، وبكلماته هو، أن "ينظر في إمكانية أنه، أيّا ما كان والده يسعى إليه أو يطلبه، فإنه أراد أن يموت وأن يصيبه مكروه". كان يرغب رغبة ملحّة في المعاناة التي لا يشفيها مجّرد تغيير في الحالات أو المواقف الاجتماعية. سألت نفسي وأنا اقرأ كتابه: هل كان أبي يريد في سرّه أن يموت؟ وإذا كان حبّي لم يكن كافيا لمنعه، فما قيمة ذلك الحبّ إذن؟!
أفتح كتاب آن روفي وألقي نظرة على الصور. الصغير يوجين روث "والد ماركو" بعينين واسعتين وشفتين ناعمتين. الصبيّ عند البحيرة. في بركة السباحة. الصبيّ ذو المشابك. الصبيّ الذي أعطي نفس اسم والده الأنانيّ. "سرقوا منه هويّته حتى قبل أن تكون له هويّة". الرجل الذي تبتسم عيناه وراء نظارات كبيرة. الرجل المريض الذي يختفي وجهه في الظلّ، لكن ما يزال هناك على شفتيه اثر ابتسامة رقيقة. هل هي تعبير عن اعتكاف، أو ربّما احتقار؟
جدّتي، التي عاشت بعد ابنها عشر سنوات، صنعت له في غرفتها مذبحا صغيرا مع زهور طازجة. كانت تجلس دائما أمام صورته. وعندما ماتت قال لي صديق لم يكن يعرفها: حسنا، كانت لها حياتها الجميلة". في الواقع، كانت حياتها أتعس حياة. كان من باب الإنصاف بعد كلّ هذه الحَيَوات المرهقة والوحيدة والبائسة أن نتلقّى شيئا أفضل من الموت".
قبيل موته، طلب والد ماركو أن لا تقام له صلاة وأن لا يُتلى على قبره دعاء. "الربّ الذي لا وجود له لم يكن رحوما كما انه لا يستحقّ التقديس ولا الثناء".
"العلماء" قصّة مليئة بالاعترافات والحكايات العاطفية عن الصراع والمظالم القديمة. وهي تشرح كيف نتعلّم من والدينا وكيف نفهم رغباتنا ورغبات الآخرين وكيف أن التربية، بتركيزها المكثّف على حياة العقل، يمكن أن تحرّر الإنسان وأن تعيقه في نفس الوقت. كما تعلّمنا القصّة أن كلّ الأطفال باحثون، وهم ينجحون عندما يتمكّنون من تبديد أوهام وخيالات الطفولة عن آبائهم ويبدءون في النظر إليهم كبشر لهم عيوبهم ونقائصهم. "مترجم".
إحدى المرّات النادرة التي رأى فيها ماركو والده وهو يبكي كانت عندما دخل إلى غرفته ووجده يستمع إلى مقطع من إحدى أوبرات هنري بورسيل: عندما أوضع في التراب، أصلّي أن لا تتسبّب خطاياي في أيّ متاعب لكم. تذكّروني لكن لا تنشغلوا بمصيري". يقول روث: كانت هذه أوامره أيضا. وأنا أيضا سأطيعه".
"هذا مجرّد حلم مزعج". قلت لنفسي وأنا اشهد جنازة والدي. "يجب أن تستمرّ حياتي". لم اعش في روسيا أبدا ثانية. بعد بضعة أشهر من فقدان والدي، وقعت في الحبّ، وكان حبّا بلا مقابل.
بعد النهاية المرعبة لحياة والده، سيتعيّن على ماركو روث أن يبحث عن آباء جدد وعن أماكن جديدة. سوف يدرس ماركو مع جاك دريدا في باريس وسيُكلّف بتقديم عرض عن كتاب جوناه المقدّس. سيكون هناك أيضا أحاديث عن إمكانيات لم تتحقق، تلك الاحتمالات التي تطاردنا طوال حياتنا ولا تتحقّق أبدا.
عندما أتذكّر لقاءنا في ذلك الشارع في نيوهيفن، يتولّد لديّ شعور غامض: كان يمكن أن نتوقّف ونجري حديثا. كان يمكننا أن نتحدّث عن بروست وفرويد. كان يمكنني تقديم ماركو وصديقه لأصدقائي.
في مذكّراتها بعنوان بارك أفنيو 1185 ، والتي نشرتها بعد بضع سنوات من وفاة شقيقها، أشارت عمّة ماركو الكاتبة آن ريتشاردسون روفي إلى أن والده ربّما كان يخفي ميولا مثلية وأن حكاية الحقنة الملوّثة لم تكن سوى ضرب من الخيال. وتحت تأثير إصابته بالصدمة والاضطراب ممّا كتبته عمّته، ولأنه كان يتمنّى أن يكون والده أصيب بمرض الإيدز بطريقة أكثر مثاليّة، قرّر ماركو أن يعيد قراءة الكتب التي سبق لوالده أن أعطاها له، بحثا عن أيّ "رسائل مشفّرة".
