شاهدت في لندن نهاية الأسبوع الماضي عرضا للفيلم الجديد "صراع الجبابرة" الذي يحكي قصّة الصراع الذي كان يدور بين آلهة الإغريق الذين يقال إنهم حكموا الأرض قبل أن يطيح بهم آلهة الأوليمب المتأخّرون بزعامة زيوس.
وكنت قبل ذلك قد حاولت مشاهدة فيلم "افاتار" بعد الضجّة الكبيرة التي أثيرت حوله. لكنّ ذلك لم يتحقّق للأسف، نظرا لأن دور السينما التي كانت تعرضه كانت بعيدة عن المنطقة التي كنت أقيم فيها. لكنّ صراع الجبابرة جلب معه بعض السلوى. وقد سمعت انه تمكّن خلال الأسبوع قبل الماضي من سحب البساط من افاتار من ناحية الشعبية وكثرة أعداد الجمهور الذي حرص على مشاهدته في عروضه الأولى.
وأوّل ما استرعى انتباهي في الفيلم هو تكنولوجيا الأبعاد الثلاثية التي وظفت في تصويره وإخراجه. هذا الفيلم مدهش ومثير جدّا. ولا استطيع أن أصف بالكلمات تأثير هذه التكنولوجيا الجديدة ولا سحرها الكبير. ومن الواضح أنها ستغيّر جذريا طريقة مشاهدتنا للسينما وستصبح عنوان المرحلة المقبلة من تطوّر تاريخ السينما وربّما التلفزيون. التصوير مبهر جدّا والأحداث كانت في منتهى الإثارة. وأنت تشاهد الفيلم لا بدّ وأن تتخيّل نفسك في داخله، بسبب التقنيات العالية التي استخدمها المخرج لويس ليترييه وطاقمه في إعداد الفيلم. أهمّ الشخصيّات في صراع الجبابرة هي زيوس الذي قام بدوره ليام نيسون وأبوللو الذي لعب دوره لوك ايفانز وبيرسيوس الذي أدّى دوره سام وورثنغتون وأخيرا ميدوسا التي لعبت دورها الممثلة الروسية ناتاليا فوديانوفا.
مدّة الفيلم حوالي ساعتين حفلتا بالكثير من المتعة والإثارة، خاصّة أحداث الصراع بين كلّ من بيرسيوس وهيدز إله العوالم السفلية الذي قام بدوره رالف فينيس. هيدز كانت مهمّته إبقاف بيرسيوس ومحاولة قتله لتمرّده على أبيه زيوس. ولأجل هذه الغاية، أرسل له كلّ ما لا يخطر على البال من أنواع المخلوقات والكائنات الغريبة بدءا من العقارب الضخمة إلى "الكراكنز" أو وحوش البحر الخرافية، وأخيرا وليس آخرا ميدوسا التي كانت تترصّده في العالم السفلي قبل أن ينجح في الإجهاز عليها بقطع رأسها. ميدوسا بدت في الفيلم ذات جمال لافت برغم رأسها الذي تبرز منه حزمة من الأفاعي السامّة والقاتلة. لاحظت أيضا في الفيلم حضور جماعة من السحرة بهيئات عربية وعيون يشعّ منها بريق ازرق يتزعّمهم شخص يقال له الشيخ سليمان. وكانوا يتكلّمون العربية بوضوح، مع أن كلامهم بدا منقطع الصلة بأحداث الفيلم.
مشكلة بيرسيوس انه لم يكن إلها كاملا بل كان نصف إله ونصف بشر. وتذكّرت ما كان يقال في بعض الأحيان من أن في شخصيّة المسيح الكثير من صفات وسمات شخصية بيرسيوس. في هذا الفيلم تعمّد المخرج عدم التقيّد حرفيا بتفاصيل الأحداث كما ترويها ملحمة هوميروس. وفي الواقع كانت حكايات آلهة اليونان عرضة دائما للتغيير والتبديل، إمّا لإعطاء الأحداث مضمونا عصريا آو لغرض إسقاطها على أشخاص أو أحداث بعينها.
خرجت من الفيلم بكثير من الانبهار، ليس بسبب موضوعه بحدّ ذاته فقد سبق وأن تناوله من قبل أكثر من عمل سينمائي، وإنما بسبب التكنيك الفنّي العالي الذي استُخدم فيه.
