:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الخميس، يوليو 08، 2010

ظاهرة العمى في فنّ بيكاسو


العمى عاهة خطيرة. فالعينان هما نافذة الإنسان على العالم. والإبصار مهمّ لبقاء الدماغ نفسه. وبدون الإبصار، يبدأ الدماغ في نسيان العالم ويفقد الإنسان إحساسه بالواقع.
الأدب والفنّ الغربيان اهتمّا بظاهرة العمى منذ القدم. الأديب الأرجنتيني جورجي بورخيس عانى من العمى التامّ لبضع سنوات. ووصف تجربته تلك في بعض كتاباته. وقد حرمه العمى من رؤية جميع الألوان، وفي طليعتها الأحمر والأسود. وكان يرى الليل على هيئة ضباب باهت من الأزرق والأخضر.
والروائي البرتغالي خوسيه ساراماغو كتب هو الآخر رواية عن مدينة يتعرّض سكّانها للعمى ولا يبقى منهم سوى شخص واحد مبصر.
والفيلسوف الفرنسي دينيس ديديرو ألّف كتابا مشهورا بعنوان "رسالة حول العميان" تطرّق فيه إلى العمى بمعناه الرمزي والمجازي.
في العصور الوسطى، كان الرسّامون يصوّرون العمى على انه مظهر من مظاهر ضعف الإنسان أمام جبروت الله أو عقوبة من الله على آثام وخطايا الإنسان. وبطبيعة الحال كان الهدف من ذلك تكريس الأفكار المسيحية وتذكير الإنسان بما يجب أن يكون عليه حال المؤمن.
في عصر النهضة اختفت الحمولة الدينية لمفهوم العمى وأصبح الإبصار رديفا للمعرفة، بدونه لا يستطيع الإنسان أن يبصر ومن ثمّ أن يعرف. رمبراندت رسم العميان استنادا إلى القصص الدينية، لكنه كان في لوحاته يتأمّل معنى ظاهرة العمى في زمانه.
وإحدى المشاكل التي واجهها الرسم في تصويره لهذه الظاهرة هي صعوبة تمثيل العمى صوريّا، لأنه شيء تجريدي صرف وليس له سمات جسدية كتلك التي تميّز أشكال الإعاقة الأخرى.
من أشهر الرسّامين الذين صوّروا العمى في لوحاتهم كلّ من آنغر ومونكاتشي ودافيد وبيتر بريغل وبُوسان. ومن الشخصيّات التاريخية التي ارتبطت بالعمى وتناولها الرسم كلّ من هوميروس وشمشون وبيليساريوس والشاعر جون ميلتون مؤلّف رواية الفردوس المفقود.
في القرن العشرين أصبح الرسّامون يستخدمون العمى كرمز للجهل أو العجز أو الضعف وفقدان الإنسان طريقه. وكثيرا ما كان يُصوّر الأعمى كشاعر أو موسيقيّ أو فيلسوف. الرسّام الاسباني بابلو بيكاسو اشتهر بأنه أكثر فنّان في القرن العشرين رسم العميان في لوحاته. وكان العمى موضوعا لعب دورا مهمّا في أسلوب بيكاسو المميّز خلال ما عُرف بالمرحلة الزرقاء.
جميس ريفين وجوناثان بيركنز يناقشان في المقال المترجم التالي ظاهرة العمى في لوحات بيكاسو من منظور سيكولوجي وطبّي وجمالي.

يُعتبر بابلو بيكاسو أهمّ رسّام ظهر في القرن العشرين. ومن المستحيل دراسة تطوّر الفنّ الحديث دون الإشارة إلى اسمه وإسهاماته. كان بيكاسو فنانا فريدا من نوعه. وقد عُرف عنه غزارة إنتاجه. فقد رسم أكثر من عشرين ألف لوحة خلال 75 عاما. كما انه أكثر رسّام تحدّث عنه النقاد وعن أعماله.
عندما كان بيكاسو ما يزال مراهقا، قام بعدّة زيارات إلى باريس عاصمة الفنّ في العالم آنذاك، حيث عرض فيها لوحاته ورسوماته. وخلال السنوات الأولى من حياته ظهرت ملامح شخصيّته القوية. كان بيكاسو ينظر إلى نفسه كفنان بطولي اقرب ما يكون إلى سوبرمان نيتشه. وفي وقت متأخّر من عام 1901 اخذ فنّه منعطفا مفاجئا عندما بدأ رسم لوحات مرحلته الزرقاء ذات اللون الأحادي. هذه الأعمال يسهل التعرّف عليها بألوانها الزرقاء وأشخاصها الحزانى.
وفي عدّة لوحات زيتية من هذه المرحلة يظهر العمى كفكرة. المزاج الحزين المكتئب في تلك الأعمال ربّما كان ردّ فعل على موت صديقه المقرّب وزميله الرسّام كارلوس كاساغيما الذي قضى إثر قصّة حبّ فاشلة.
صور العمى تعود في الأساس إلى اليونان القديمة. وقد اشتهر هوميروس نفسه بكونه شاعرا أعمى. في الفنّ والأدب الاسباني، كان الشاعر الأعمى يتطوّر إلى عازف غيتار أعمى. المتسوّلون العميان كان منظرهم مألوفا في شوارع اسبانيا طوال قرون. الفنان فرانشيسكو دي غويا رسم عدّة لوحات عن موضوع العمى. وبيكاسو رسم وحفر أعمالا ترتكز على نفس الفكرة. وقد تكرّر هذا في العديد من المرّات خلال المرحلة الزرقاء.
ومن حين لآخر كان يعود إلى صور العميان، مثل لوحته التي صوّر فيها كائن "مينوتور" أعمى.
الاستخدام الواسع النطاق للون الأزرق لم يكن احد اختراعات بيكاسو. فقد كان هناك قبله تاريخ طويل من توظيف هذا اللون في الرسم. أسلافه المباشرون في هذا الأسلوب كانوا الرسّامين الأسبان والفرنسيين الذين كانوا يستخدمون الأزرق للتأكيد على المشاعر الانفعالية التي تعبّر عن الحزن واليأس. كما ظهر اللون الأزرق في عدد من الأعمال الفنية في نهاية القرن التاسع عشر.
وأثناء حياته الفنّية، قام بيكاسو بدمج أساليب فنّانين آخرين في لوحاته. الآخرون كانوا يضعون الأزرق بطريقة حادّة. وهو كان يسرق من كلّ رسّام قديم أو معاصر ما يناسبه. تقول فرانسوا غيلو، إحدى عشيقاته، إن بيكاسو قال لها ذات يوم: عندما يكون هناك شيء ما يستحقّ السرقة، فإني اسرقه"!. لوحاته الزرقاء تدين أيضا ببعض الفضل إلى إل غريكو الذي يظهر تأثيره واضحا في الأيدي والوجوه الطويلة لشخوص بيكاسو.
كان بيكاسو يجد في الأزرق لونا يتوافق مع موضوعاته عن الفقراء والمعوّقين والمضطهدين. البعض قالوا إن شخصياته التي تعاني من الفقر إنما تعكس أسلوب حياته. في ذلك الوقت، لم يكن بيكاسو قد أصبح شخصا غنيّا. لكنه لم يكن مختلفا كثيرا عن بقيّة أقرانه في الوسط الفنّي والأدبي. فقد كان يتلقّى دعما ماليا من عائلته، كما استفاد ماليّا من معارضه الناجحة آنذاك.

كان بيكاسو وقتها ما يزال شابّا يجرّب أسلوبه الذي ثبت انه كان فعّالا. وهناك احتمال أنه كان يتماهى مع الأفراد التعساء الذين كان يرسمهم. تعليقاته المتناقضة عن باريس واضحة في رسالة كتبها إلى صديقه الفنان والشاعر ماكس جيكوب. وإذا كان بيكاسو قد اخبر أيّا من أصدقائه لماذا كان العمى مهمّا بالنسبة له، فإن ذلك ممّا لم يصل إلى علمنا. لكننا نعرف أن نظر والده في ذلك الوقت كان يتدهور باستمرار.
وقد حاول علماء النفس إخضاع حالة بيكاسو للدراسة والتحليل. كارل يونغ، مثلا، درس لوحاته عن قرب وتوصّل إلى انه كان يعاني من اضطراب نفسي وانفصام في الشخصية.
العمى مشكلة خطيرة بالنسبة إلى رسّام. وفي سيرته عن بيكاسو التي نُشرت مؤخّرا ولقيت اهتماما واسعا، لاحظ ريتشاردسون أن بيكاسو كان في بيته في برشلونة مع والديه عندما رسم بعض الأشخاص العميان في مرحلته الزرقاء. ورجّح المؤلّف أن اهتمام بيكاسو بتصوير الفكرة في لوحاته قد يكون مردّه انه كان يخشى العمى كثيرا في حياته وقد تكون تلك طريقته لحماية نفسه من تلك العاهة.
وأكثر مرّة اقترب فيها بيكاسو من مناقشة العمى كانت في إشارة غامضة منه تعود إلى منتصف الثلاثينات من القرن الماضي عندما قال: في الحقيقة، الحبّ هو ما يهمّ في النهاية. يجب أن يقتلعوا عيون الرسّامين كما يفعلون بعيون العصافير لجعلها تغنّي أفضل". رولاند بنروز الذي سجّل هذه الكلمات كتب يقول: لقد لازم رمز الرجل الأعمى بيكاسو طوال حياته وكأنه كان يتقرّب منه ليهديه رؤيته الفنّية الفريدة".
هذه الاقتباسات تصلح لأن تكون دليلا على أن بيكاسو كان يواجه ويسمّي مخاوفه. غير أنها لا تشرح معنى بورتريهاته عن العميان.
رسومات بيكاسو عن العميان غامضة ومن الصعوبة بمكان تشخيصها أو فهمها.
ورغم أن اسم الموديل في لوحته لا شليستينا معروف، إلا أننا لا نعرف ما الذي تسبّب في ابيضاض قرنيّتها التي يتباين لونها بشكل واضح مع الأزرق الذي يهيمن على بقيّة هذه اللوحة. هذه المرأة وحيدة العين هي نفسها بطلة رواية بنفس الاسم كتبها فرناندو دي روهاس وتعتبر الآن ثاني أهمّ عمل أدبي اسباني بعد دون كيخوت لـ سرفانتس.
سبب ضمور حدقة العين في لوحة بيكاسو الأخرى عازف الغيتار العجوز هو أيضا غير معروف. منطقة العين في هذه اللوحة تحيطها ظلال زرقاء قاتمة، وهي سمة ميّزت العديد من لوحات المرحلة الزرقاء.
وأيضا لا نستطيع تحديد سبب ضعف بصر الرجل الذي يظهر في لوحة بيكاسو بعنوان طعام الرجل الأعمى. بيكاسو وصف ما كان يرسمه في هذه اللوحة بطريقة موجزة عندما قال: إنني ارسم رجلا ضريرا يجلس إلى طاولة ويمسك ببعض الخبر بيمينه بينما يبحث بيساره عن آنية النبيذ".
لم يكن بيكاسو يرسم الأشخاص بتفاصيل كثيرة، لكنه كان ميّالا لجعلهم يبدون مثاليين. وقد اخذ عن إل غريكو الأيدي والجذوع والرؤوس الطويلة ووضعها في بيئة بدايات القرن العشرين.
وهناك من النقاد من تحدّثوا عن "رؤيا داخلية روحية" في مشاهد الأشخاص العميان المنعزلين الذين رسمهم بيكاسو بهذه الطريقة.
آخرون قالوا إن تلك اللوحات قد تكون انعكاسا لعزلة بيكاسو نفسه في تلك الفترة.

وخلال المائة عام الماضية كان هناك العديد من التعليقات النقدية التي تناولت لوحات بيكاسو تلك. لكن معناها الكامل ما يزال غير واضح إلى اليوم. الرسّام نفسه لم يقدّم أي مساعدة قد تعين على فكّ رموزها. لكنّنا نعتقد أن الشخصيات العمياء في المرحلة الزرقاء لم تُرسم لاستدرار عطف وشفقة الناظر فقط. ومن المرجّح أن بيكاسو كان يجد في حضور الحواسّ الأخرى بعض ما يعّوض شخوصه عن فقدان نعمة البصر. الأشكال الطويلة والأيدي الرفيعة في لوحتي العازف العجوز وطعام الرجل الأعمى قد تكونان وسيلتين فاعلتين في خلق الموسيقى وفي لمس الطعام.
في لوحة لا شليستينا، ربّما كان بيكاسو يستكشف قوّة العمى من خلال تصويره عينين جنبا إلى جنب، ترمز إحداهما للإبصار والأخرى للعمى. غير أن المفارقة هي أن العين العمياء هي التي تجذب انتباه الناظر أكثر من العين السليمة.
أسلوب بيكاسو في لوحات المرحلة الزرقاء يمكن اعتباره نوعا من التأمّل في ظاهرة العمى. وفي هذه الأعمال يحاول بيكاسو استكشاف الإمكانيات التعبيرية المتأتّية عن الاقتصاد في استخدام الألوان.
رؤية أعمال بيكاسو المبكّرة قد لا تمنح متعة مثل تلك التي تحسّ بها وأنت ترى أعمال الانطباعيين. غير أنها تستحقّ أن تُرى وأن تُحترم بالنظر إلى ما سيرمز إليه بيكاسو في ما بعد باعتباره المثال الأعلى لفنّ الحداثة.
إن الفنّ الأكثر أهميّة قد يصعب عليك فهمه ويمكن أن تنظر إليه بانزعاج. وبنفس الوقت، هناك فنّ قد تغريك جاذبيته السطحية، مع أنه قد يبدو بعد النظرة الأولى خاليا من أيّ معنى ولا ينطوي على أيّ أهمية على الإطلاق.
لقد جعل بيكاسو تقييم فنّه صعبا. فقد كان يحتقر محاولات تحليل أعماله وكان يقول انه يرسم ما يراه والأشياء التي كانت تحرّك مشاعره. "ارسم ما أجده، لا ما ابحث عنه. إن ما تفعله هو المهم وليس ما كنت تنوي فعله".
ألوان بيكاسو وموضوعاته أصبحت أكثر إشراقا مع نهاية عام 1904 عندما دخل مرحلته الزهرية. الألوان أصبحت أكثر دفئا والموضوعات أكثر إثارة للبهجة والسعادة.
لوحات المرحلتين الزرقاء والزهرية نالت قبول النقاد. لكن لو أن بيكاسو توقّف عن الرسم عند تلك النقطة لتذكّره التاريخ كرسّام من الدرجة الثانية أو الثالثة لم يبلغ مرحلة النضج الفنّي الكامل.
المرحلة التالية من حياته الفنية، خاصّة التكعيبية، هي التي حقّقت لـ بيكاسو الشهرة على مستوى العالم وجعلت منه أهمّ رسّام في القرن العشرين.

Credits
researchgate.net