(1)
"محامي الشيطان" من أجمل وأبلغ المصطلحات التي نستخدمها كثيرا في لغة الخطاب اليومي. لكنك قد تُدهش إذا عرفت أن أصل هذا المصطلح يُعزى للكنيسة الكاثوليكية. تقول القصّة انه كان من عادة الرهبان أنهم إذا أرادوا تنصيب، أو بالأصح تطويب، شخص ما قدّيسا فإنهم يعيّنون في نفس الوقت شخصا آخر تكون مهمّته إظهار عيوب المرشّح وأخطائه التي يمكن أن تكون مبرّرا لحرمانه من ذلك اللقب وما يرتبط به من مكانة وقداسة في أعين الناس. في ما بعد خرج هذا المصطلح عن سياقه اللاهوتي ليصبح من التعبيرات الشائعة التي تجري على ألسنة الناس وتتردّد في الأوساط الثقافية والصحافية والإعلامية. محامي الشيطان، بمعنى ما، هو شخص يحاول أن ينزع عن بعض البشر صفات القداسة المتوهّمة ويعيدهم إلى دائرة البشر العاديين حيث لا مظاهر حصانة ولا امتيازات أو عصمة.
السؤال: ترى كم محاميا للشيطان تحتاجه مجتمعاتنا المليئة بالقدّيسين والملائكة المزعومين؟!
(2)
ثمّة إحساس بأن اللغة العربية تفتقر إلى المرونة والتجدّد والحيوية التي تتمتّع بها اللغات الأخرى، ليس من حيث قدرتها على توليد الاشتقاقات والمترادفات والصيغ المختصرة فحسب، وإنما أيضا التعامل مع مهامّ أسهل من ذلك بكثير. تأمّل هذه الجملة مثلا: الثعلب البنّي السريع يقفز فوق كلب سريع". لو كتبت هذه العبارة بالانجليزية مستخدما كيبورد الكمبيوتر لاكتشفت أنك استخدمت في كتابتها كافّة أحرف الأبجدية اللاتينية الموجودة على لوحة المفاتيح. مثل هذه الحيل والألعاب الذكيّة، على بساطتها، لا نجد لها شبيها في لغتنا. هل العيب في اللغة نفسها، أم في قصور أصحابها وافتقارهم للبديهة وسعة وقوّة الخيال؟
(3)
في روسيا، لو قدت سيّارتك وهي متّسخة وملوّثة بروائح الدخان والعطن لانتهى بك الأمر إلى السجن، لأن ذلك يعتبر جريمة في عرف القانون. السؤال: لو طُبّق هذا القانون الحضاري على كلّ سائقي الليموزين عندنا، فكم سيتبقّى من هذه السيّارات في شوارعنا؟
.
(4)
اللغة كائن حيّ. والواقع أن أفضل تشبيه للغة هو ذلك الذي يقرنها بالشجرة. الشجرة تنمو إلى فروع وأغصان. وبعد فترة تكتسي الأغصان بالأوراق التي لا تلبث هي الأخرى أن تمتدّ وتتوسّع وتنتشر.
في اللغة الانجليزية هناك جملة دلالية تُكتب هكذا To get fired، وهي تقال لوصف الشخص المفصول من عمله أو وظيفته. وقد تندهش لو علمت أن هذا التعبير تعود جذوره إلى القبائل البدائية. كان من عادة بعض القبائل القديمة إذا أرادت أن تعاقب احد أفرادها لارتكابه جرما أو جناية أن تعمد إلى إحراق بيته بدلا من قتله. طبعا في العصور القديمة كانت البيوت عبارة عن أكواخ وعشش بسيطة مبنيّة من جذوع الشجر ومن السعف غالبا. لذا كان الحرق أسرع وأنجع طريقة لتدميرها.