توظيف المخلوقات والوحوش الغريبة في هذا العمل كان مدهشا بحقّ. إذ تنفتح السماء فجأة عن مخلوقات رهيبة تفتك بالناس وتدمّر في طريقها كلّ شيء، وتنشقّ الأرض بغتة لتخرج منها وحوش مخيفة تستبدّ بها شهوة القتل والتدمير وتقاتل كأشدّ ما يكون القتال ضراوة وعنفا.
وبعد الانتهاء من مشاهدة الفيلم، ربطت بطريقة غير واعية بين هيئة تلك المخلوقات التي شاهدتها فيه وبين التحليلات التي أوردتها صحف ذلك الصباح تعليقا على ما قاله عالم فيزياء بريطاني بارز عن وجود مخلوقات غريبة في الفضاء تتحيّن الفرصة للانقضاض على الأرض. وأكيد لم يغب عن بالي حقيقة أن مجرّات ونجوما وكواكب كثيرة تنتشر على امتداد هذا الكون الفسيح تحمل أسماء أبطال وكائنات الأساطير اليونانية. وكان العالم ستيفن هوكنغ قد أشار في برنامج وثائقي أعدّه لقناة ديسكفري إلى انه أصبح مقتنعا بأننا لسنا وحدنا في هذا الكون وان هناك مخلوقات أخرى تعيش في بعض المجرّات البعيدة وتتنقّل بين النجوم والكواكب في سفن فضائية متطوّرة جدّا. غير أن أهم ما قاله هوكنغ في البرنامج هو أن تلك المخلوقات لن تتردّد في غزو واستيطان كوكبنا بعد أن استنفدت ما لديها من ثروات وموارد. كما حذّر سكّان الأرض من التعامل مع تلك المخلوقات لأن وصولها إلينا قد يترتّب عليه نتائج لا تقلّ سوءا عن ما فعله كولومبوس ورفاقه بسكّان أمريكا الأصليين عند وصولهم إلى العالم الجديد.
وقد خطر لي وأنا اقرأ كلام العالم البريطاني أنه ربّما شاهد فيلم افاتار، إذ أن الفيلم يتحدّث عن مجموعة من سكّان الأرض تقوم بغزو واستيطان كوكب بعيد بعد أن استنفد البشر كافّة الموارد الطبيعية على الأرض.
والواقع أن فكرة الغزو والاستيطان متجذّرة في الثقافة والوعي الغربيين بالنظر إلى تجارب الإنسان الأبيض في استعمار وغزو مناطق عديدة في أفريقيا وآسيا والأمريكتين بغرض استغلال ثرواتها ومصادرها الطبيعية.
صحيح أن هوكنغ عالم عبقري وضليع في مجاله. لكنّ ما يقوله في النهاية لا يعدو كونه تنظيرات واحتمالات قد تصيب وقد تخطيء.
فعلى افتراض وجود مثل تلك المخلوقات الغريبة، فإنها إذا ما فكّرت فعلا في غزو الأرض يلزمها سفن فضائية تطير بأضعاف أضعاف سرعة الضوء لكي تصل إلى كوكبنا. ولتقريب الصورة أكثر، يكفي أن نعلم أن بعض المجرّات تبعد عن الأرض بأكثر من عشرين مليون سنة ضوئية! وإذا افترضنا أن المخلوقات الغريبة تملك مثل هذه السفن السريعة والمتطوّرة جدّا، فإن من السهل أن نتصوّر مدى التقدّم التكنولوجي الهائل الذي بلغته. وبالنتيجة، لن يكون من الصعب بالنسبة لها صناعة وإنتاج ما تحتاجه وما يكفيها من غذاء ومؤن وعتاد دون الحاجة إلى غزو الأرض واستيطانها. في هذه الحالة، قد تأتي تلك المخلوقات إلى كوكبنا للسياحة والنزهة، وليس لغرض الاحتلال ونهب الموارد بالضرورة.
والسؤال الذي يطرح نفسه: ما هي الموارد الطبيعية الموجودة في كوكب الأرض ولا توجد في غيره من الكواكب؟ سكّان الأرض أنفسهم يعانون من الفقر وشحّ الموارد، بل ومن الجوع الذي يقضي على حياة الملايين من البشر سنويا.
ثم لماذا يأتي الغرباء إلى كوكبنا بالتحديد؟ مجرّتنا الشمسية لوحدها، أي درب التبّانة، تزدحم بالكواكب والأقمار والنجوم. وهناك مقابل كلّ إنسان يعيش على الأرض ستّون كوكبا ونجما تتوزّع على سائر أجزاء المجرّة. وفي الكواكب البعيدة عن الأرض، يوجد هيليوم ونيتروجين وأنواع لا حصر لها من أشكال الطاقة. كما توجد كمّيات هائلة من الذهب والألماس والمعادن النفيسة الأخرى في الكواكب التي تسقط عليها الشهب والنيازك باستمرار.
