يقول الموسيقي ليونارد بيرنستاين الذي درس بيتهوفن كثيرا وعزف موسيقاه وعاش في بيته وتنقّل في الأماكن التي كان يرتادها: موسيقى بيتهوفن تثير المشاعر وتروق لكلّ الناس. لقد اثبت بيتهوفن الطبيعة العالمية للموسيقى عندما كتب أعمالا تتحدّث إلى جميع الناس، كبارا وصغارا وعلى اختلاف أديانهم وتنوّع خلفياتهم وثقافاتهم.
سيمفونيته التاسعة تذهب إلى آفاق تتجاوز الشعر، إذ تتحدّث عن الحرّية والمحبة والأخوّة الإنسانية مثيرة شعورا بالسموّ والنبل. كما أنها أيضا تكشف عن الطفل الذي لم يكبر أبدا داخل بيتهوفن بحديثها عن الأمل والتفاؤل والبراءة والمستقبل والخلود.
يستحيل أن تستمع إلى هذه السيمفونية دون أن تغيّرك لتصبح أكثر إشراقا وتفاؤلا وأكثر ثراءً من الناحية الوجدانية. السيمفونية التاسعة ليست مجرّد عمل موسيقي وإنما يمكن اعتبارها احتفالا بالموسيقى نفسها.
السيمفونية التاسعة هي ولا شكّ أعظم سيمفونيات بيتهوفن. وكلّ شخص، تقريبا، يعرف نشيد الفرح الذي يغنّيه الكورال في ختام السيمفونية. تضمين بيتهوفن نشيد الفرح للشاعر شيللر يُعتبر في حدّ ذاته تحوّلا جريئا باتجاه الموسيقى الرومانسية.
كان بيتهوفن معجبا بـ شيللر. وبعض سوناتاته التي كتبها للبيانو كانت على الأرجح مستلهمة من مقالات وقصائد كتبها الشاعر الألماني في أوقات مختلفة.
والواقع أن لا أحد كان يفهم بيتهوفن. فيينا في زمانه كانت تعترف بعبقريّته الجامحة. لكنها لم تفهم أبدا لماذا كتب أعمالا تستعصي على فهم أكثر الناس.
ما رآه الناس كان أمرا غريبا: رأوا موسيقيا كان يتملّكه الغضب بسبب معاناته المتزايدة من فقدان سمعه وكان لا يهتمّ كثيرا بأمور اللباس والنظافة الشخصية. ومع ذلك، كان زملاؤه يقدّسونه ويعتبرونه قوّة من قوى القدر.
كان بيتهوفن أشبه ما يكون بالمخلوق المقدّس. ريتشارد فاغنر قال عنه انه الموسيقيّ الذي سعى لخلاص الإنسانية من خلال قوّة الفنّ.
ومن بين كافة أعماله تنفرد السيمفونية التاسعة بكونها الأكثر استعصاءً على الفهم.
ترى، ما الذي دفعه لتزيين ختام السيمفونية بغناء الكورال لقصيدة شيللر عن الفرح، مع أن السيمفونية هي في الأساس عن الأخوّة الإنسانية والتحرّر؟
هل تتحدّث السيمفونية عن الإصلاح الاجتماعي أم عن الحقوق الفردية؟
وهل تعني لنا اليوم ما كانت تعنيه لـ بيتهوفن عندما كتبها؟
هذه الأسئلة وغيرها ناقشها العديد من المؤرّخين ونقّاد الموسيقى على امتداد حوالي مائتي عام. وكان آخر هؤلاء الكاتب هارفي ساكس الذي حاول في كتابه اكتشاف جذور آخر سيمفونيات بيتهوفن.
الزمن: عام 1824م. في ذلك العام كانت أوربّا قد عادت إلى حكم الملكيات الاستبدادية وكأنها لم تمرّ بعصر التنوير والثورة الفرنسية.
عندما قدّم بيتهوفن أوّل عرض للسيمفونية التاسعة، كان جثمان اللورد بايرون يُرسَل إلى وطنه ليُدفن فيها رمزا للشهادة في سبيل قضية استقلال اليونان. موت بايرون في سنّ السادسة والثلاثين شكّل بداية العصر الرومانسي.
في روسيا، سُرّ الكسندر بوشكين لموت بايرون، إذ كان يرى في ذلك فكرة ترمز لقوّة الشعر وتساميه.
في تلك الأثناء كتب بوشكين ملحمته الكبرى بوريس غودونوف. وفي فرنسا التي كانت تنتقل من ثورة لأخرى كان ستندال يكتب مقالاته الملحمية، بينما كان ديلاكروا قد فرغ من رسم لوحته المشهورة الحرّية تقود الشعب وباشر رسم لوحته الأخرى مذبحة في كيوس التي تصوّرا مشهدا من حرب بايرون اليونانية.
اليوم، ثمّة شبه إجماع على أن بيتهوفن وهايني هما اللذان حرّرا نبض الإبداع من اشتراطات الدولة والمجتمع. ومن الآن فصاعدا سيذهب الفنان إلى حيث تقوده روحه.
عندما تستمع إلى السيمفونية التاسعة اليوم كنشيد للاتّحاد الأوربي، لا يمكن أن تتخيّل أن هذا هو ما فكّر به بيتهوفن عندما ألّفها.
غير أن السيمفونية العظيمة هي التي تجعل الموسيقى مرتبطة بكلّ مستمع على كلّ مستوى من مستويات المشاركة الفردية.
وهذا ما كان يرمي إليه بيتهوفن.
هامش:
بيتهوفن: السيمفونية التاسعة ، نشيد الفرح
:تنويه
تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .
الأربعاء، يوليو 07، 2010
نشيد الفرح
Credits
classicalarchives.com
classicalarchives.com