الضوء اللازوردي المنعكس على المنحدرات الواقعة فوق شاطئ الريفييرا الفرنسية يُضفي على الطبيعة هناك ألقا شفّافا. الصخور تبدو مرصّعة بالذهب، والأزهار تتفتّح مثل قطرات ماء على قماش، وحتى العشب يتموّج بخضرة مضاعَفة.
هذا الضوء يتملّك الإنسان أيضا ويستولي على مشاعره. وبالنسبة للرسّام مارك شاغال، كان هذا احتفالا دينيّا يوميّا بالألوان وتماهياً مع كلّ هو طبيعيّ وبريء ومدهش.
المشي على الأقدام كان جزءا من روتين شاغال طوال حياته. كان يحبّ الريف أكثر من المدينة. ومنذ عام 1950، عاش في "فونس"، وهي بلدة ريفية قديمة من أصول رومانية تطفو فوق جبال الألب. كان كلّ يوم يخرج من حديقة منزله المطليّة جدرانه باللون الأبيض، ويمرّ من أمام أشجار البرتقال والسرو والزيتون تحت وهج الشمس الحارّة، ثم يعبر عددا من المسارات الصخرية التي تصطفّ على جانبيها الأزهار. وبعد ساعة يظهر ثانية وقد علت جبينه الشاحب حبّات عرق أشبه ما تكون باللؤلؤ. وفي تلك الأثناء يكون قد نال قسطا من الانتعاش وأصبح جاهزا للعمل.
كان شاغال يحبّ الحياة بفرح. وبالنسبة له، أن تشمّ رائحة الفواكه الرطبة وتسمع طقطقة الأشجار في الغابات وتشعر بحرارة الشمس اللافحة، هو طقس يوميّ لازم للتجدّد الروحيّ. "الفنّ العظيم يبدأ حيث تنتهي الطبيعة. والأرض تستمرّ في دورانها كلّ الوقت، ونحن أيضا ندور معها طوال الوقت، وحتى عندما نموت فإن الأرض لا تسكن أو تنام. بل تدور معنا أيضا". هكذا كان يقول.
لكن عندما أكمل شاغال عامه الثامن والسبعين، أصبحت حركته أسرع، وأحسّ بأنه أصبح اقرب من أيّ وقت مضى إلى إيقاع الطبيعة. كان يرى في الغيوم العابرة أفضل تجسيد لمرور الوقت وتغيّر الأزمنة بسرعة.
النقّاد طالما أشادوا برحلات شاغال الفانتازية الطائرة التي ابتكرها في لوحاته المبكّرة. وكثيرا ما كانوا يقارنونه بـ سترافينسكي في الموسيقى. لكنّ المؤسّسة الفنّية لم تعترف بإنجازاته حتى أوائل عشرينات القرن الماضي. ومؤخّرا فقط، اعترفت المتاحف بأن تاريخ الفنّ الحديث كان سيبدو باردا وسطحيّا، لولا مناظر شاغال الرقيقة التي كان يعكس من خلالها حبّه للناس وشغفه بالحياة.
عايش شاغال جميع المدارس الفنّية طوال قرن كامل، بدءا بالتكعيبية والسريالية وغيرهما. لكنّه لم يعتنق أيّا منها وبقي صامدا في سعيه وراء حلمه الخاصّ، حتى أصبح لفنّه هذه الجاذبيّة العالميّة الطاغية.
كان يرى انه ليس هناك عالم أكثر واقعيّة من ذلك العالم الذي يتألّف من رموز ينعدم فيها الوزن كتلك التي كان يضمّنها لوحاته. كان يملأ عالمه بمخلوقات وكائنات مختلفة تتحدّى قوانين الهندسة والجاذبية، حيوانات وآلات موسيقيّة وعشّاق طائرين، وكان يعتمد فيها على ذكريات من أيّام طفولته الأولى.
طبيعته المحمولة جوّا ربّما أراد من خلالها أن يحاول جرّ السماء إلى الأرض. "من حقّ أيّ إنسان ينظر إلى لوحاتي أن يفكّر في واقع آخر تتحوّل فيه التفاصيل إلى رموز من الأشكال والألوان. لم أولد كي ابحث عن المتعة. أردت، دون أن يكون في ذهني أيّة مذاهب فنّية، أن أجد شكلا روحانيّا للأشياء".
كانت الأزهار تملأ بيت شاغال وتتنافس مع لوحاته في كلّ مكان. وفي اللحظة التي تبدأ فيها بالذبول، كان يأمر زوجته بأن تلقي بها إلى الخارج. وعندما يقول إن "نهاية الحياة هي باقة ورد"، فإنه يقول ذلك كعاشق للجمال ومدرك لنظام الطبيعة. "عندما تنمو الأزهار بشكل كامل، فإنها تُقطف وهي في ريعان شبابها وتبرعمها. ثم يجمعها الناس لإهدائها كلفتة حبّ. لكنّ صنع الباقة في حدّ ذاته يعني تلاشيها وموتها في نهاية المطاف. لذا فمع اختلاطهما، تبدو الحياة والموت شيئا واحدا في الطبيعة".
الباحثون ما يزالون يجدون صعوبة في إعطاء رقم دقيق لأعمال شاغال المنتشرة في جميع أنحاء العالم. لكن يمكننا أن نضعها في خانة الآلاف.
لوحته المذهلة بعنوان "نزهة" مليئة بالرموز عن الحبّ والسعادة. وقد أصبحت نوعا من المنافيستو. نزهة هي أيضا صورة شخصية للرسّام مع زوجته بيلا. وفيها تبدو الزوجة وهي تحلّق في السماء، وشاغال، الواقف على الأرض بلا استقرار، على وشك أن يطير معها بينما يمسك في يده عصفورا يرمز إلى عمل الرسّام. التحليق تعبير مجازيّ عن الحرّية والسعادة. وشاغال يريد أن يقول إن الحبّ يفعل المعجزات وأن بإمكان العشّاق أن يطيروا ويحلّقوا في مشاعرهم الرومانسية.
في مذكّراته، يتحدّث شاغال مطوّلا عن حنينه لقريته وعشقه لوطنه الأصلي. "وطني فقط هو الذي يستقرّ في روحي. ذكرياتي عن قريتي توفّر لي ملاذا من الحزن والوحدة. أدخل القرية بلا جواز سفر، وعندما أنام أتدثّر بحجارتها المعطرّة".
هذا الضوء يتملّك الإنسان أيضا ويستولي على مشاعره. وبالنسبة للرسّام مارك شاغال، كان هذا احتفالا دينيّا يوميّا بالألوان وتماهياً مع كلّ هو طبيعيّ وبريء ومدهش.
المشي على الأقدام كان جزءا من روتين شاغال طوال حياته. كان يحبّ الريف أكثر من المدينة. ومنذ عام 1950، عاش في "فونس"، وهي بلدة ريفية قديمة من أصول رومانية تطفو فوق جبال الألب. كان كلّ يوم يخرج من حديقة منزله المطليّة جدرانه باللون الأبيض، ويمرّ من أمام أشجار البرتقال والسرو والزيتون تحت وهج الشمس الحارّة، ثم يعبر عددا من المسارات الصخرية التي تصطفّ على جانبيها الأزهار. وبعد ساعة يظهر ثانية وقد علت جبينه الشاحب حبّات عرق أشبه ما تكون باللؤلؤ. وفي تلك الأثناء يكون قد نال قسطا من الانتعاش وأصبح جاهزا للعمل.
كان شاغال يحبّ الحياة بفرح. وبالنسبة له، أن تشمّ رائحة الفواكه الرطبة وتسمع طقطقة الأشجار في الغابات وتشعر بحرارة الشمس اللافحة، هو طقس يوميّ لازم للتجدّد الروحيّ. "الفنّ العظيم يبدأ حيث تنتهي الطبيعة. والأرض تستمرّ في دورانها كلّ الوقت، ونحن أيضا ندور معها طوال الوقت، وحتى عندما نموت فإن الأرض لا تسكن أو تنام. بل تدور معنا أيضا". هكذا كان يقول.
لكن عندما أكمل شاغال عامه الثامن والسبعين، أصبحت حركته أسرع، وأحسّ بأنه أصبح اقرب من أيّ وقت مضى إلى إيقاع الطبيعة. كان يرى في الغيوم العابرة أفضل تجسيد لمرور الوقت وتغيّر الأزمنة بسرعة.
النقّاد طالما أشادوا برحلات شاغال الفانتازية الطائرة التي ابتكرها في لوحاته المبكّرة. وكثيرا ما كانوا يقارنونه بـ سترافينسكي في الموسيقى. لكنّ المؤسّسة الفنّية لم تعترف بإنجازاته حتى أوائل عشرينات القرن الماضي. ومؤخّرا فقط، اعترفت المتاحف بأن تاريخ الفنّ الحديث كان سيبدو باردا وسطحيّا، لولا مناظر شاغال الرقيقة التي كان يعكس من خلالها حبّه للناس وشغفه بالحياة.
عايش شاغال جميع المدارس الفنّية طوال قرن كامل، بدءا بالتكعيبية والسريالية وغيرهما. لكنّه لم يعتنق أيّا منها وبقي صامدا في سعيه وراء حلمه الخاصّ، حتى أصبح لفنّه هذه الجاذبيّة العالميّة الطاغية.
كان يرى انه ليس هناك عالم أكثر واقعيّة من ذلك العالم الذي يتألّف من رموز ينعدم فيها الوزن كتلك التي كان يضمّنها لوحاته. كان يملأ عالمه بمخلوقات وكائنات مختلفة تتحدّى قوانين الهندسة والجاذبية، حيوانات وآلات موسيقيّة وعشّاق طائرين، وكان يعتمد فيها على ذكريات من أيّام طفولته الأولى.
طبيعته المحمولة جوّا ربّما أراد من خلالها أن يحاول جرّ السماء إلى الأرض. "من حقّ أيّ إنسان ينظر إلى لوحاتي أن يفكّر في واقع آخر تتحوّل فيه التفاصيل إلى رموز من الأشكال والألوان. لم أولد كي ابحث عن المتعة. أردت، دون أن يكون في ذهني أيّة مذاهب فنّية، أن أجد شكلا روحانيّا للأشياء".
كانت الأزهار تملأ بيت شاغال وتتنافس مع لوحاته في كلّ مكان. وفي اللحظة التي تبدأ فيها بالذبول، كان يأمر زوجته بأن تلقي بها إلى الخارج. وعندما يقول إن "نهاية الحياة هي باقة ورد"، فإنه يقول ذلك كعاشق للجمال ومدرك لنظام الطبيعة. "عندما تنمو الأزهار بشكل كامل، فإنها تُقطف وهي في ريعان شبابها وتبرعمها. ثم يجمعها الناس لإهدائها كلفتة حبّ. لكنّ صنع الباقة في حدّ ذاته يعني تلاشيها وموتها في نهاية المطاف. لذا فمع اختلاطهما، تبدو الحياة والموت شيئا واحدا في الطبيعة".
الباحثون ما يزالون يجدون صعوبة في إعطاء رقم دقيق لأعمال شاغال المنتشرة في جميع أنحاء العالم. لكن يمكننا أن نضعها في خانة الآلاف.
لوحته المذهلة بعنوان "نزهة" مليئة بالرموز عن الحبّ والسعادة. وقد أصبحت نوعا من المنافيستو. نزهة هي أيضا صورة شخصية للرسّام مع زوجته بيلا. وفيها تبدو الزوجة وهي تحلّق في السماء، وشاغال، الواقف على الأرض بلا استقرار، على وشك أن يطير معها بينما يمسك في يده عصفورا يرمز إلى عمل الرسّام. التحليق تعبير مجازيّ عن الحرّية والسعادة. وشاغال يريد أن يقول إن الحبّ يفعل المعجزات وأن بإمكان العشّاق أن يطيروا ويحلّقوا في مشاعرهم الرومانسية.
في مذكّراته، يتحدّث شاغال مطوّلا عن حنينه لقريته وعشقه لوطنه الأصلي. "وطني فقط هو الذي يستقرّ في روحي. ذكرياتي عن قريتي توفّر لي ملاذا من الحزن والوحدة. أدخل القرية بلا جواز سفر، وعندما أنام أتدثّر بحجارتها المعطرّة".