ثم هناك الافتراض الغريب الذي يقول بأن التقدّم التكنولوجي يصلح لأن يكون سببا ومبرّرا كافيا للتفكير في غزو الآخرين ونهب ثرواتهم ومواردهم. ويتصل بهذه النقطة فكرة أخرى لا تقلّ سذاجة تفترض بأن سكّان الكواكب الأخرى ينطبق عليهم ما ينطبق على البشر من أوصاف وسمات جسدية ونوازع دينية وأخلاقية تتصلّ بالخير والشر والسلم والحرب والقناعة والطمع.. إلى آخره. إن من الوهم أن نتخيّل أن المخلوقات الغريبة والمتفوّقة تشبهنا أو أنها مثلنا.
أتذكّر للمناسبة أنني سمعت ذات مرّة الشيخ احمد الكبيسي وهو يتحدّث عن سدرة المنتهى التي يشير القرآن الكريم إلى أن فيها أسماء الخلق ومصائرهم وأحوال عيشهم حتى قبل أن يُخلقوا. وقد أعجبني تفسير الشيخ للآية عندما قال إن الشجرة ليست شجرة وقد لا تكون سدرة بالضرورة، بل قد تأخذ شكل جهاز كمبيوتر عملاق يحتوي على قاعدة بيانات يستحيل تصوّر ضخامتها واتساعها.
وليس من الصعب أن نفترض أن المخلوقات التي يقال إنها ستأتي إلى كوكبنا على متن سفن تسابق الضوء بغرض غزوه واستغلال ثرواته قد بلغت درجة من التطوّر بحيث تلاشت معها سماتها الفيزيائية واكتسبت طبيعة أثيرية أو رقمية أو غير ذلك من أشكال التطوّر التي تتجاوز مستوى فهمنا وإدراكنا.
مخلوقات الفضاء لا يبدو أنها بحاجة إلى شيء مما لدى البشر. ولو فكّرت فعلا بغزو كوكبنا لنهب موارده، على سذاجة هذه الفكرة، فهي على الأرجح لن تضطرّ للمجيء بنفسها، بل بإمكانها أن ترسل بوارج وسفنا وطائرات وروبوتات أو حتّى مخلوقات مستنسخة لإنجاز هذه المهمة.
ولهذه الأسباب، تبدو فكرة الغزو نفسها ساذجة وغير قابلة للتصديق. وربّما لو قال بها احد آخر غير ستيفن هوكنغ لما التفت إليها احد.
إن الانشغال بالتفكير في مخلوقات أخرى غيرنا تعيش في هذا الكون قد يكون مردّه إحساس الإنسان بالغربة على هذا الكوكب الصغير البائس. والحقيقة أننا جميعا غرباء في سفينة غريبة نأتي إلى هذه الحياة لوحدنا ونرحل لوحدنا دون أن نعرف إلى أين، غير ما تقوله لنا الأديان والأساطير التي تقرّر سلفا أقدارنا ومصائرنا.
إنسان هذا العصر يرنو ببصره إلى الفضاء الخارجي لكي يغطّي على فشله في التفكير في ما هو ابعد من وجوده الذاتي، لأنه لا يعرف من هو وما الغرض من وجوده في هذه الحياة. لكن ما من شكّ بأن الانشغال بالعوالم الأخرى يمنح الإنسان شيئا من العزاء وراحة البال، لأنه يشعره بأنه ليس وحده وأنه جزء من خطة شاملة ومتكاملة وضعها خالق هذا الكون.
ومع ذلك، فالإنسان على ضعفه وهشاشته يتوفّر على ملكات وقدرات عقلية يحسده عليها بقيّة المخلوقات. الإنسان هو الذي بنى المدن الضخمة وشيّد البنايات الشاهقة واخترع الطائرات وسيّر السفن والمراكب الفضائية إلى الكواكب والمجرّات النائية والبعيدة. وبهذا المعنى، فالإنسان مخلوق جبّار، وقد يكون أكثر جبروتا وقوّة حتى من جبابرة الإغريق الذين تصوّرهم الأفلام والسينما.
موضوع ذو صلة: افاتار بين الحقيقة والخيال
:تنويه
تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .