ومن تلك العبارات واحدة تتكرّر كثيرا في لغة الأخبار وفي الأعمال الأدبية، وهي عبارة "الكتابة على الجدار". وآخر مرّة قيلت فيها كانت منذ يومين على لسان وزيرة الخارجية الأمريكية التي كانت تتحدّث عن الأوضاع في سوريا. وقد صرّحت كلينتون بقولها: لقد أوضحنا وشركاؤنا لروسيا والصين انه يتعيّن عليهما أن يُريا الأسد الكتابة على الجدار. إن على الرئيس السوري أن يرحل، لأنه لن ينجح في امتحان الثقة، ولأن على يديه الكثير من الدم".
فما هو أصل هذه العبارة، ومتى وكيف دخلت لغة الخطاب اليوميّ؟
هناك قصّة قديمة يقال أنها تعود إلى زمن حكم الملك البابليّ بلشاسار ابن القائد المشهور نبوخذنصّر. وطبقا للقصّة، كان بلشاسار ملكا متهتّكا ومستهترا. وذات ليلة، أقام في قصره في بابل حفلا دعا إليه ألفا من أفراد حاشيته وأصدقائه. كان الفرس آنذاك يفرضون حصارا مشدّدا على المدينة لاحتلالها وإخضاع أهلها.
لكن بلشاسار لم يأبه أو يهتمّ لذلك، إذ كان غاية ما يشغله هو إشباع أهوائه وملذّاته. وقد وصل به استهتاره، كما تروي القصّة، حدّ استخدام آنية المعبد المقدّسة كأقداح تُدار بها الخمرة على ضيوفه.
وبينما بلشاسار وحاشيته منهمكون في لهوهم وعبثهم، ظهرت فجأة يد على الجدار لتكتب بالآرامية هذه الكلمات الثلاث: معدودة، موزونة، مقسّمة".
أصيب الملك بالذعر ممّا رأى وأمر من فوره بجلب أبرع المفسّرين في بابل كي يشرحوا له سرّ تلك اليد ومعنى الكلمات الغامضة التي كُتبت على جدار القصر.
وفي النهاية جاءوا إليه برجل صالح يقال له دانيال. فقال مفسّرا ما حدث: أيّها الملك! لقد أحصى الله عمرك وأصبحت أيّامك معدودة. ووَزَن أعمالك فرجحت خطاياك على حسناتك. وحكم بزوال ملكك وتقسيم مملكتك بين الفرس والميديّين".
وتذكر القصّة انه في نفس تلك الليلة اقتحم الفرس قلاع بابل الحصينة وقتلوا بلشاسار واستولوا على المدينة وأخذوا أهلها سبايا وعبيدا.
ومنذ بدايات القرن الثامن عشر على الأرجح، أصبحت عبارة "الكتابة على الجدار" تُستخدم مجازا في اللغة للإشارة إلى حتمية وقوع خطر وشيك أو حدث جلل ومشئوم، أو للتدليل على أن نهاية شخص أو حدث ما قد تحلّ بأسرع ممّا يمكن تخيّله.
وأحيانا يقال عن شخص ما أنه يملك القدرة على قراءة الكتابة التي على الجدار، في إشارة إلى مقدرته في التنبّؤ بوقوع حدث سيّء أو بنهاية شيء ما بطريقة مأساوية أو منذرة بالخطر.
❉ ❉ ❉
تشارلز داروين صدَم العالم عندما أعلن أن البشر يمتّون بصلة إلى القرود. وهي الفكرة التي قال بها شخص آخر سبق داروين بـ 350 عاما.
الشيفرة الوراثية أكّدت الشبَه الوراثي بين الإنسان والقرَدَة العليا، كما يقول العلماء. ونظرية داروين عن التطوّر تمّ الاعتراف بها باعتبارها الفكرة الأكثر أهمّية في العصور الحديثة.
لكن هل كان داروين فعلا أوّل شخص قال بهذه الفكرة؟
إن أهم جانب مثير للجدل في ثورة داروين الفكرية هو الاستنتاج بأننا أيضا تطوّرنا من فصيلة قديمة وأن أقرب المخلوقات إلينا هي القرود العليا.
والشيفرة الوراثية أثبتت مدى الشبه الكبير بين الإنسان والشيمبانزي. ومع ذلك وقبل داروين بقرون، ظهر عبقريّ آخر سبقه إلى هذا الاكتشاف، هو ليوناردو دافنشي.
كان دافنشي يعتبر أن ارتباط البشر الوثيق بالقرود أمر بدهيّ. وهو لم يطرح هذه الفكرة كحالة تستحقّ الجدل.
في مذكّراته الموجودة في المكتبة الملكية لقصر ويندسور، يذكر دافنشي - استنادا إلى دراساته في التشريح المقارَن - أن البشر والقرود هم أبناء عمومة، وأن تشريح الإنسان قريب جدّا من تشريح بعض المخلوقات الأخرى ومن بينها القرود.
ثم يؤكّد على هذا الرأي بقوله: القرَدَة وغيرها ليست فقط ذات صلة بالإنسان، بل إنها تنتمي تقريبا إلى نفس الفصيلة.
كتب دافنشي ملاحظاته هذه قبل خمسمائة عام وقال فيها أشياء قريبة جدّا مما قاله جيرد دايماند الكاتب في مسائل العلم الحديث في كتابه "صعود وسقوط الشيمبانزي الثالث".
إن جزءا من الاحترام الذي يحظى به داروين هو أنه طرح تساؤلاته في العصر الفيكتوري. ومن خلالها جرّد البشر من وهمهم القديم بتفرّدهم البيولوجي.
ترى كم من الشجاعة والعبقرية لزم دافنشي عندما طرح هذه الأسئلة قبل خمسة قرون؟!