كان قد قرّر أن يكتب قصيدة. فكّر في أنها يجب أن تكون كاملة ومحكمة.
لذا جلس قرب النافذة المفتوحة. كانت السماء تمطر في تلك اللحظات. شعر بلزوجة المطر وهشاشة العالم.
أشعل سيجارة ظنّا منه أنها ستساعده على أن يكتب، بينما كان يبحث عن بداية عظيمة.
البداية هي الشيء المهم. بدايات كل الأشياء دائما مهمّة. قال في نفسه.
لكن عن أيّ شيء سيكتب؟
يمكن أن يكتب عن الضفّة الغربية وغزّة أو عن فقراء أفريقيا.
بدا الأمر صعبا في البداية. فـ فلسطين لديها شعراؤها الكثيرون وبعضهم عظماء ومتفرّدون. كما أن هناك فقراء في إفريقيا وفي كلّ مكان من هذا العالم. فلماذا أفريقيا بالذات؟
يمكن أن يكتب عن قصّة حبّ لا تنسى. تلك كانت إحدى أفكاره المفضّلة. لكن الفكرة بدت له عادية جدّا بل ومستهلكة.
يمكن أن يكتب عن وضع يائس ومحزن في هذا العالم. لكنه خاف أن ينتهي به الأمر إلى قصيدة وجودية لا تختلف عن هذا البحر الواسع من الأفكار والتهويمات الوجودية.
يمكن أن يكتب قصيدة سوريالية. لكن من شأن ذلك فقط أن يزيد من معاناته. بالإضافة إلى انه غير مولع كثيرا بالسوريالية.
ثم أليس الواقع سورياليا بما يكفي؟!
تذكّر شيئا تعلمه في الماضي. وهو انه لا يمكن للمرء أن يكتب قصيدة بالقوّة.
السبب هو أن مياه الشعر ينبغي أن يُسمح لها بأن ترتفع كالحمّى، شيئا فشيئا، إلى أن تمتلئ الورقة البيضاء الفارغة.لم يكن هذا كلامه. بل كلام نيرودا؛ ملاذ كلّ الشعراء الهواة والعشّاق اليائسين.
هذه الأيام، قال في نفسه وهو يشعل سيجارة أخرى ويراقب المطر، أصبح ينسى الشعر الذي كان يحبّه في الماضي. كان يفضّل بيسوا على بلاث، ولوركا على إليوت.
بالنسبة له، فقد الشعر الانغلوساكسوني سحره حتى عندما يكون حرّا، فالأبيات تبدو بعيدة عاطفيا وغير طبيعية.أراد أن يكتب قصيدة على طريقة بورخيس، رثائية، بسيطة ومحزنة.
أو واحدة من تلك القصائد العربية المسكونة بالكآبة والمتوشّحة بالحزن الفضفاض.
صحيح أن هناك شعراء كثيرين. وهو حتى لم يسمع بأسماء معظمهم. ويستحيل عليه ذلك. كما أن الشعر المترجم ليس بالشيء الأصيل أو الحقيقي على أيّ حال.
لذا فلا بدّ وأن من بين تلك القصائد التي لم تُقرأ واحدة عظيمة ومتفرّدة ما تزال مختبئة وضائعة.
ومع ذلك، ما هو التغيير الذي يمكن أن تحدثه قصيدة واحدة - في ما لو كتبها فعلا - سواءً في نفسه أو في الآخرين؟
ثم إنه غير متأكّد بعد ما إذا كان يمكن أن يطلق على نفسه صفة شاعر، رغم أن تلك كانت مسألة قابلة للنقاش.
فكّر في ذلك بشيء من الارتياح. ثم حدّق في الفراغ قليلا وأطراف أصابعه تنقر على الطاولة نقرات خافتة ورتيبة.
كانت الصفحة الفارغة على مكتبه تلتمع بالتوتّر والقلق، بينما كان المطر ما يزال ينهمر، وكل شيء حقيقي بدا هاربا ومتسرّبا.
أغلق الشباك ونحّى جانبا علبة السجائر. ونهض.
تناول آخر كتاب وجده: القصائد المختارة لـ فاسكو بوبا. ثم عاد إلى ليله الخاص.
لم يدرك أبدا أنه، ببقائه صامتا وخاليا، كان يقترب من تلك القصيدة المتمنّعة والمراوغة.
كانت ما تزال مختبئة في صمت غرفته، ضائعة في مكان ما بين أصابعه والصفحة الفارغة. "مترجم"
:تنويه
تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .