:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الأحد، أبريل 02، 2017

آكلو اللوتس


يذكر هوميروس في الاوديسّا أن اوديسيوس ورجاله، بعد مغادرتهم أرض ايسماروس، فوجئوا بعواصف بحرية عاتية عطّلت رحلتهم لأيّام. ثم لاحت لهم من بعيد ارض جزيرة غريبة.
وعندما وصلوا إلى شاطئ الجزيرة، أرسل اوديسيوس بعض رجاله ليستكشفوا ما بداخلها. ووجدوا هناك جنساً رقيقاً من البشر يُدعون "آكلي اللوتس" ويتغذّون على نوع من الفاكهة الزهرية.
وقد عرض سكّان الجزيرة على البحّارة أن يأكلوا شيئا من تلك الفاكهة. ولمّا تناولوها أصيبوا بالدوار ونسوا أن يعودوا إلى سفينتهم.
وعندما تباطأ اوديسيوس عودتهم، ذهب ليبحث عنهم ووجدهم في حال من الخُدر والنسيان. ثم قام بسحبهم بالقوّة إلى السفينة.
ورغم أن الجزيرة ممتعة وسكّانها طيّبون ومضيافون، إلا أن اوديسيوس طلب من بحّارته الابتعاد عنها بسرعة خوفا من أن ينجذبوا إلى فاكهتها المُسكرة. ثم قام بتقييدهم في السفينة إلى أن زال عنهم تأثير اللوتس الذي أكلوه.
هوميروس يذكر أن كلّ شخص يتناول تلك الفاكهة التي لها طعم العسل سرعان ما يفقد رغبته في مغادرة الجزيرة أو العودة من حيث أتى.
وكانت رغبة البحّارة هي أن يبقوا هناك مع سكّان الجزيرة يأكلون من فاكهتهم وينسون أمر العودة إلى وطنهم. يقول اوديسيوس واصفا تأثير اللوتس العجيب على رجاله: كانوا يبكون عندما كنت ادفعهم إلى السفينة دفعاً".
أرض آكلي اللوتس تبدو أشبه ما تكون بجنّة أسطورية. المشكلة انك عندما تصل إليها فلن تستطيع مغادرتها أبدا. وبعد أن تتذوقّ اللوتس، لا يمكن أن تأكل أيّ شيء آخر.
وأرض اللوتس هي عقبة أخرى يتعيّن على بطل الاوديسّا أن يجتازها في طريق عودته إلى الوطن، تماما مثل جزيرة كاليبسو وفتنة السيرانات الجميلات.
من السهل أن تبقى مع آكلي اللوتس وتعيش بينهم بسعادة وتصرف النظر عن مواصلة رحلة عودتك إلى الوطن ورؤية عائلتك، وهذا ما كان يتخوّف منه اوديسيوس المتطلّع إلى بلوغ وطنه في إيثيكا ورؤية زوجته وولده.
وعندما نتأمّل في تفاصيل القصّة، يمكن لنا أن نفترض أن اللوتس هو نوع من المخدّر. والمخدّر من طبيعته انه يغيّم العقل ولا يصفّيه. وهذا يفسّر شعور آكلي اللوتس بالدوار. والمعنى هنا يكمن في أن على البطل، أي اوديسيوس، أن لا يستسلم للمتع عديمة القيمة إذا ما أراد أن يستمرّ في نضاله الطويل من اجل تحقيق هدفه النهائيّ.
وأرض آكلي اللوتس كانت حيلة أخرى لإلهائه وصرف انتباهه عن غايته الأصلية، لكنه ينتصر على ذلك الإغراء بفضل إرادته وعزيمته القويّة.
لكن عندما يكون الإنسان قد مرّ بمتاعب وتحديّات خطيرة، كتلك التي خَبِرها اوديسوس ورجاله، فما الذي يمكن أن يطلبه غير النسيان؟!

إن الامتحان الحقيقيّ ليس في اللوتس بحدّ ذاته، وإنّما في إغراء التحرّر من المعاناة والحزن التي اُتيحت للبحّارة في الجزيرة.
وأحد أهمّ دروس هذه الحكاية هو أن لا تستسلم أو تنخدع بظلال الجنّة عندما تعرف جيّدا أن الجنّة الحقيقية تقع، ليس في منتصف الطريق وإنّما في نهايته، مع كلّ ما يمكن أن يحمله ذلك من مخاطر وصعوبات.
أحيانا تكون الطريقة الوحيدة لكسب مسابقة ما هي أن لا تنافس على الإطلاق، بل أن تحوّل وجهك بعيدا وتواصل حركتك للأمام.
أيضا هناك في القصّة معنى مجازيّ روحيّ، وهو أن التخفّف من متاعب الحياة الأرضية يقتضي من الإنسان أحيانا أن ينتقل إلى مكان آخر. وقد وجد البحّارة ذلك المكان في الجزيرة التي شعروا فيها بالنسيان بعد أن تناولوا فاكهتها.
الحياة على سفينة اوديسيوس كانت عبارة عن بحث بلا نهاية وعذاب مستمرّ يوهن القوى ويدمّر الروح. لقد انتقل البحّارة من مكان لآخر وقاتلوا وأبحروا لأعوام طويلة عبر أراضي نصف العالم المعروف وقتها. والآن، في أرض آكلي اللوتس، وجدوا طريقة أخرى مختلفة ومريحة للعيش.
لكن اللوتس يحرِم آكليه من التفكير العقلانيّ. ولا يهمّ أن تُعطى الخيار لمغادرة الجزيرة من عدمه، فأنت لا تملك الخيار أصلا، وبمجرّد أن تأكله تكون قد اتّخذت قرارك بالبقاء فيها.
أسطورة أرض آكلي اللوتس تردّدت أصداؤها كثيرا في آداب العالم القديم. ويقال إن اللوتس يشبه التمر، أو أنه نوع من النبيذ، وفي رواية أخرى أنه سوسن الماء الأزرق الذي يُعرف اليوم بأن له خصائص منوّمة.
لكن جاذبية القصّة ليست في هذه التفاصيل، بل في بُعدها الميثيّ وفي فكرتها المركزية، وهي مقاومة البطل لكافّة الإغراءات والمُلهيات والتركيز على غايته الأساسية.
الشاعر الانجليزيّ ألفريد تينيسون لا بدّ وأن هذه الأسطورة كانت في ذهنه عندما كتب قصيدة ملحمية إسمها "آكلو اللوتس"، استلهمها من زيارته إلى اسبانيا، حيث رأى هناك مزارع وقرى نائية لم تمسسها يد الحضارة بعد ولم يمتدّ لها عبث الإنسان.
لكن آكلي اللوتس في قصيدة تينيسون ليسوا "دايونيسيين" مخدّرين ومدفوعين بالجشع الذي يقودهم لاستهلاك المتع الحسّية. إنهم أشخاص حَزانى ويائسون، تماما مثل طاقم سفينة اوديسيوس، وقد جرّبوا الكثير من المعاناة والموت بحيث أصبحوا ينفرون من أيّة فرصة للسلام أو السعادة.
أسطورة أرض اللوتس وجدت لها صدى أيضا في القرن التاسع عشر، عندما وجد الامبرياليّون وأرباب الصناعة أنفسهم، مثل اوديسيوس، في مواجهة مجتمعات الريف التي قاومت طويلا فكرة التخلّي عن حياة الدعة والطمأنينة واستبدالها بحياة العمل الشاقّ والمُجهِد.
وفي بعض الحالات، اُسقطِت الأسطورة على عادات بعض الشعوب المستعمَرة، كالصينيين وبعض شعوب الشرق الأوسط الذين كانوا يلجئون لتعاطي الأفيون أو الحشيش للتعبير عن رفضهم للحداثة. لكن كانت هناك حالات كان المستعمِر فيها هو من يلجأ لهذه الحيل لإلهاء الشعوب المستعمَرة ودفعها لنسيان مساوئ الاستعمار ومن ثمّ القبول به كواقع يصعب تغييره.
في ملحمة هوميروس، ليس هناك ما يوحي بأن اللوتس يسبّب الإدمان، فالذين يأكلونه لا يعانون من المرض النفسيّ ولا يحتاجون لعلاج. الإدمان عادة يغلب الإرادة الحرّة، لكن آكلي اللوتس تناولوه بإرادتهم، وعندما انتزعه اوديسوس منهم لم تحدث لهم أعراض انسحابية. كلّ ما شعروا به هو الحزن والأسف بعد أن أدركوا انه مكتوب عليهم أن يعيشوا حياتهم، وإلى ما لا نهاية، في عرض البحر، حيث الموت المحدق والأخطار التي لا تنتهي.
بعض الكتّاب القدامى استخدموا عبارة "آكلي اللوتس" مجازيّا، فالشخص الذي "يأكل اللوتس" هو أيّ شخص يميل إلى النسيان أو يتصرّف بلا وعي.
وفي اللغة الحديثة فإن "آكل اللوتس" يُقصد به الشخص الذي يعيش حياة حالمة وسهلة دون أن يبالي بالعالم الخارجيّ المزدحم والصاخب من حوله.

Credits
sparknotes.com