:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الاثنين، يوليو 16، 2012

ديلاكروا وسلطان المغرب

لم يكن اوجين ديلاكروا أكثر رسّامي القرن التاسع عشر تأثيرا ونفوذا فحسب، وإنما أيضا احد الأسماء البارزة في حركة الرسم الاستشراقي الفرنسيّ والغربيّ عموما.
في عام 1832، سافر ديلاكروا إلى اسبانيا وشمال أفريقيا كجزء من بعثة ديبلوماسية فرنسية. وحطّ الرسّام رحاله أخيرا في المغرب وذلك بعد وقت قصير من احتلال فرنسا للجزائر.
كان ديلاكروا يريد الهرب من الطابع الحضريّ لـ باريس ويتوق لرؤية ثقافة أكثر بدائية وبساطة. وفي نهاية رحلته تلك أكمل أكثر من 100 اسكتش ورسْم تصوّر مظاهر شتّى من حياة وثقافة شعوب شمال أفريقيا. ومن خلال تلك الرسومات، أضاف ديلاكروا فصلا آخر من فصول ما عُرف في ما بعد بالاستشراق.
كان ديلاكروا يعتقد بأن شعوب شمال أفريقيا، بأزيائهم وأسلوب حياتهم، يوفّرون معادلا بصريّا للإغريق والرومان خلال الحقبة الكلاسيكية. وقد كتب آنذاك يقول: الرومان والإغريق هنا على عتبة بابي. إنّهم العرب الذين يلفّون أنفسهم بملابس بيضاء ويبدون مثل كاتو وبروتوس".
وقد تمكّن من رسم بعض النساء سرّا في الجزائر كما في لوحته نساء الجزائر. غير انه وجد صعوبة في العثور على نساء مسلمات مستعدّات للجلوس أمامه لرسمهنّ، لأن الأعراف الإسلامية تقتضي من المرأة أن تتغطّى أمام الغرباء.
وأثناء إقامته في طنجة، أنجز عدّة اسكتشات عن المدينة وسكّانها، وهي المواضيع التي سيعود إليها بعد ذلك من وقت لآخر وحتى نهاية حياته.
لوحته سلطان المغرب وحاشيته وضع اسكتشها الأوّليّ أيضا خلال تلك الرحلة، وبالتحديد في شهر مارس من ذلك العام. وكان ديلاكروا ومرافقه الديبلوماسيّ شارل مورناي قد ذهبا لحضور حفل استقبال أقامه السلطان عبد الرحمن بن هشام خارج قصره في مكناس.
وبعد مرور ثلاثة عشر عاما على رحلته المغربية، أتمّ ديلاكروا رسم هذه اللوحة الضخمة للسلطان وجنده وعرَضها في مكان خاصّ من صالون باريس عام 1845م.
الحضور المهيب للوحة اجتذب اهتمام الكثير من مرتادي الصالون لأنها تقدّم لمحة عن ملك لم يكن معظم الفرنسيين قد رأوه إلا في ما ندر.
لكن في الوقت الذي قرّر فيه ديلاكروا عرض لوحة السلطان وحاشيته، كانت العلاقات بين فرنسا والمغرب تشهد توتّرا بسبب موقف المغرب الداعم لحركة المقاومة الجزائرية بقيادة الأمير عبد القادر.
كان الفرنسيون يعرفون أن السلطان عبد الرحمن كان يزوّد الثوّار الجزائريين بالسلاح والمؤن. وأكثر من ذلك سمح لهم بالدخول إلى أراضي الغرب والخروج منها بحرّية.
وفي محاولة لإجبار السلطان على تغيير موقفه، قام الفرنسيون بمهاجمة وقصف مدينتي طنجة وتطوان. كما ألحقوا الهزيمة بالجيش المغربيّ في معركة إيسلي. هذه التطوّرات المتتالية لم تترك للسلطان عبد الرحمن الكثير من الخيارات. فاضطرّ لأن يعقد مع الفرنسيين معاهدة تنصّ على سحب تأييده للأمير عبد القادر الجزائريّ.
كانت العلاقة بين المغرب وفرنسا قد تغيّرت كثيرا في الفترة ما بين زيارة ديلاكروا للمغرب عام 1832 ووقت عرض اللوحة في باريس عام 1845م. كانت المغرب قوّة عسكرية يهابها ويتجنّبها الكثيرون. ثم أصبحت، وعلى كره منها، حليفا لفرنسا.
ومن المدهش أن هذه اللوحة أثارت تفسيرات متباينة في حينه. فقد تساءل الكثيرون: هل تصوّر عاهلا عظيما أم خصما مهزوما، أم أنها مزيج من الاثنين؟
البعض رأى أن الرسّام صوّر عبد الرحمن كعدوّ للفرنسيين بدليل وقفته المتحدّية وغير المبالية. وهناك من ربط اللوحة بهزيمة المغاربة في ايسلي ورأى فيها صورة لا تخلو من الزهو لعدوّ مهزوم يحيط به عدد من أفراد جنده المنكسرين.
غير أن هناك رأيا آخر يقول إن ديلاكروا أراد من اللوحة أن تكون تحيّة من شخصه إلى السلطان. حجم اللوحة كبير جدّا. وعبد الرحمن يبدو فيها سيّدا قويّا ومهاب الجانب. انه الشخص الوحيد الذي يمتطي صهوة حصان. كما انه يسمو عاليا فوق حرّاسه وفرسانه الكثيرين. ومن اللافت أن ديلاكروا جعل الجميع يقفون على أقدامهم ما عدا السلطان، وكأنّما أراد أن يُبرز، أكثر، حضوره القويّ والطاغي.