احد الأشياء المثيرة للاهتمام في التاريخ الصيني هو الطريقة التي يصبح بها البشر آلهة أو مخلوقات قريبة من الآلهة. ومفهوم ولاية السماء في الثقافة الصينية ينطوي على فكرة مؤدّاها أنه إذا كان الحاكم جيّدا فإن السماء تُسرّ لذلك وكلّ شيء يسير على ما يرام. وإن كان سيّئا فإن السماء تُظهر استياءها من خلال الزلازل والفيضانات وغيرها من كوارث الطبيعة التي تُعتبر مؤشّرات على وجوب إطاحة الحاكم وتغييره.
في القرن الخامس قبل الميلاد، كان لدى أوربّا سقراط، وكان لدى الصين كونفوشيوس. وكلا هذين الفيلسوفين كانا منشغلين بالتنظير عن الأخلاق وعن طبيعة العلاقة التي يجب أن تسود بين الفرد والدولة.
وقد اعتاد كثير من الناس على أن ينظروا إلى كونفوشيوس باعتباره الشخص الذي وضع حجر الأساس للفلسفة السياسية الصينية، مع انه إنّما كان يعيد تشكيل أفكار كانت قد أخذت في التبلور على مرّ قرون عديدة.
معلّم كونفوشيوس، وربّما أبوه الروحي، كان شخصا يُدعى الأمير جو. كان هذا الأمير رجل فكر ودولة. وقد اقترن اسمه بتأسيس سلالة جو التي حكمت الصين في القرن الحادي عشر قبل الميلاد.
في زمن الأمير جو وتحت سلطة شقيقه، كانت هناك في شمال الصين مدن ونظم للزراعة والتجارة. لكن لم تكن قد ولدت امبراطورية بعد، لأن حكم مملكة كان يتطلّب الكثير من المهارة والذكاء.
وبعد وفاة أخيه، أصبح جو يتصرّف كوصيّ على العرش. وفور أن بلغ ابن أخيه مرحلة النضج بادر إلى تسليمه السلطة.
النبل والسماحة اللذان أبداهما الأمير جو وهو يسلّم السلطة لابن شقيقه أكسبته إعجاب المؤرّخين، كما جعلته يبدو في أعين الناس كنموذج للخيريّة والإيثار طوال تاريخ الصين.
وما فعله هذا الأمير لم يكن يشبه بحال ما كان يفعله أعمام الملوك وأشقّاء الأباطرة وأراملهم ومحظيّاتهم الذين كانوا في الغالب يتصرّفون بشكل سيء عندما يتعلّق الأمر بتوريث السلطة.
وتاريخ صعود وسقوط السلالات الحاكمة في الصين مليء بالقصص المروّعة عن سفك الدماء والموت لأسباب غامضة والرؤوس المقطوعة والأطفال الرضّع الذين يموتون خنقا والأشقّاء والأقارب الذين يُلقى بهم في أسفل الآبار والملوك الذين يموتون بالسمّ، وبقصص عن عائلات أعدمت بأكملها ومنافسين على السلطة مُزّقت أجسادهم إربا.
لكن الأمير جو نجا من هذا المصير الرهيب. وهذا ما جعل منه شخصا مفضّلا عند أتباع كونفوشيوس. كان الإخلاص والالتزام بالعهد وإظهار الاحترام للأسلاف أمورا تقع في قلب الفلسفة السياسية عند هؤلاء. وقد اعتبروا ما فعله جو مع ابن أخيه نزولا من الأوّل على رغبة السماء. كانت ولاية السماء هي الفكرة الكبيرة التي رسّخها الأمير. وكانت تقتضي من الحاكم أن يصبح قدوة وأن ينشر الفضيلة في الأرض ويتناغم مع المقدّس. وفشَلُ الملك في أن يحكم بطريقة عادلة كان يعني نهاية ذلك التناغم الذي لا يمكن استعادته إلا بخلع الملك واختيار آخر.
منذ ثلاثة آلاف عام، وضع الأمير جو للصين قدوة متوهّجة ومثالا للفضيلة أوضحه في فلسفته عن الحاكم المتناغم مع السماء والتي ألهمت كونفوشيوس. وقد كتب الأخير قبل أكثر من ألفين وخمسمائة عام يقول: الحاكم الذي يسوس رعيّته بالفضيلة هو أشبه ما يكون بنجم الشمال الذي يحافظ على مكانه بينما تدور حوله كلّ النجوم".
عندما كتب كونفوشيوس هذه الكلمات كان في ذهنه الأمير جو الذي كان أوّل شخص يخطو خارج منطقة الأسطورة ليدخل التاريخ الحقيقيّ للصين.
الأمير جو يعود إليه الفضل أيضا في إنشاء الطقوس الإمبراطورية، وهي عملية عزّزها كونفوشيوس نفسه الذي ساعد على جعل الصين أمّة طقوسيّة. وما يزال الكثير من هذه الطقوس قائما إلى اليوم. وهي تعبّر في الغالب عن مكانة الشخص في المجتمع أو داخل الأسرة. وليس هذا بالمستغرب، إذ تؤكّد التعاليم الكونفوشية على وجوب أن يطيع الابن والده وأن تطيع الزوجة زوجها.
ومن الأمور الأخرى المهمّة التي ركّزت عليها الكونفوشية واجب الأسلاف على الأحياء. وعبادة الأسلاف في الصين أمر مهم جدّا، لأن الصينيين لا يدينون بدين ولا يؤمنون بإله. غير أنهم جميعا يعبدون الأجداد. وإذا كنت ترغب في ترسيخ مكانتك في المجتمع، فيجب أن يكون لك سلف جيّد، كما ينبغي أن تحتفظ بعلاقة طيّبة مع ذلك السلف.
بالنسبة لكونفوشيوس، كان الأمير جو هو ذلك السلف الصالح بامتياز. كان كونفوشيوس يتطلّع إلى الوراء؛ إلى الأجداد الأسطوريين، لاستخدامهم كنماذج يشكّل من خلالهم أمّة وثقافة الصين.
لكن في عام 1949، حدثت ثورة في الصين. وكانت أوّل خطوة للثوّار تدمير ثقافة كانت تقوم على تبجيل الأسلاف وتعلّم الدروس من حكمهم المثالي.
كان الشيوعيون بزعامة ماو مصرّين على تدمير ماضي البلاد، ومعه نظام العائلة والدين والعادات والتقاليد. وكان ماو يؤمن بأن السلطة السياسية تولد من فوهّة البندقية وأن على الإنسان أن يحاول تعليم أولئك الذين يختلفون معه. لكن إن فشل في تعليمهم فيجب عليه أن يدمّرهم".
على مدى قرن كامل قبل ماو، ظلّت الصين تعاني من احتلال أجزاء متزايدة من أراضيها من قبل المستعمرين الغربيين واليابانيين. وللمرّة الأولى في التاريخ، كانت هذه الحضارة العريقة والواعية تشعر بالبؤس والتخلّف.
وقد بدا للعديد من الصينيين أن فلسفتهم القديمة كانت جزءا من المشكلة وسببا في تخلّف بلدهم. لذا أمر ماو الصينيين بأن يديروا ظهرهم لتعاليم كونفوشيوس. وكان أوّل ما فعله الشيوعيون بعد استيلائهم على السلطة عام 1949 هو إلقاء كونفوشيوس والأمير جو من النافذة.
وفي عام 1966، أي في ذروة ما سُمّي بالثورة الثقافية، اكتسح عشرة ملايين من أفراد الحرس الأحمر بيجين ودمّروا الآلاف من الآثار والمعابد والتماثيل وحرقوا الكتب والتحف والقطع الفنية وحطّموا كلّ ما استطاعوا العثور عليه من تاريخ وتراث الصين.
لكن عندما توفّي ماو بعد ذلك بعشر سنوات، ماتت معه الثورة الثقافية والهجوم على التاريخ. وكان هذا هو الوقت المناسب كي تعود الصين إلى البدايات.
بعد انتهاء الثورة الثقافية، كانت الحكومة الصينية، وكذلك الشعب، بحاجة ماسّة إلى ايديولوجيا جديدة، بعد أن تسبّبت فلسفة ماو وأفكاره في إحداث ضرر فادح بالبلاد. لذا جاءت الكونفوشية بهدوء لتملأ الفراغ من جديد.
واليوم عاد كونفوشيوس إلى مكان الصدارة في الصين. كما استعاد الأمير جو شعبيّته أيضا. والكثير من الناس يتحدّثون الآن عن الأمير وعن عبادة الأسلاف وعن نظام ولاية السماء بطريقة أكثر إيجابية، ما يعكس تغييرا في تفكير المجتمع.
وهناك من يرى أن السبب في أن هذه الحقائق والأفكار البسيطة عاشت بعد كلّ هذه الألوف من السنين هو أنها ساعدت أجيالا عديدة من الصينيين على فهم الطبيعة والثقافة التي شكّلتهم وعلى ألا يفرّطوا في هويّتهم حتى في مواجهة التغييرات الاجتماعية الهائلة.
ولا يكاد يمرّ شهر دون أن تفتتح الحكومة الصينية معهدا لكونفوشيوس في مكان ما من العالم لتعليم اللغة والثقافة الصينية ولإبراز القوّة الناعمة للصين. وهناك الآن ما يقرب من ألف معهد في أكثر من مائة بلد حول العالم.
