هناك من الكتب ما تقرأه ويظلّ حاضرا في الذهن حتى بعد انقضاء وقت طويل على قراءته. هذا الوصف ينطبق على رواية الكاتب البريطاني جيمس هيلتون بعنوان "الأفق المفقود". ورغم انقضاء سنوات طويلة على قراءتي تلك الرواية المشوّقة، إلا أنني ما زلت أتذكّر الكثير من الصور والمواقف التي تضمّنتها. وأزعم أن الأجواء الغرائبية والساحرة التي ذكرها هيلتون في روايته أسهمت إلى حدّ كبير في صياغة وتشكيل نظرتي إلى الصين وإلى الثقافة الصينية بوجه خاص.
رواية الأفق المفقود تتحدّث عن رحلة يقوم بها أربعة مغامرين غربيين إلى مكان يقال له شانغريلا يقع في بقعة نائية من بلاد الصين. وشانغريلا، كما تصفها الرواية، عبارة عن واد اخضر فسيح يقع وسط الجبال ويمتدّ إلى أعالي سهول الهمالايا الواقعة داخل الحدود الصينية. ويتصف ذلك الوادي بهوائه العليل وسمائه الزرقاء وسحبه البيضاء التي تكاد تعانق وجه الأرض. أما البشر الذين يسكنونه فيتميّزون بكرم الضيافة والبساطة والأمانة والدفء الإنساني.
ويسرد الروائي أحداث قصّته في قالب جميل يجمع بين النوستالجيا والرومانسية والحزن، ويثير في النفس مشاعر وانفعالات متباينة تخاطب توق الإنسان إلى مكان سمع عنه وربّما حلم به لكنه لم يره أبدا.
ومنذ أن ظهرت رواية هيلتون، أصبح هذا المكان المتخيّل مشهورا جدّا لدرجة انه أغرى جماعات كثيرة من المغامرين والسيّاح والرحالة بالذهاب إلى الصين على أمل أن يعثروا على شانغريلا ويجرّبوا العيش هناك لبعض الوقت.
ولأن لـ شانغريلا أصلا في لغة أهل التيبت، فقد ظنّ الكثيرون أنها لا بدّ وأنها تقع في أراضي ذلك الإقليم التي تسيطر عليه الصين منذ عقود.
غير أن كلّ المحاولات لاكتشافها فشلت، الأمر الذي دفع البعض إلى الاعتقاد أنها موجودة في مكان ما بأعالي جبال الهمالايا.
وبحسب الرواية، فإن شانغريلا أعجوبة من أعاجيب الطبيعة ومكان تلتقي فيه أشعّة الشمس بضوء القمر وسط غابات عذراء وغدران كالمرايا تطفو على سطحها أزهار اللوتس ويضوع في أرجائها عبير أزهار الشاي الممتزجة برائحة الهواء المنعش والنقيّ.
في شانغريللا يستطيع الإنسان أن يجلس في كنف الطبيعة الخضراء وإلى جوار البحيرات العذبة والمياه الصافية وفي مواجهة الجبال المكلّلة بالثلوج معظم أيّام السنة.
غير أن أجمل فصول الرواية هو ذلك التي يتحدّث فيه الكاتب عن طقوس الرهبان البوذيين وأسلوب عيشهم في ذلك المكان الهادئ والغامض. فهو يتحدّث، مثلا، عن مكان يقال له الوادي الأزرق، ويصف بأسلوب شاعري بديع منظرا لمعبد يلفّه الضّباب بينما يعكس القمر ضوءه الأزرق الشاحب على قمم الجبال التي يكسوها الثلج. ثم يشرح الكاتب كيف أن الرهبان في تلك المعابد النائية والبعيدة أصبحوا يستمتعون بسماع الموسيقى الكلاسيكية الغربية بعد أن تمكّن عدد قليل جدّا من المغامرين الغربيين من بلوغ ذلك المكان بما يشبه المعجزة.
رواية هيلتون وارتباطها في أذهان الغربيين بأراضي التيبت يمكن، ولو جزئيا، أن يفسّر تعاطف الكثيرين منهم مع قضيّة التيبت، بل وحتّى تحوّل بعضهم إلى الديانة البوذية وحالة الانبهار الذي ينظرون به إلى شخصية الزعيم الروحي للتيبت الدالاي لاما.
