ممّا يُؤثر عن جبران خليل جبران قوله: إن كنت لا ترى غير ما يكشف عنه الضوء ولا تسمع غير ما يعلن عنه الصوت، فأنت في الحقيقة لا ترى ولا تسمع".
هذه العبارة البليغة ذكّرتني بعبارة أخرى، جميلة هي أيضا وتناسب هذا المقام، قرأتها منذ بعض الوقت، يقول كاتبها أنك عندما تدخل بيتا قديما رحل عنه أهله ستداهمك رهبة غامضة ولن تشعر أبدا انك في العراء. فالبيوت المهجورة ما تزال تنبض بأرواح وأنفاس وملامح الراحلين الذين كانوا يملئونها بالحياة. وما يزال هناك أصوات وآثار وروائح وخُطى.
ولا شكّ أن في حياة كلّ واحد منّا بيتا قديما يخبّئ الكثير من الذكريات الملوّنة والقصص الجميلة من زمن الطفولة.
قبل أعوام، وكان قد مضى على انتقالنا إلى بيتنا الجديد حوالي عشر سنوات، كنت معتادا على أن ازور بيتنا القديم مرّة في العام متفقّدا ممرّاته وغرفه ومتذكّرا كلّ زاوية فيه ارتبطت بقصّة أو حكاية من الزمن الماضي عندما كنّا نعيش هناك.
وكنت كلّما ذهبت إلى هناك تمثّلتُ كلمات أغنية الفنّان الجميل وديع الصافي رحمه الله: يا بيتنا يا موطن الاحرار ، مثل دارك ما تعمّر دار. رجعنا نضوّي سراجك المطفي، ونسمع حكاية جدّنا الختيار".
وفي إحدى السنوات، وأثناء إحدى زياراتي للبيت، لاحظت أن الحديقة التي كانت أمّي قد زرعت فيها بعض الأزهار ونباتات الزينة، بالإضافة إلى شجرتين كبرتا في ما بعد وأصبحت ظلالهما الوارفة تغطّي الفناء كلّه، قد جفّت تماما تقريبا وأن سقف المطبخ المبنيّ فوق السطوح أصبح متداعيا بفعل المطر والرياح.
جلست أتأمّل المنظر بحزن. وفي ذلك المكان المكشوف تحت السماء مباشرة وحيث الأفق المفتوح المشبع بالنسائم الجبلية، لمحت التنّور، أو بالأصح ما تبقّى منه. هنا كانت والدتي تعدّ لنا الخبز ونحن صغار في عزّ الشتاء. ولم يكن يثنيها عن تلك المهمّة البرد القارس ولا الأمطار الغزيرة أو أصوات الرعد التي تصمّ الآذان.
في تلك الأيّام، كانت الشمس تختفي طوال شهر كامل لا تكفّ خلاله الأمطار عن الهطول، سواءً في النهار أو الليل. وكانت درجة الحرارة تصل بالكاد إلى ما فوق الصفر بقليل، مع طبقة من الضباب الذي يتشكّل فوق قمم الجبال ثم لا يلبث أن يأخذ طريقه نزولا إلى القرى المتناثرة أسفل متخلّلا دروبها وأزقّتها وبساتينها. ومع ذلك كنّا ونحن أطفال نفرح كثيرا بتلك الأجواء لأنها تعفينا عن الذهاب إلى المدرسة وتقنع أهلنا بإبقائنا داخل البيوت كي ننعم بالدفء والراحة.
مرّت سنوات والبيت المهجور يقاوم كلّ علامات البِلى والتلاشي. وذات سنة كاشَفَنا أبي، الطيّب والخيّر بطبعه، بنيّته بهدم البيت وتحويل أرضه إلى مقبرة يدفن فيها الناس موتاهم.
وبالفعل تمّ هدم البيت وسُوّي بالأرض ثمّ اُحيط فراغه بسياج. صحيح أنني حزنت على المصير الذي انتهى إليه، لكن ما خفّف ذلك الشعور كان حقيقة أن البيت تحوّل إلى وقف ينتفع به عامّة الناس.
والمفارقة أن أمّي كانت أوّل من دُفن هناك، إذ كانت تعاني، لسنوات قبل ذلك، من مرض اختصر حياتها مبكّرا لأنه لم يكن قابلا للشفاء. وفكّرتُ وقتها في أن أبي ربّما استشعر أيضا قرب رحيل الوالدة، وكان في نيّته أن تسكن روحها في ذلك المكان الذي طالما عاشا فيه معا أعواما طوالا.
الآن عندما أتذكّر بيتنا القديم، يطلّ من ثنايا الذاكرة الوجهان الوضّاءان لأبي وأمّي رحمهما الله. وأتذكّر أيضا، من ضمن أشياء أخرى كثيرة، ليالي سمرنا وموقد النار ورائحة الليمون والجوّاف والنعناع والقهوة المرّة في الصباح.
كما أتذكّر عبق البخور ممزوجا برائحة المطر والتراب في بدايات المساء وهي تعطّر أرجاء البيت، قبل أن تتسلّل مع الهواء إلى الخارج لتضفي على الأجواء حميميةً ودفئاً.
وأيضا لا يمكن أن أنسى الأرواح الجميلة التي عرفناها هناك وأسعدتنا وآنستنا. ومن بين هؤلاء جارنا الشاميّ الطيّب الأستاذ مصطفى وزوجته نهلة.
كانت الزوجة ذات تقاطيع جميلة ودقيقة. وإلى اليوم ما أزال أتذكّر ملامحها كلّما رأيت وجه المرأة/الملاك التي تطلّ من لوحة رافائيل المشهورة "مادونا كنيسة سيستينا"، أو كلّما استمعت إلى أغنية بعينها لفيروز لم تكن تملّ من سماعها.
بعد سنوات من وفاة الوالدة، توفّي أبي، هو أيضا، ودُفن إلى جوارها على ثرى بيتنا القديم. وبين هذين التاريخين وبعدهما، احتضنت أرض البيت العديد من رفات أقاربنا الآخرين وغيرهم من الناس البعيدين ممّن اختارهم الله إلى جواره.
منذ أن كنت صبيّا، لا أتذكّر أن أبي عاد إلى البيت ليلة دون أن يصطحب معه ضيفا، عابر سبيل أو غريبا صادفه في الطريق أو لقيه في المسجد، ليكرمه ويؤويه. أرواح كثيرة، بعضها نعرفه ومعظمها لا نعرفه، عبرت باب بيتنا وحلّت في فنائه وضمّتها مجالسه وغرفه عندما كان ما يزال عامرا وضاجّاً بالحياة. وإلى اليوم ما يزال البيت يقوم بتلك المهمّة، وإن بطريقة مختلفة، حتى بعد أن زال من الوجود وأصبح أثرا بعد عين.
للحديث بقيّة..
هذه العبارة البليغة ذكّرتني بعبارة أخرى، جميلة هي أيضا وتناسب هذا المقام، قرأتها منذ بعض الوقت، يقول كاتبها أنك عندما تدخل بيتا قديما رحل عنه أهله ستداهمك رهبة غامضة ولن تشعر أبدا انك في العراء. فالبيوت المهجورة ما تزال تنبض بأرواح وأنفاس وملامح الراحلين الذين كانوا يملئونها بالحياة. وما يزال هناك أصوات وآثار وروائح وخُطى.
ولا شكّ أن في حياة كلّ واحد منّا بيتا قديما يخبّئ الكثير من الذكريات الملوّنة والقصص الجميلة من زمن الطفولة.
قبل أعوام، وكان قد مضى على انتقالنا إلى بيتنا الجديد حوالي عشر سنوات، كنت معتادا على أن ازور بيتنا القديم مرّة في العام متفقّدا ممرّاته وغرفه ومتذكّرا كلّ زاوية فيه ارتبطت بقصّة أو حكاية من الزمن الماضي عندما كنّا نعيش هناك.
وكنت كلّما ذهبت إلى هناك تمثّلتُ كلمات أغنية الفنّان الجميل وديع الصافي رحمه الله: يا بيتنا يا موطن الاحرار ، مثل دارك ما تعمّر دار. رجعنا نضوّي سراجك المطفي، ونسمع حكاية جدّنا الختيار".
وفي إحدى السنوات، وأثناء إحدى زياراتي للبيت، لاحظت أن الحديقة التي كانت أمّي قد زرعت فيها بعض الأزهار ونباتات الزينة، بالإضافة إلى شجرتين كبرتا في ما بعد وأصبحت ظلالهما الوارفة تغطّي الفناء كلّه، قد جفّت تماما تقريبا وأن سقف المطبخ المبنيّ فوق السطوح أصبح متداعيا بفعل المطر والرياح.