وعلى مقربة من مقرّ الحزب الشيوعي في بيجين، يقوم تمثال لكونفوشيوس يظهر فيه وهو يحدّق في الجموع بطمأنينة. وفي مكان ما من عالم الروح، يلوح خيال الأمير جو وهو يبتسم من وراء عباءته المرصّعة باليَشَب الأخضر.
في القرن الخامس قبل الميلاد، كان لدى أوربّا سقراط، وكان لدى الصين كونفوشيوس. وكلا هذين الفيلسوفين كانا منشغلين بالتنظير عن الأخلاق وعن طبيعة العلاقة التي يجب أن تسود بين الفرد والدولة.
وقد اعتاد كثير من الناس على أن ينظروا إلى كونفوشيوس باعتباره الشخص الذي وضع حجر الأساس للفلسفة السياسية الصينية، مع انه إنّما كان يعيد تشكيل أفكار كانت قد أخذت في التبلور على مرّ قرون عديدة.
معلّم كونفوشيوس، وربّما أبوه الروحي، كان شخصا يُدعى الأمير جو. كان هذا الأمير رجل فكر ودولة. وقد اقترن اسمه بتأسيس سلالة جو التي حكمت الصين في القرن الحادي عشر قبل الميلاد.
في زمن الأمير جو وتحت سلطة شقيقه، كانت هناك في شمال الصين مدن ونظم للزراعة والتجارة. لكن لم تكن قد ولدت امبراطورية بعد، لأن حكم مملكة كان يتطلّب الكثير من المهارة والذكاء.
وبعد وفاة أخيه، أصبح جو يتصرّف كوصيّ على العرش. وفور أن بلغ ابن أخيه مرحلة النضج بادر إلى تسليمه السلطة.
النبل والسماحة اللذان أبداهما الأمير جو وهو يسلّم السلطة لابن شقيقه أكسبته إعجاب المؤرّخين، كما جعلته يبدو في أعين الناس كنموذج للخيريّة والإيثار طوال تاريخ الصين.
وما فعله هذا الأمير لم يكن يشبه بحال ما كان يفعله أعمام الملوك وأشقّاء الأباطرة وأراملهم ومحظيّاتهم الذين كانوا في الغالب يتصرّفون بشكل سيء عندما يتعلّق الأمر بتوريث السلطة.
وتاريخ صعود وسقوط السلالات الحاكمة في الصين مليء بالقصص المروّعة عن سفك الدماء والموت لأسباب غامضة والرؤوس المقطوعة والأطفال الرضّع الذين يموتون خنقا والأشقّاء والأقارب الذين يُلقى بهم في أسفل الآبار والملوك الذين يموتون بالسمّ، وبقصص عن عائلات أعدمت بأكملها ومنافسين على السلطة مُزّقت أجسادهم إربا.
لكن الأمير جو نجا من هذا المصير الرهيب. وهذا ما جعل منه شخصا مفضّلا عند أتباع كونفوشيوس. كان الإخلاص والالتزام بالعهد وإظهار الاحترام للأسلاف أمورا تقع في قلب الفلسفة السياسية عند هؤلاء. وقد اعتبروا ما فعله جو مع ابن أخيه نزولا من الأوّل على رغبة السماء. كانت ولاية السماء هي الفكرة الكبيرة التي رسّخها الأمير. وكانت تقتضي من الحاكم أن يصبح قدوة وأن ينشر الفضيلة في الأرض ويتناغم مع المقدّس. وفشَلُ الملك في أن يحكم بطريقة عادلة كان يعني نهاية ذلك التناغم الذي لا يمكن استعادته إلا بخلع الملك واختيار آخر.
منذ ثلاثة آلاف عام، وضع الأمير جو للصين قدوة متوهّجة ومثالا للفضيلة أوضحه في فلسفته عن الحاكم المتناغم مع السماء والتي ألهمت كونفوشيوس. وقد كتب الأخير قبل أكثر من ألفين وخمسمائة عام يقول: الحاكم الذي يسوس رعيّته بالفضيلة هو أشبه ما يكون بنجم الشمال الذي يحافظ على مكانه بينما تدور حوله كلّ النجوم".
عندما كتب كونفوشيوس هذه الكلمات كان في ذهنه الأمير جو الذي كان أوّل شخص يخطو خارج منطقة الأسطورة ليدخل التاريخ الحقيقيّ للصين.
الأمير جو يعود إليه الفضل أيضا في إنشاء الطقوس الإمبراطورية، وهي عملية عزّزها كونفوشيوس نفسه الذي ساعد على جعل الصين أمّة طقوسيّة. وما يزال الكثير من هذه الطقوس قائما إلى اليوم. وهي تعبّر في الغالب عن مكانة الشخص في المجتمع أو داخل الأسرة. وليس هذا بالمستغرب، إذ تؤكّد التعاليم الكونفوشية على وجوب أن يطيع الابن والده وأن تطيع الزوجة زوجها.
ومن الأمور الأخرى المهمّة التي ركّزت عليها الكونفوشية واجب الأسلاف على الأحياء. وعبادة الأسلاف في الصين أمر مهم جدّا، لأن الصينيين لا يدينون بدين ولا يؤمنون بإله. غير أنهم جميعا يعبدون الأجداد. وإذا كنت ترغب في ترسيخ مكانتك في المجتمع، فيجب أن يكون لك سلف جيّد، كما ينبغي أن تحتفظ بعلاقة طيّبة مع ذلك السلف.
بالنسبة لكونفوشيوس، كان الأمير جو هو ذلك السلف الصالح بامتياز. كان كونفوشيوس يتطلّع إلى الوراء؛ إلى الأجداد الأسطوريين، لاستخدامهم كنماذج يشكّل من خلالهم أمّة وثقافة الصين.
لكن في عام 1949، حدثت ثورة في الصين. وكانت أوّل خطوة للثوّار تدمير ثقافة كانت تقوم على تبجيل الأسلاف وتعلّم الدروس من حكمهم المثالي.
كان الشيوعيون بزعامة ماو مصرّين على تدمير ماضي البلاد، ومعه نظام العائلة والدين والعادات والتقاليد. وكان ماو يؤمن بأن السلطة السياسية تولد من فوهّة البندقية وأن على الإنسان أن يحاول تعليم أولئك الذين يختلفون معه. لكن إن فشل في تعليمهم فيجب عليه أن يدمّرهم".
على مدى قرن كامل قبل ماو، ظلّت الصين تعاني من احتلال أجزاء متزايدة من أراضيها من قبل المستعمرين الغربيين واليابانيين. وللمرّة الأولى في التاريخ، كانت هذه الحضارة العريقة والواعية تشعر بالبؤس والتخلّف.
وقد بدا للعديد من الصينيين أن فلسفتهم القديمة كانت جزءا من المشكلة وسببا في تخلّف بلدهم. لذا أمر ماو الصينيين بأن يديروا ظهرهم لتعاليم كونفوشيوس. وكان أوّل ما فعله الشيوعيون بعد استيلائهم على السلطة عام 1949 هو إلقاء كونفوشيوس والأمير جو من النافذة.
وفي عام 1966، أي في ذروة ما سُمّي بالثورة الثقافية، اكتسح عشرة ملايين من أفراد الحرس الأحمر بيجين ودمّروا الآلاف من الآثار والمعابد والتماثيل وحرقوا الكتب والتحف والقطع الفنية وحطّموا كلّ ما استطاعوا العثور عليه من تاريخ وتراث الصين.
لكن عندما توفّي ماو بعد ذلك بعشر سنوات، ماتت معه الثورة الثقافية والهجوم على التاريخ. وكان هذا هو الوقت المناسب كي تعود الصين إلى البدايات.
بعد انتهاء الثورة الثقافية، كانت الحكومة الصينية، وكذلك الشعب، بحاجة ماسّة إلى ايديولوجيا جديدة، بعد أن تسبّبت فلسفة ماو وأفكاره في إحداث ضرر فادح بالبلاد. لذا جاءت الكونفوشية بهدوء لتملأ الفراغ من جديد.
واليوم عاد كونفوشيوس إلى مكان الصدارة في الصين. كما استعاد الأمير جو شعبيّته أيضا. والكثير من الناس يتحدّثون الآن عن الأمير وعن عبادة الأسلاف وعن نظام ولاية السماء بطريقة أكثر إيجابية، ما يعكس تغييرا في تفكير المجتمع.
وهناك من يرى أن السبب في أن هذه الحقائق والأفكار البسيطة عاشت بعد كلّ هذه الألوف من السنين هو أنها ساعدت أجيالا عديدة من الصينيين على فهم الطبيعة والثقافة التي شكّلتهم وعلى ألا يفرّطوا في هويّتهم حتى في مواجهة التغييرات الاجتماعية الهائلة.
ولا يكاد يمرّ شهر دون أن تفتتح الحكومة الصينية معهدا لكونفوشيوس في مكان ما من العالم لتعليم اللغة والثقافة الصينية ولإبراز القوّة الناعمة للصين. وهناك الآن ما يقرب من ألف معهد في أكثر من مائة بلد حول العالم.
وعلى مقربة من مقرّ الحزب الشيوعي في بيجين، يقوم تمثال لكونفوشيوس يظهر فيه وهو يحدّق في الجموع بطمأنينة. وفي مكان ما من عالم الروح، يلوح خيال الأمير جو وهو يبتسم من وراء عباءته المرصّعة باليَشَب الأخضر.