وكانت تلك فكرة محفوفة بالمخاطر، إذ قد لا يكون هناك رسائل أبدا. من بين تلك الكتب التي اقترح عليه والده قراءتها تونيو كروغر لـ توماس مان ومصير الأجساد لـ سامويل بتلر، بالإضافة إلى كتابين روسيّين: الأوّل آباء وأبناء والثاني اوبلوموف لـ ايفان غونتشاروف. وأذكر أنني قرأت الكتابين الأخيرين وأنا طفلة. كما أتذكّر الشفقة التي أحسست بها تجاه بطليهما المنكوبَين: بازاروف الضعيف والفخور، وأوبلوموف المعطاء الذي كان يشعر بالخزي من العيش في هذا العالم.
ماركو يفكّر في احتمال أن يكون والده قد رأى نفسه في اوبلوموف، بالنظر إلى انه كان يحمل معه نفس الشعور "بعدم كفاية العالم" وبأنه "ابن غير محبوب من زواج كريه"، على نحو ما صوّرته عمّته عن طفولة شقيقها.
وبينما كان ماركو يستعدّ لمواجهة مزاعم عمّته، بدأ في مقابلة أصدقاء والده كي يعرف منهم الحقيقة حول حياته الجنسية. وبهذا أصبح هو نفسه عالما من نوع مختلف. أصبح مخبرا وكاتب سيرة وطبيبا نفسانيّا لحالات ما بعد الوفاة.
أتذكّر أنا كيف كان والدي يجلس على حافّة سريري ويشتكي مازحا من والده، أي جدّي. قلت له يوما: أنت لا تحبّه؟ فأجاب: أنا أحبّه. هو الذي لم يكن يحبّني، وتلك كانت المشكلة".
الطفل الذي لم ينعم بالحبّ يظلّ طفلا حتّى عندما يكبر. وإذا تصادف انه أبوك فأنت ملزم بأن تحبّه كما لو انه ابنك. كان أبي مفتونا بالنكات عن الموت وبحضور الجنازات وبرغبة لا هوادة فيها في تدمير نفسه بالشراب على الرغم من كبده المريضة. كان ذلك أمرا مخيفا وغير مفهوم. وربّما أنني، وعلى عكس ماركو روث، لم يكن لديّ الشجاعة لأن أحاول أن افهم ذلك.
اضطرّ ماركو، تحت تأثير كتاب عمّته، وبكلماته هو، أن "ينظر في إمكانية أنه، أيّا ما كان والده يسعى إليه أو يطلبه، فإنه أراد أن يموت وأن يصيبه مكروه". كان يرغب رغبة ملحّة في المعاناة التي لا يشفيها مجّرد تغيير في الحالات أو المواقف الاجتماعية. سألت نفسي وأنا اقرأ كتابه: هل كان أبي يريد في سرّه أن يموت؟ وإذا كان حبّي لم يكن كافيا لمنعه، فما قيمة ذلك الحبّ إذن؟!
أفتح كتاب آن روفي وألقي نظرة على الصور. الصغير يوجين روث "والد ماركو" بعينين واسعتين وشفتين ناعمتين. الصبيّ عند البحيرة. في بركة السباحة. الصبيّ ذو المشابك. الصبيّ الذي أعطي نفس اسم والده الأنانيّ. "سرقوا منه هويّته حتى قبل أن تكون له هويّة". الرجل الذي تبتسم عيناه وراء نظارات كبيرة. الرجل المريض الذي يختفي وجهه في الظلّ، لكن ما يزال هناك على شفتيه اثر ابتسامة رقيقة. هل هي تعبير عن اعتكاف، أو ربّما احتقار؟
جدّتي، التي عاشت بعد ابنها عشر سنوات، صنعت له في غرفتها مذبحا صغيرا مع زهور طازجة. كانت تجلس دائما أمام صورته. وعندما ماتت قال لي صديق لم يكن يعرفها: حسنا، كانت لها حياتها الجميلة". في الواقع، كانت حياتها أتعس حياة. كان من باب الإنصاف بعد كلّ هذه الحَيَوات المرهقة والوحيدة والبائسة أن نتلقّى شيئا أفضل من الموت".
قبيل موته، طلب والد ماركو أن لا تقام له صلاة وأن لا يُتلى على قبره دعاء. "الربّ الذي لا وجود له لم يكن رحوما كما انه لا يستحقّ التقديس ولا الثناء".
"العلماء" قصّة مليئة بالاعترافات والحكايات العاطفية عن الصراع والمظالم القديمة. وهي تشرح كيف نتعلّم من والدينا وكيف نفهم رغباتنا ورغبات الآخرين وكيف أن التربية، بتركيزها المكثّف على حياة العقل، يمكن أن تحرّر الإنسان وأن تعيقه في نفس الوقت. كما تعلّمنا القصّة أن كلّ الأطفال باحثون، وهم ينجحون عندما يتمكّنون من تبديد أوهام وخيالات الطفولة عن آبائهم ويبدءون في النظر إليهم كبشر لهم عيوبهم ونقائصهم. "مترجم".