جلست أتأمّل المنظر بحزن. وفي ذلك المكان المكشوف تحت السماء مباشرة وحيث الأفق المفتوح المشبع بالنسائم الجبلية، لمحت التنّور، أو بالأصح ما تبقّى منه. هنا كانت والدتي تعدّ لنا الخبز ونحن صغار في عزّ الشتاء. ولم يكن يثنيها عن تلك المهمّة البرد القارس ولا الأمطار الغزيرة أو أصوات الرعد التي تصمّ الآذان.
في تلك الأيّام، كانت الشمس تختفي طوال شهر كامل لا تكفّ خلاله الأمطار عن الهطول، سواءً في النهار أو الليل. وكانت درجة الحرارة تصل بالكاد إلى ما فوق الصفر بقليل، مع طبقة من الضباب الذي يتشكّل فوق قمم الجبال ثم لا يلبث أن يأخذ طريقه نزولا إلى القرى المتناثرة أسفل متخلّلا دروبها وأزقّتها وبساتينها. ومع ذلك كنّا ونحن أطفال نفرح كثيرا بتلك الأجواء لأنها تعفينا عن الذهاب إلى المدرسة وتقنع أهلنا بإبقائنا داخل البيوت كي ننعم بالدفء والراحة.
مرّت سنوات والبيت المهجور يقاوم كلّ علامات البِلى والتلاشي. وذات سنة كاشَفَنا أبي، الطيّب والخيّر بطبعه، بنيّته بهدم البيت وتحويل أرضه إلى مقبرة يدفن فيها الناس موتاهم.
وبالفعل تمّ هدم البيت وسُوّي بالأرض ثمّ اُحيط فراغه بسياج. صحيح أنني حزنت على المصير الذي انتهى إليه، لكن ما خفّف ذلك الشعور كان حقيقة أن البيت تحوّل إلى وقف ينتفع به عامّة الناس.
والمفارقة أن أمّي كانت أوّل من دُفن هناك، إذ كانت تعاني، لسنوات قبل ذلك، من مرض اختصر حياتها مبكّرا لأنه لم يكن قابلا للشفاء. وفكّرتُ وقتها في أن أبي ربّما استشعر أيضا قرب رحيل الوالدة، وكان في نيّته أن تسكن روحها في ذلك المكان الذي طالما عاشا فيه معا أعواما طوالا.
الآن عندما أتذكّر بيتنا القديم، يطلّ من ثنايا الذاكرة الوجهان الوضّاءان لأبي وأمّي رحمهما الله. وأتذكّر أيضا، من ضمن أشياء أخرى كثيرة، ليالي سمرنا وموقد النار ورائحة الليمون والجوّاف والنعناع والقهوة المرّة في الصباح.
كما أتذكّر عبق البخور ممزوجا برائحة المطر والتراب في بدايات المساء وهي تعطّر أرجاء البيت، قبل أن تتسلّل مع الهواء إلى الخارج لتضفي على الأجواء حميميةً ودفئاً.
وأيضا لا يمكن أن أنسى الأرواح الجميلة التي عرفناها هناك وأسعدتنا وآنستنا. ومن بين هؤلاء جارنا الشاميّ الطيّب الأستاذ مصطفى وزوجته نهلة.
كانت الزوجة ذات تقاطيع جميلة ودقيقة. وإلى اليوم ما أزال أتذكّر ملامحها كلّما رأيت وجه المرأة/الملاك التي تطلّ من لوحة رافائيل المشهورة "مادونا كنيسة سيستينا"، أو كلّما استمعت إلى أغنية بعينها لفيروز لم تكن تملّ من سماعها.
بعد سنوات من وفاة الوالدة، توفّي أبي، هو أيضا، ودُفن إلى جوارها على ثرى بيتنا القديم. وبين هذين التاريخين وبعدهما، احتضنت أرض البيت العديد من رفات أقاربنا الآخرين وغيرهم من الناس البعيدين ممّن اختارهم الله إلى جواره.
منذ أن كنت صبيّا، لا أتذكّر أن أبي عاد إلى البيت ليلة دون أن يصطحب معه ضيفا، عابر سبيل أو غريبا صادفه في الطريق أو لقيه في المسجد، ليكرمه ويؤويه. أرواح كثيرة، بعضها نعرفه ومعظمها لا نعرفه، عبرت باب بيتنا وحلّت في فنائه وضمّتها مجالسه وغرفه عندما كان ما يزال عامرا وضاجّاً بالحياة. وإلى اليوم ما يزال البيت يقوم بتلك المهمّة، وإن بطريقة مختلفة، حتى بعد أن زال من الوجود وأصبح أثرا بعد عين.
للحديث بقيّة..