ومن هنا أصبح فعل الحرق نفسه وصفا لحرمان الإنسان من رزقه بطرده من وظيفته. ولو تأمّلنا هذا المدلول جيّدا لأمكن أن نستنتج بسرعة كم هو بليغ ومعبّر. فحرمان الإنسان من عمله الذي يعتاش ويرتزق منه هو عمل من أعمال القتل المعنوي. وهو مساو في الواقع لهدم بيته وتخريب حياته وتدمير مستقبل أطفاله.
(5)
أسنان الإنسان أكثر صلابة من الصخور. هذا ما يقوله العلم. لكن الأغرب من ذلك أن تعلم أن من اخترع الكرسي الكهربائي الذي يُستخدم عادةً لإعدام المجرمين كان طبيب أسنان! وقد تذكّرت هذه المعلومة بينما كنت جالسا نهاية الأسبوع الماضي تحت رحمة أحد أطبّاء الأسنان الذي قصدته لخلع ضرس العقل.
كانت تجربة مؤلمة بحقّ ذكّرتني مجدّدا بكرسيّ الإعدام. وأدركت لأوّل مرّة ما معنى أن يكون عندك ضرس عقل. ولولا أن الطبيب كان على قدر من الخبرة والمهارة لكانت المعاناة مضاعفة. وقد اضطرّ لكسر السنّ الذي عانده كثيرا ثم قام بتجزئته إلى أربع قطع إلى أن أتمّ استئصاله بالكامل وبالتالي ارتحت نهائيا من آلام مزمنة لازمتني أشهرا طويلة.
ألام ضرس العقل لا ينفع معها المسكّنات والمهدّئات الموضعية، بل التدخّل الجراحي العاجل والحاسم. وأتصوّر أن هذا ينطبق على طريقة مقاربتنا لبعض مشاكلنا الاجتماعية المستعصية والتي أصبحت بحاجة ماسّة وعاجلة إلى إعادة نظر.
(6)
"الغرب يعرف أن الإسلام هو دين الحقّ. لذا فالغربيون يعملون ليل نهار على تقويض الإسلام وتدمير المسلمين".
سمعت وقرأت هذه العبارة كثيرا. وآخر مرّة سمعتها كانت منذ ثلاثة أيّام فقط على قناة الجزيرة القطرية. ومن الواضح أن الذين يردّدونها ويروّجون لها ليسوا فقط بعض رجال الدين وأتباعهم أو جنرالات ومنظّري الهزائم السابقين، وإنّما هناك أيضا رجال فكر ومثقّفون لا يتعبون من ترديدها في سياق أحاديثهم المستمرّة عن نظرية المؤامرة. ولو تمعّنت في هذه العبارة لما وجدت لها ما يسندها على ارض الواقع والمنطق. بل إنها تنطوي على تناقض صارخ. فلو افترضنا صحّة مقدّمتها، لكان المنطق يفترض بالغرب أن يتحوّل إلى الإسلام وبالتالي يصبح المسيحيون والمسلمون إخوة في الدين وبذا تنتفي دواعي ومبرّرات الصراع بالنتيجة. غير أن المقدّمات الخاطئة تفضي حتما إلى نتائج خاطئة. واقع الحال يقول انه إن كان هناك صراع بين الإسلام والغرب فهو على المصالح الدنيوية من ثروات وأراض ومواقع استراتيجية وموارد طبيعية إلى ما سوى ذلك. أي أن الصراع صراع سياسة ومصالح، وليس من مصلحة احد أن يُربط بالأديان والأيديولوجيات .
(7)
الإنسان العاديّ يمكن أن يرى في العام الواحد أكثر من 1400 حلم. أي أن عليه أن يتوقّع أن يرى حلما كلّ ليلتين. هل هذا يعني أن من يحلم مرّات اقلّ آو أكثر هو إنسان غير عادي أو غير سويّ؟
المشكلة أنني اكتشفت انه مضى عليّ الآن أكثر من ثلاثة أشهر لم أرَ خلالها حلما واحدا. وبناءً عليه ورغبة في كسر حالة الملل والرتابة، أصبحت متلهفا لرؤية ولو حتى كابوس صغير يمكن أن يضفي على النوم طعما ولونا جديدا.
