:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الجمعة، يوليو 02، 2010

رباعيّة السلمون

الأفكار والحالات والمواقف التي تصوّرها الموسيقى لا تعرف حدودا. هل يمكن مثلا أن يدور بخلد أحد أن تكون حركة سمكة صغيرة في مياه إحدى البحيرات موضوعا لقطعة موسيقية كُتب لها في ما بعد أن تصبح إحدى أشهر المعزوفات الكلاسيكية وأكثرها انتشارا؟
ألّف فرانز شوبيرت موسيقاه المسمّاة رباعية السلمون، أو رباعية البيانو كما تُسمّى أحيانا، في العام 1819 وهو لم يتجاوز بعد الثانية والعشرين من عمره.
وقد باشر تلك المهمّة بناءً على طلب احد أصدقائه الذي روى له قصّة سمكة سلمون صغيرة رآها ذات يوم في الماء وهي تحاول جاهدة الإفلات بخفّة وبراعة من شباك احد الصيّادين.
كان شوبيرت احد أشهر موسيقيّي العصر الرومانسي. وكان يُلقّب بالطفل المعجزة بعد أن ظهرت بوادر عبقريته وهو بعد في سنّ مبكرة. وقد قيل انه كان ما أن يلمس شيئا حتى يتحوّل إلى أغان وموسيقى.
وكان أوّل أعماله التي لاقت استحسانا كبيرا هو موسيقاه التي ألّفها لمسرحية فاوست لـ غوته. ولد فرانز شوبيرت لعائلة من الطبقة الوسطى. وقد عهد به والده إلى عدد من الأساتذة الذين علّموه العزف على البيانو والكمان. لكنه في النهاية استطاع منافستهم بل والتفوّق عليهم بفضل موهبته الاستثنائية والمتفرّدة.
كانت فيينا زمن شوبيرت عاصمة الفنّ والموسيقى في العالم. وقد عاش في عصر العائلات الارستقراطية التي حكمت العديد من البلدان في أوربّا. كما قُدّر له أن يشهد حرب نابليون واحتلاله لـ فيينا وهو في سنّ الثامنة. كانت فيينا آنذاك تحتضن أكثر الأسماء الموسيقية شهرة مثل بيتهوفن وبرامز وموزارت وهايدن وسواهم. وبسبب موقعها على مفترق طرق التجارة الأوربية، تحوّلت المدينة إلى مركز ثقافي وفنّي مهمّ وحاضنة للكثير من المسارح ودور الأوبرا وقاعات الموسيقى والغناء.
كان فرانز شوبيرت إنسانا بسيطا ومتواضعا. وكثيرا ما كان يردّد انه لم يُخلق ألا لكي يجلس في البيت ويؤلّف الموسيقى التي كانت حبّه الأول والأخير. وقد عُرف بحبّه للسهر وحياة الليل وارتياده للمقاهي. في ذلك الوقت كانت فيينا معروفة بكثرة مقاهيها. وقد تحقّق لها ذلك بعد أن انسحب منها الأتراك في نهاية القرن السابع عشر تاركين وراءهم أكياسا ضخمة من البنّ. واستمرّ شغف أهالي فيينا بالقهوة منذ ذلك الوقت وحتى اليوم.

كتب شوبيرت قطعا موسيقية كثيرة عن الحبّ والفقد والطبيعة والسعادة والبؤس والفرح والحزن والموت.
غير أن أشهر مؤلّفاته كانت سيمفونيّته الخامسة ورباعياته العديدة المكتوبة للآلات الوترية. وقد كان معروفا بغزارة إنتاجه وتنوّع أعماله. لكن بعد إصابته بمرض السيفلس وهو في ريعان الشباب قلّ إنتاجه تدريجيا وأصبحت موسيقاه يغلب عليها الحزن والتشاؤم. وبعد وفاته في سنّ الحادية والثلاثين تمّ دفنه بجوار بيتهوفن في مقبرة فيينا بناءً على وصيّته.
موسيقى شوبيرت عن سمكة السلمون تتألّف من خمس حركات أشهرها الحركتان الأولى والرابعة. ومن الواضح أنه كتب هذه الموسيقى بحماس وابتهاج منقطع النظير. والذي يستمع إلى أنغام البيانو السريعة والمتراقصة في هذه الرباعية، خاصّة في الحركة الرابعة، لا شكّ سيتخيّل السمكة وهي تتقلّب صعودا وهبوطا على سطح مياه البحيرة اللامعة والمتماوجة محاولة تجنّب الوقوع في براثن الصيّاد العنيد.
هذه القطعة كانت وما تزال تتمتّع بشعبية كبيرة جدّا بدليل انه لا تكاد تمضي سنة دون أن تُطرح في السوق تسجيلات جديدة لها وبترجمات ومعالجات موسيقية متباينة ومبتكرة.
ترى، لو انك استمعت إلى هذه الموسيقى دون أن تكون لديك أدنى فكرة عن قصّتها، هل كان سيخطر بذهنك أنها عن سمكة تحاول يائسة أن تتمسّك بحرّيتها في مواجهة صيّاد مثابر وعازم على اصطيادها؟
اغلب الظنّ أن الإجابة ستكون بلا. فجوّ الموسيقى هنا تأمّلي بامتياز. والذي يعمّق هذا الإحساس الطريقة الرائعة التي تمتزج بها أصوات الكمان والبيانو والتشيللو موصلة إحساسا بالتوق والتذكّر الحزين.