:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الاثنين، مايو 22، 2017

الأصدقاء الثلاثة


هذه قصّة ثلاثة أصدقاء كان كلّ منهم يؤثر الآخر على شخصه ويرى فيه أكثر مما يرى في نفسه. وعندما أصبحوا أشخاصا مهمّين، تدخّلت الصراعات السياسية وتضارب المصالح لتفسد ما كان بينهم من مودّة وإيثار.
وعلى مدى ألف عام، سافرت قصّتهم آلاف الأميال وتناقلها الناس جيلا بعد جيل. وفي النهاية أصبحت جزءا من كتب التاريخ.
كان كلّ من نظام الملك وعمر الخيّام والحسن الصبّاح زملاء دراسة منذ الصغر. وكان كلّ واحد منهم يقدّر الآخر ويثمّن طموحه، وقد تعاهدوا وتواثقوا على انه متى أصاب أيّ منهم مغنما أو سلطة وجب عليه أن يتشاركها مع رفيقيه وألا يختصّ نفسه بشيء دونهما.
نظام الملك، المولود في طوس عام 1018، كان عالما ومثقّفا. ورغم فقره المبكّر، إلا انه حقّق نجاحا معتبرا بفضل عزيمته وقوّة شخصيّته. وقد أهّلته عبقريّته وخبرته في الإدارة لأن يصبح وزيرا ومستشارا للسلطان السلجوقيّ ألب ارسلان، ثمّ وزيرا أوّل لخلفه السلطان ملكشاه.
وعندما تولّى نظام الملك منصبه لم ينسَ وعده الذي قطعه لصديقيه الخيّام والصبّاح. كان الخيّام قد انتقل قبل ذلك الوقت، أي حوالي عام 1070، إلى سمرقند إحدى أقدم مدن آسيا الوسطى. وفيها كتب احد أهمّ كتبه الذي تناول فيه مسائل رياضية.
وأثناء إقامته في سمرقند، بعث إليه صديقه نظام الملك يدعوه للعودة إلى أصفهان كي يقلّده منصبا. وقد لبّى الخيّام الدعوة، لكنه أبدى عدم رغبته في أيّ منصب سياسيّ. فعرض عليه نظام الملك أن يقيم مرصدا مع غيره من الفلكيين البارزين آنذاك، فوافق.
ووفاءً من نظام الملك بوعده القديم، طلب من صديقه الآخر الحسن الصبّاح أن يتولّى منصب رئيس امن البلاط. لكن يبدو أن الصبّاح كان يضع عينه على منصب اكبر في الإمبراطورية. وكما هو متوقّع، نشأ خلاف بين الاثنين.
وقد انزعج نظام الملك من طموحات الصبّاح وأحسّ بالقلق أكثر عندما اتّهمه الأخير علنا بأنه مستبدّ ولا مبالٍ بسبب تفضيله السنّة على الشيعة.
وبدأ نظام الملك ينشر الشائعات عن الصبّاح في بلاط السلطان، ما دفع ملكشاه لأن يأمر باعتقاله، ثم ما لبث أن اصدر عليه حكما بالإعدام.
لكن بتدخّل من الخيّام، سمح السلطان للصبّاح بأن يذهب منفيّا إلى مدينة الريّ التي كان قد قضى فيها سنوات طفولته.
ولأن دائرة الصراع بدأت تتّسع شيئا فشيئا بينه وبين الدولة السلجوقية، شعر الصبّاح انه بحاجة إلى مقرّ حصين يحميه وأتباعه من هجمات خصومهم الكثيرين.
وفي عام 1090، اتّخذ له مقرّا في قلعة آلاموت، التي يعني اسمها بالفارسية عشّ النسر، وتقع على الطرف الجنوبيّ لجبال البورز في منتصف المسافة بين طهران وبحر قزوين. وقد بنى الصبّاح للقلعة دفاعات إضافية وشيّد بداخلها قنوات للريّ وأسّس مكتبة ضخمة ومركزا لتعليم الرياضيات والفلسفة والفلك.
في تلك الأثناء، ولسبب ما، أقيل نظام الملك من منصبه كوزير أعظم، ثم ما لبث أن قُتل غيلةً عام 1092م. وقيل إن الاغتيال ربّما كان سببه التنافس بين فرقتي الأحناف والشوافع. وقد يكون وراءه الحسن الصبّاح الذي أصبح خصما شخصيّا لصديقه القديم وفي حالة عداء مع الدولة.
وقيل أيضا أن نظام الملك قُتل على يد متصوّف أو درويش كان يحمل له هديّة خبّأ بداخلها خنجرا مسموما. وأشيع كذلك انه قُتل بإيعاز من ملكشاه نفسه أو زوجته ضمن لعبة صراع داخليّ على السلطة. وكانت آخر كلماته قبل أن يموت: أرجوكم لا تقتلوا قاتلي لأنني عفوت عنه".


كان نظام الملك واحدا من ألمع الوزراء الذين عرفتهم بلاد الشرق. وقد شجّع دراسة العلوم والفنون الإسلامية وصرف أموالا كثيرة على طلب العلم والمعرفة ووضع نظاما للجيش وبنى العديد من المكتبات.
في قلعة آلاموت، كان الانضباط والولاء والطاعة المطلقة اشدّ أسلحة الحسن الصبّاح قوّة ومضاءً. وقد أصبح هو وجماعته يُدعون بالأساسيّين، أي المتمسّكين بالأسس أو الأصول. لكن الكلمة تُرجمت خطئا إلى اللغات اللاتينية لتصبح الحشّاشين أو القتلة.
وبفضل بعض الرحّالة مثل ماركوبولو، انتشرت قصص خيالية وأقرب ما تكون إلى الخرافات عن جنّة الحليب والعسل والنساء والحشيش التي أقامها الصبّاح في قلعته.
ماركوبولو أشار إلى انه زار آلاموت عام 1273، وهذا أمر مستغرب لأن القلعة كانت قد دُمّرت قبل ذلك بأكثر من عشرين عاما، بعد أن استولى عليها المغول وقتلوا سكّانها ودمّروا مكتبتها.
كان الصبّاح ابن رجل فارسيّ من الشيعة. ومع مرور الوقت تبنّى هو وأتباعه مذهب الدولة الفاطمية في مصر. كان شخصا ذكيّا وذا دراية بالعلوم والرياضيات. كما وُصف بأنه تقيّ وعادل. ويقال انه عانى كثيرا بعد أن أمر بقتل ولديه، الأوّل لأنه تناول الخمر والثاني لضلوعه في جريمة قتل.
وقد سُمّي الصبّاح بشيخ الجبل لأنه لم يغادر قلعته طوال ثلاثين عاما إلى أن مات فيها في مايو من عام 1124 عن ثمانين عاما.
باغتيال نظام الملك، عمّت الثورات والقلاقل أرجاء الإمبراطورية السلجوقية. وتقاسم أبناء الحكّام إدارة الأقاليم، ونشأت بعد ذلك إمارات صغيرة متناثرة وغير مستقرّة.
وكانت تلك الأحداث إيذانا بزوال دولة السلاجقة الذين ينحدرون من قبيلة تركيّة قدمت من سهوب آسيا الصغرى. وكانوا قد أسّسوا لهم إمبراطورية واتّخذوا من بلاد فارس عاصمة لملكهم.
ويُنسب إلى السلاجقة الفضل في أنهم أعادوا الوحدة الإسلامية مرّة ثانية تحت حكم الخلافة السنّية. وبحلول عام 1060، كانت إمبراطوريّتهم تضمّ أراضي بلاد الرافدين وسوريا وفلسطين ومعظم إيران.
أثناء تولّيه وظيفته في المرصد، عاش عمر الخيّام فترة من السلام الداخليّ امتدّت لعشرين عاما، حقّق خلالها العديد من الانجازات الفلكية والعلمية.
لكن موت نظام الملك ثم ملكشاه أنهى سنوات السلام التي عاشها. فقد توقّف تمويل مرصده، كما تعرّض لهجوم وأذى الأصوليين المتشدّدين الذين لم تتوافق أفكارهم المتحجّرة مع عقليّته المتفتّحة والمتسائلة. وتوفّي في نفس المدينة التي ولد فيها، أي نيشابور، في الرابع من ديسمبر عام 1131م.
الخيّام، المولود في مايو من عام 1048م، أي بعد حوالي عشر سنوات من وفاة العالم العظيم ابن سينا، كان يتقن العربية إلى جانب الفارسية. ويقال أن أسلافه كانوا من العرب صُنّاع الخيام الذين هاجروا إلى بلاد فارس قبل قرون واستقرّوا فيها.
والغريب أن معاصريه لم يذكروا أشعاره ولم يعلّقوا عليها في زمانه، ربّما لأنه كان مشهورا أكثر بوصفه عالما وفيلسوفا وفلكيّا. ولم تظهر أوّل مجموعة من الرباعيّات التي تحمل اسمه إلا بعد وفاته بمائتي عام.
قصّة الخيّام ونظام الملك والحسن الصبّاح كُتبت مرارا وغُيّر فيها وبُدّل لتخدم مجموعة من الأغراض السياسية. وما تزال الروايات حول هذه القصّة مشوّشة ومتضاربة. ويبدو أن الأسطورة هي التي عاشت وترسّخت، بينما طُمرت الحقيقة تحت ركام الحروب وغبار الزمن.

Credits
researchgate.net