(8)
أخيرا، خصية الإنسان تدخل التاريخ من بابه الواسع! الاكتشاف "الكبير" هو أن هتلر ونابليون كانا بخصية واحدة. ترى، هل من علاقة بين كون كلّ من هذين الرجلين بخصية واحدة وبين ميلهما لشنّ الحروب وخوض المعارك والاستيلاء على أراضي الآخرين والحلم ببناء إمبراطورية خاصّة؟
هل كان ما فعله هتلر ونابليون، وربّما غيرهما من مجانين العالم القديم والحديث، حيلة تعويضية عن فقدانهما لخصيتيهما وبالتالي لجزء من ذكورتهما؟
والسؤال الأهم: ترى لو كان لكلّ منهما خصيتان كاملتان، ماذا كانا سيفعلان أكثر ممّا فعلاه أو بخلاف ما فعلاه؟
(9)
في دراسة علمية نُشرت مؤخّرا، اكتشف الأطبّاء أن شمّ التفّاح الأخضر، وليس أكله، يمكن أن يساعد الإنسان في إنقاص وزنه. الواقع أن الكثيرين، وأنا منهم، لا يعوّلون كثيرا على مثل هذه الوصفات الطبّية الجاهزة والسريعة. لكن هل للتفّاح الأخضر رائحة أصلا؟ في السوق أكثر من صنف منه ومعظمها، بعكس التفّاح الأحمر، لا تكاد تشمّ لها رائحة.
أظنّ أن من يقدّمون مثل هذه النصائح "الصحّية" إنما يبيعون للناس الوهم. في النهاية ومن خلال التجربة، لاحظت أن لا شيء ينقص الوزن أفضل من ممارسة الرياضة بانتظام والاقتصاد في تناول الطعام.
(10)
"الزمن الماضي، الزمن الآتي، ما كان يمكن أن يكون، وما كان".
الارتباط الوثيق بين الموسيقى والشعر معروف منذ القدم. من أشهر المقطوعات الموسيقية التي ألهمت شعرا عظيما إحدى معزوفات بيتهوفن المعروفة بالرباعية الوترية. عندما سمع تي إس إليوت هذه الموسيقى لأوّل مرّة اعتبرها عصيّة على الفهم. ثم عاد إليها بعد فترة وتوصّل إلى احتمال أنها قد تكون تعبيرا عن مصالحة بين الفنّان ونفسه بعد معاناة وألم طويل. ثم تمنّى أن يكتب شعرا يحمل نفس الفكرة والإحساس الذي توصله الموسيقى.
ولم يطل انتظاره. فبعد فترة قصيرة ولد احد أشهر أعمال إليوت الشعرية بعنوان الرباعيّات الأربع والتي قيل انه تأثر فيها أيضا ببعض صور الخيّام في رباعياّته.
الشعر هنا، والموسيقى على هذا الرابط.
(11)
بعض موسيقى البيانو تسمعها فتستحضر في ذهنك موسيقى أخرى سبق وأن سمعتها من قبل. نفس هذا الانطباع قد يتكوّن لديك وأنت تستمع إلى بعض معزوفات ديفيد لانز الذي يذكّرك أسلوبه بـ شوبان وشوبيرت ورحمانينوف. لانز عازف بيانو بارع ومؤلفاته الموسيقية تثير أمزجة وحالات شتّى، من تأمّل وحزن وتذكّر وبهجة واسترخاء. لكنّها مستوحاة في الغالب من أصوات الطبيعة وصورها الجميلة.
من أشهر أعماله المقطوعة المسمّاة حلم كريستوفوري.
ربّما يحسن الاستماع إلى هذه الموسيقى على ضوء شمعة معطّرة في ساعة متأخّرة من الليل. الجمال المتدفّق من أصابع هذا العازف الماهر لا يدع مجالا للشكّ في أن الموسيقى تثبت مرّة أخرى قدرتها على إثارة المخيّلة وإشاعة جوّ من الرومانسية والدفء الحميم.