:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الأحد، نوفمبر 03، 2024

سينما ياسوجيرو أوزو


فلسفة التسامي حاضرة في الفنّ منذ زمن بعيد. وتعبيراتها تشمل الكتب المقدّسة والأيقونات الرومانية والمنحوتات الإغريقية وحدائق الزِن وغيرها. ومع ذلك، قد يبدو تعبير التسامي في السينما مستغربا الى حدّ ما، على أساس أن السينما فنّ دنيويّ في الاساس.
مفردة التسامي نفسها ملتبسة. لكنها، في معناها العام، تشير الى الارتقاء إلى أفق أبعد، كالارتباط العميق بالآخرين أو بالطبيعة. ويمكن أن تعني الاقتراب من الله أو من أيّ نوع من القوى الخارقة. وهناك من يرى ان الأسلوب المتسامي يمكن أن يعبّر عن حالة روحية من خلال السرد المثير للذكريات والارتباطات والتصرّفات الخالية من الوعي الذاتي.
بعد الحرب العالمية الثانية، بدأ صنّاع الأفلام يدركون الإمكانات الحقيقية للفيلم الزمني. فقد افترضوا أنه مثلما يمكن لفيلم الحركة أن يخلق تشويقا، فإن السينما الزمنية "أو المتسامية" يمكن أن تُلهم حالة من الاستبطان والتأمّل الذاتي، باستخدام بعض الجماليات كالموسيقى التصويرية البسيطة واللقطات الطويلة والبطيئة والإطارات الثابتة ونسَب الشاشة والألوان المعدّلة والزوايا الواسعة وخلافها.
والفيلم المتسامي، بتصويره للحياة اليومية، قد يخدع المشاهد بدفعه للاعتقاد أن الفيلم لا يتعامل مع أيّ شيء خارج عن المألوف، وفي الوقت نفسه بتلميحه إلى أنه قد يكون هناك معنى أعمق وراء تصوير الأشياء. وبينما في الواقعية الجديدة تصبح الحياة اليومية هي غاية في حدّ ذاتها، فإنها في الأسلوب المتسامي خطوة نحو شيء أعظم.
وبحسب بعض النقّاد، فإن أوّل مخرج للأفلام الزمنية "أو المتسامية" كان الياباني ياسوجيرو أوزو (1903-1963) الذي ضمّن أفلامه تأمّلات ذاتية من خلال استخدام الصور المتكرّرة والبطيئة.
و أوزو يُعتبر واحدا من كبار صنّاع الأفلام اليابانيين في جيله. وطوال حياته المهنية، تخصّص في سرد قصص عن عائلات الطبقة المتوسّطة اليابانية. وقد نشأ هذا المخرج في أسرة يابانية تقليدية، تحيطه قيم وتقاليد ثقافة الزِن التي ترى انه من خلال التركيز على الأمور الدنيوية يمكن للمرء بلوغ التنوير. وظَهر هذا المفهوم في جميع أفلام أوزو التي تغلِب عليها الوتيرة البطيئة والنبرة القاتمة.
وقد أخرج أكثر من خمسين فيلما بنفس الرؤية الصعبة والنادرة. وأفلامه متشابهة فهي لا تحتوي على أيّ حبكة تقريبا، وجميعها تصوّر الحياة البسيطة التي تُعلّمها فلسفة الزِن وتتناول الصراع بين الأجيال والزواج والعلاقات وما الى ذلك.
كانت أفلام أوزو دقيقًة ومفصّلة، ولا غرابة انه ما يزال لغزا حتى اليوم. ويقال ان أحد الأسباب التي تجعل الغربيين يميلون إلى النظر اليه كمخرج غرائبي هو أن الثقافة اليابانية نفسها غريبة بالنسبة لهم. وأوزو نفسه يوصف أحيانا بأنه "المخرج الأكثر يابانيةً في كلّ العصور".
كان أوزو يأمر ممثّليه بتقديم أداء متواضع، على أساس أن البساطة والدقّة يمكن أن تنقل المشاعر العميقة بشكل أكثر فاعلية من الدراما الصريحة أو المتكلّفة. وتركيزه على البساطة والدقّة والعمق في الحياة اليومية يجعل من أفلامه مصدرا مستمرّا للإلهام والتعلّم.
اليابانيون يستخدمون مفردة "ما" التي تعني الفراغ، لكن هذا الفراغ ليس خواءً، بل فراغ له معنى الامتلاء. وفي ثقافة الزِن، لا يمثل الفراغ غياب شيء ما، بل يُعتبر جزءا من الكمال. وفي أفلام أوزو، هذا الفراغ واضح في الحوار واللقطات والصوت. والمساحات الفارغة في أعماله تتحدّث كثيرا وتعلمّنا عن قوّة ما لا يُعرض وتشجّع المشاهد على التفاعل بشكل أعمق مع المشهد.
وفي أفلامه، لا توجد أشباح ولا ماضٍ، فقط الحاضر. وحتى عندما تُبدي الشخصيات حنيناً إلى الماضي، فإنها لا تتوق إلى الماضي نفسه، وإنما تعمل بطريقة ما على توسيع الحاضر.
من أشهر أفلام ياسوجيرو أوزو وأكثرها احتفاءً فيلم "أواخر الربيع" من عام 1949. وتدور أحداث الفيلم حول حياة أب وابنته. الأب يعمل باستمرار ويعيش بسلام مع ابنته التي تستمتع بالتجوّل في المدينة وطهي الوجبات ورعاية والدها. وعندما تقرّر شقيقة الأب ترتيب زواج لابنته الشابّة، تبدأ المشاكل. فهي في منتصف العشرينات، والزواج كما تراه هو موت لهويّتها كابنة وكإنسانة. ومع ذلك، لا يكون أمامها من خيار سوى الموافقة على طلب عمّتها بالزواج.


وإذا كانت هذه الحبكة تبدو لك مملّة، فذلك لأنها مملّة بالفعل. ووفقاً للنقّاد، فإن غياب الحبكة يشكل عنصراً أساسياً في أفلام أوزو. وبسبب هذا الغياب، يتمتّع المشاهد بالمساحة الكافية للاستمتاع بالصور البصرية الواسعة والتأمّل فيها. وربّما تكون لقطات أوزو المتجمّدة هي الأكثر غموضاً في تاريخ السينما. فهي تجهّز المشاهد لشيء ما على وشك الحدوث، كما تُظهِر مرور الوقت ووحدة الإنسان والطبيعة وعالمية التجربة الإنسانية.
وفي هذا الفيلم أيضا، تظهر لقطة لمزهرية في لحظة حاسمة عندما تبدأ الإبنة في قبول حتمية زواجها. وبدلاً من التركيز على تعبيرات وجهها أثناء هذا التحوّل، يعطّل أوزو رحلة السرد ويستبدلها بصورة المزهرية الموضوعة أمام نافذة شبكية مع ظلال متمايلة لأشجار خيزران. وقد أراد المخرج بهذه الحركة غير المألوفة حثّ المشاهد على تخيّل مشاعر الفتاة بوضع نفسه مكانها. وعندما تعود الكاميرا إلى وجهها وهي على وشك البكاء، يختبر المتلقّي طبيعة هذه العاطفة بنفسه.
نقّاد السينما تنافسوا في تقديم تفسيرات أخرى لظهور المزهرية في هذا الفيلم. بعضهم رأى أنها تثير تأمّلا أعمق في زوال الحياة، بينما قال آخرون إن المزهرية تمثّل تأمّل الزِن في التغيير وعدم الثبات. وهناك من قال إن المزهرية عنصر تعسّفي أراد به المخرج منع المشاهد من هدر عواطفه في المشهد بشكل مبالغ فيه.
وبشكل عام، يمكن أن تحمل المزهرية في هذا الفيلم معاني مختلفة ومتفاوتة. ووجودها في الفيلم يوضّح براعة أوزو في التقاط المشاعر والعلاقات الإنسانية المعقّدة. ومن خلال هذا التفصيل البسيط، يدعونا إلى التأمّل في حتمية التغيير والطبيعة الزائلة للحياة. وبينما يجتهد المتلقّون في تفسيراتهم، يتعرّفون أكثر على أسلوب أوزو المتفرّد في صناعة الأفلام وقدرته الكبيرة على إشراك المشاهدين بل وحتى استفزازهم وإرباكهم.
وقد لاحظ بعض السينمائيين أن بُنية أيّ فيلم لأوزو هي بنية دائرية، بمعنى أنه إذا ظهرت شخصية في بداية الفيلم فستظهر أيضا في نهايته. وهذا البناء الدائري هو أحد الأسباب العديدة التي تجعل أفلامه "مقنعة شعورياً". وعندما يحدث "الفعل"، حتى لو كان مجرّد حديث بين شخصين، فإنه يحدث عادةً في منتصف المشهد وتظلّ الكاميرا في الغرفة حتى بعد مغادرة الشخصيات لها.
والصراع الكبير في أفلام أوزو هو صراع بين البيئات أو الأجيال. ففي البيئة الجديدة لا يستطيع الآباء قضاء وقت كافٍ مع أطفالهم، ولا ترغب الإبنة في تكوين أسرة وعيش حياة مستقلّة. وكلّ هذه تجليّات لمشكلة واحدة تتمثّل في أن اليابانيين المعاصرين لا يستطيعون التعايش مع محيطهم وطبيعتهم.
سينما أوزو معروفة بعالميّتها وبقدرتها على جذب الجمهور الأجنبي بطريقة لا توصف. وبفضل توظيف أسلوبه المتسامي أو المتأمّل، يمكن للقطة بسيطة لآنية أزهار أن تجعل شخصا يشعر بالحزن، وللقطة لجبل أن تجلب الهدوء، وللقطة داخل غرفة أن تشرح المزيد عن ثنائية الأجيال التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية.
وفي جميع أفلام أوزو، يبدو المجتمع الياباني في حالة صراع بين ثقافة الزِن والقيم الغربية. وهذا أمر طبيعي إذا ما أخذنا في الاعتبار الحياة الشخصية لأوزو وتأثيرات الزِن على أفكاره.
وخلال مسيرته كمخرج والتي التي امتدّت لأكثر من ستّة عقود، عاش أوزو حياة طبيعية نسبيّا، لكنه لم يتزوّج أو ينجب أطفالا. وقد خدم في جيش بلاده أثناء الحرب العالمية الثانية وعاش مع والدته حتى وفاتها. وعلاقته بوالدته وذكرياته عن الحرب واضحة في أفلامه.
يقول أحد النقّاد: إن مشاهدة أفلام أوزو أشبه بحضور معرض لفنّان عظيم. فكلّ لوحة مختلفة، ولكن كلّ واحدة منها هي بوضوح نتاج نفس اليد. كان يتعمّق في قلوب وعقول شخصياته حتى نشعر أننا نعرفهم عن قرب. وكلّما شاهدت له فيلماً، شعرت بالهدوء وبأن كلّ شيء في هذا العالم سيكون على ما يرام بطريقة أو بأخرى ومهما كانت الظروف. ويضيف: إن أسلوب أوزو المتسامي لا يقرّبني من الله أو الدين بالضرورة، بل يجعلني أدرك استمرارية الحياة والتدفّق الأبدي للكون، وهذا أفضل ما يمكن أن يقدّمه فيلم على الإطلاق".
في الفترة الأخيرة من حياته صقل أوزو فنّه كثيرا لدرجة أنه لم يعد يبدو فنّا على الإطلاق. ويمكنك أن تجد صدى لأعماله وفلسفته في أعمال مخرجين آخرين مثل اندريه تاركوفسكي وبريسون وأنجيلوبولوس وشريدر وعبّاس كياروستامي وغيرهم.

Credits
nippon.com
sensesofcinema.com