وفي أماكن كثيرة من الرواية، يسرد بطلها قصص لقاءاته مع أفراد ونسّاك صوفيين من شانغريلا يعيشون سعداء في تماسّ حميم مع الطبيعة ويكبرون ببطء ويعمّر بعضهم لأكثر من مائة عام في تلك الأرض المنعزلة عن متاعب ومشاكل البشر على الأرض.
أهالي التيبت ظلّوا يصرّون باستمرار على أن شانغريلا تقع في أرضهم وأن هيلتون إنما كان يشير في روايته إلى "شامبالا" التي تعني في لغتهم الجنّة أو الفردوس الأرضي.
وبعد ظهور الرواية راجت العديد من الأساطير، من بينها واحدة تقول إن ستالين أرسل إلى الصين عددا من العلماء في محاولة لاكتشاف المكان. وهناك أسطورة أخرى أكثر إثارة تزعم أن هتلر الذي عُرف باهتمامه بالتصوّف الشرقي هرب إلى شامبالا أو شانغريلا بعد سقوط الرايخ الثالث وأنه مكث هناك إلى أن توفّي.
وحسب التقاليد البوذية لأهل التيبت، فإن شامبالا مملكة غامضة تقع في مكان خفيّ خلف قمم الهمالايا الثلجية. والمعنى الحرفي لاسمها يعني السلام والسكينة والحكمة. وقد أتت على ذكرها بعض الكتب والمخطوطات البوذية القديمة. ويقال إن بعض تعاليم بوذا ما تزال مخبّأة في مكان ما هناك. وشامبالا مكان يعمره الهدوء والسكينة، إذ لا حروب ولا ظلم ولا طمع. كما يقوم على حكمها ملك رعاياه رجال ونساء يتصفون بجمال الخلقة ويسكنون بيوتا جميلة ومتواضعة. وتقول إحدى الأساطير انه بعد أن ينهار العالم نتيجة الطمع وكثرة الحروب والصراعات، سيخرج من شامبالا ملك مخلّص يقود جيشا ضخما ليهزم العالم الفاسد ويعلن مجيء العصر الذهبي لبني الإنسان على الأرض.
وفي العصر الحديث يرد اسم شامبالا كمرادف للبصيرة والحكمة وحبّ الخير في عدد غير قليل من الروايات الباطنية التي تجري أحداثها في أماكن سرّية وغامضة.
غير أن الصين تصرّ على أن شانغريلا التي تتحدّث عنها الرواية هي جزء لا يتجزّأ من أراضي البرّ الصيني وأن لا علاقة لها بأرض التيبت. وهناك اليوم آراء كثيرة تذهب في هذا الاتجاه وتؤكّد بأن شانغريلا ليست في التيبت بل في الصين، وبالتحديد في أقصى شمال محافظة يونان الصينية.
ولأجل هذه الغاية بادرت السلطات الصينية مؤخّرا إلى تغيير اسم مدينة شونغديان فأصبحت شانغريلا، تيمّنا برواية هيلتون ورغبة في اجتذاب السيّاح والاستثمارات الغربية إلى المنطقة.
لكن أحداث الصين الأخيرة والقمع الذي ووجهت به انتفاضة شعب الاوغور ألقت بظلالها على محاولات الصين تلك.
ويبدو أن شانغريلا، مثلها مثل المدينة الفاضلة واليوتوبيا والفردوس المفقود، ليست أكثر من مكان اخترعه خيال كاتب كان يتوق مثل غيره من البشر الحالمين إلى رؤية بقعة على الأرض لم تتلوّث بعد بأطماع البشر وحماقاتهم وشرورهم.
لكن في كثير من الأحيان، فإن ما يترسّخ في أذهاننا من تطلّعات وأحلام طوباوية نتيجة ما نقرأه سرعان ما يصطدم بالواقع الذي قد يكون أكثر رمادية وتشوّشا مما نتصوّر. كما أن الحياة نفسها ليست خيرا محضا أو شرّا خالصا، بل إن فيها الكثير من الأشياء والظواهر المتناقضة أو التي تجمع بين الشيء وضدّه.
هامش:
YouTube : شانغريلا – برنامج وثائقي من إعداد وإنتاج البي بي سي
:تنويه
تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .