:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الاثنين، يناير 16، 2017

مدن في البال

الحديث هذه المرّة عن بيرغامون، مدينة ضائعة في الزمان والمكان، تشبه طروادة من حيث أنها كانت في الماضي تتبع اليونان لكنها اليوم تقع ضمن أراضي تركيا. لكن لماذا بيرغامون مهمّة من الناحية التاريخية والثقافية؟ الأسباب كثيرة. أوّلها أن هذه المدينة تؤوي آثارا بالغة الروعة تعود إلى الحقبة الهيلنستية.
والسبب الثاني هو أن بيرغامون، وأكثر من كلّ المدن المشهورة الأخرى من تلك الحقبة، مثل أنطاكية والاسكندرية وسيراقوسا، ظلت لوحدها شاهدة على أمجاد ذلك الماضي البعيد، رغم أنها اليوم تبدو مهجورة تقريبا إلا من جموع السيّاح الذين يقصدونها من وقت لآخر لرؤية صروحها وتذكّر تاريخها.
وهناك سبب ثالث لا يقل أهميّة عمّا سبق يتمثّل في الطريقة التي ظهرت فيها هذه المدينة إلى الوجود. كان الأمر أشبه ما يكون بلعبة العروش.
فعندما مات الاسكندر المقدوني في بابل عام 323 قبل الميلاد، وكان ما يزال في بداية الثلاثينات من عمره، ترك وراءه مملكة شاسعة تمتدّ مساحتها فوق أراضي ثلاث قارّات، لكن بلا وريث للعرش.
وكان استيلاء الاسكندر على بلاد فارس قد أكسبه ثروة هائلة وأراضي واسعة، لكن فجأة تبدّد كلّ ذلك. ففي العقود التالية تنافس جنرالاته وأبناؤهم بشراسة على توزيع تركته.
كان كلّ واحد منهم يريد أن يكون الخليفة الأوحد للاسكندر. وكانت تلك بداية ما سُمّي بالعصر الهيلنستي الذي استمرّ من وفاة الاسكندر وحتى انتحار الملكة المصرية كليوباترا عام ثلاثين قبل الميلاد.
لكن في أوائل القرن الثالث قبل الميلاد، ظهر نظام عالميّ جديد. وأصبح العالم يتألّف من ثلاث سلالات، كلّ واحدة تحكم مملكة عظيمة: البطالمة في مصر، والسيلوقيون في سوريا، والانتيغونيون في مقدونيا. وقد سيطرت هذه القوى الثلاث على منطقة شرقيّ المتوسط حتى وصول الرومان.
وكلّ تلك الممالك تضاءلت أهميّتها مع مرور الزمن واختفت آثارها ونسيها الناس أو كادوا. لكننا الآن نعرف أشياء كثيرة عن مدينة بيرغامون التي كانت عاصمة لامعة لواحدة من أهمّ الممالك الهيلنستية التي ظهرت في تلك الفترة. والفضل في ذلك يعود لعمليات الحفر التي ظلّ الألمان يقومون بها في هذه المدينة منذ أواسط القرن التاسع عشر والتي كشفت عن الكثير من آثارها وتاريخها.
تقع بيرغامون على بعد خمسة عشر ميلا من الساحل الشماليّ الغربيّ لآسيا الوسطى، وكانت محاطة في الأزمنة القديمة بغابة سنديان. وقد ظهر اسم المدينة أوّلا باعتبارها كانت ملجأ لـ "بارسين" زوجة الجنرال الفارسيّ المهزوم التي أنجب منها الاسكندر ابنا اسماه هيركليس. لكن بعد موت الاسكندر قرّر احد جنرالاته أن يخزّن غنائمه الحربية، أي حوالي تسعة آلاف قطعة من الفضّة، في إحدى القلاع هناك.
وكان لتلك الثروة وللدهاء والمناورات السياسية الفضل في أن الوصيّ الانتهازي الذي تُركت له مهمّة التحكّم في ذلك الكنز، واسمه فيليتيروس، استطاع في النهاية أن يستخدمه لتأسيس سلالة خاصّة بعائلته اسماها سلالة اتاليدس أو الأتاليين على اسم والده.

وقد قلّلت السلالة الجديدة من اعتمادها على السيلوقيين وأصبحت قوّة عالمية على طريقتها. ولكي يكرّس الأتاليون صورتهم، قاموا بتحويل هذه المدينة إلى عاصمة للعلم والثقافة وصمّموها بحيث تنافس أثينا الكلاسيكية في ذروة مجدها في القرن الخامس قبل الميلاد.
وكانت هذه الرسالة واضحة من خلال التمثال الرخاميّ الفخم لأثينا الذي استُعيد من مكتبة بيرغامون وهو الآن معروض في نيويورك. وقد نُحت التمثال عام 170 قبل الميلاد على غرار تمثال أثينا بارثنيوس المشهور الذي نحته العبقريّ الإغريقيّ فيدياس والذي كان يقوم ذات زمن في الأكروبول الأثيني.
وكانت مكتبة بيرغامون العظيمة عنصرا واحدا في برنامج البناء الرائع الذي بدأه الاتاليون والذي تضمّن أيضا بناء مسرح ونادٍ رياضي وتجديد معابد المدينة. وقد زيّنوا قصورهم باللوحات والمنحوتات الكلاسيكية واستخدموا احد أجود أنواع السيراميك أصبحت بيرغامون مشهورة به.
كما انشئوا صرحا عظيما تخليدا لانتصاراتهم على الغالاتيين، وهم قبيلة من مرتزقة الكلت الأوربيّين الذين كانوا يعيثون نهبا وتخريبا في أراضي آسيا الصغرى طوال أعوام. انتصار الأتاليين الحاسم على الكلت هو الذي اكسب هذه السلالة مكانة ملوكية. كما انه شكّل علامة على تأثير ورخاء بيرغامون العظيم.
المذبح الكبير في بيرغامون كان يرمز لفخامة الأتاليين، وكانت الرسالة من ورائه واضحة، وهي أن آلهة الأوليمب كانت منحازة للأتاليين الذين كانوا يعتبرون أنفسهم الأثينيين الجدد بينما العمالقة كانوا أعداءهم المهزومين. وبمعنى ما كان المذبح هو القوّة الغاشمة المتخفيّة على هيئة فنّ جميل. وهذا التمثال موجود اليوم في المتروبوليتان وهو يمثّل خلاصة الوفرة والطموح في الفنّ الهيلنستي.
لكن رغم كل تلك السلطة والفخامة التي تمتّعت بها بيرغامون إلا أنها لم تدعم بروزها السياسي إلى الأبد. فآخر ملوك سلالة الأتاليين كان شخصا نباتيّا وغريب الأطوار، مع ميل للنحت والفنون. وقد مات بضربة شمس عام 133 قبل الميلاد بينما كان يشتغل على تمثال لوالدته المتوفّاة.
وعلى غير المتوقّع، أورث هذا الملك امبراطوريته لجمهورية روما، وهي خطوة مدهشة ربّما تقصّد من ورائها منع الرومان من نهب وتدمير بيرغامون، وهم مَن عُرفوا ببلطجتهم وبسمعتهم السيّئة في نهب المراكز الهيلنستية اللامعة.
لقد استطاع الأتاليون أن يُنزلوا الهزيمة بكلّ أعدائهم القدامى في اليونان واعتبروا أنفسهم منقذين للروح اليونانية وكانوا فخورين بتمسّكهم بالتقاليد الهيلنستية.
لكن روما كانت أقوى منهم بكثير واستطاعت أخيرا بسط هيمنتها على مملكتهم ومن ثم امتصاص الحياة من عالَم الإغريق كلّه وتجيير كلّ شيء فيه لمصلحتها. وفي نهاية الأمر احكم الرومان قبضتهم على كلّ العالم الغربيّ على مدى ثلاثة قرون. لكن لم يكن بمقدورهم فعل ذلك لو لم يستوعبوا هذا القدر الضخم من العلوم والثروات من شرق اليونان.
واليوم لم يبقَ من بيرغامون القديمة سوى أعمدة وهياكل مبانيها وصروحها الفخمة التي تشي بحضارة سادت ذات زمن ثم بادت بفعل الصراعات والحروب والأطماع السياسية والتنافس على مراكز النفوذ والسلطة.

Credits
bbc.com