:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الثلاثاء، ديسمبر 31، 2024

حياة بين الأشجار


في رواية "البارون بين الأشجار"، يسرد الروائي الإيطالي ايتالو كالڤينو قصّة كوزيمو دي روندو، الابن الأكبر لدوق منطقة ليغوريا الإيطالية قبل عصر التنوير. كانت هذه المنطقة الواقعة شمال غرب إيطاليا مغطّاة بالغابات زمن حدوث القصّة، أي أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر.
والقصّة يرويها شقيق كوزيمو الصغير بياجيو الذي يقول: كانت حياة كوزيمو غير عاديّة، بينما حياتي عادية ومتواضعة. ومع ذلك قضينا طفولتنا معاً، كلانا غير مبالٍ بهوس الكبار ويحاول العثور على مسارات لا يسلكها الآخرون".
وعندما يملّ كوزيمو من حياة البذخ والإجراءات المشدّدة التي يفرضها والده، يقرّر التمرّد على كلّ ذلك ويتسلّق شجرة بلّوط كبيرة في حديقتهم ويرفض النزول من هناك. وسرعان ما يدرك كوزيمو أنه لن يضع قدميه على الأرض مرّة أخرى عندما يعلم أن شجرة البلّوط متّصلة بالغابة الكبرى المجاورة. ومن هناك أصبحت المنطقة بأكملها مفتوحة أمامه.
ويصف كالڤينو، وعلى لسان بياجيو، جمال المنطقة وروعة الألوان فيها بقوله:
في تلك الأيّام، أينما ذهبنا، كانت الأوراق والأغصان تفصلنا عن السماء. وكانت أشجار الليمون تنمو بالقرب من الأرض، وأشجار التين بأشكالها الملتوية تمدّ قبابها ذات الأوراق الثقيلة فوق البساتين باتجاه التلال. وكانت هناك أيضا أغصان كرز وسفرجل وخوخ ولوز وكمثرى وبرقوق وتفاح وخرّوب وتوت وجوز."
في شجرة البلّوط يكوّن كوزيمو أصدقاء جددا، ويتعلّم مهارات جديدة ويخلق لنفسه حياة بين الأشجار. وفيها أيضا يتعلّم الصيد، ويبدأ في الاهتمام بالأدب والفلسفة، ويجد طريقة لأخذ الخير وترك الشرّ في عالمه، ويتكيّف مع التقدّم الجديد في الفكر والعلم القادم من عصر التنوير، مع الحفاظ على مسافة بينه وبين أسلوب الحياة القديم الذي يموت بسرعة.
وُلِد إيتالو كالڤينو في هافانا بكوبا عام 1923، لكنه قضى شبابه في سان ريمو بإيطاليا وما حولها، حيث كانت عائلته توزّع وقتها بين مزرعة زهور تجريبية في المدينة ومنزل ريفيّ في التلال تُزرع فيه أصناف من الفاكهة الاستوائية مثل الغريب فروت والأفوكادو. وقد اعترف الكاتب ذات مرّة بتجربة الملل خلال طفولته. لذا من السهل أن نتخيّله بساقيه الفاترتين جالسا في إحدى أشجار والده وهو يقرأ روبرت ستيفنسون أو فرانز كافكا، كسلف حيّ لكوزيمو دي روندو بطل الرواية.
يقول كالڤينو في مقابلة صحفية أجريت معه منذ سنوات: كان والدي عالماً زراعياً، وكانت والدتي عالمة نبات. كانا مهتمّين بشدّة بعالم النباتات والعلوم الطبيعية. لكنهما أدركا في وقت مبكّر جدّاً أنني لا أميل إلى هذا التخصّص".


في جوهرها، تُعدّ رواية "البارون في الأشجار" قصّة إبداعية نقدية تتناول الهويّة الفردية والاستقلالية. فعندما يوشك كوزيمو على الدخول في سنّ المراهقة، يرفض التقاليد ويخطو بدلاً من ذلك إلى فضاء كوني على الأرض يكتشفه بين قمم الأشجار.
وعلى ذلك الارتفاع، يكتشف وريث الدوقية منظومة معقّدة من الأشجار القادرة بطبيعتها على توفير المأوى والممرّ له. وفي أغصان مملكته الشجرية الجديدة، يخطو من شجر البلّوط إلى شجر الدردار، ومن شجر الخرّوب إلى شجر التوت، قبل أن يدخل حديقة جارته أوندريفا مارّا عبر شجرة ماغنوليا. وإذا كان كوزيمو قد دخل الأشجار ليثبت استقلاليته بقوّة، فقد ظلّ بين الأشجار تعبيرا عن رؤيته الثابتة للحب.
في حديقة أوندريفا، كانت الأغصان ممتدّة مثل مخالب حيوانات غريبة، وكانت النباتات على الأرض تتفتّح على هيئة نجوم من الأوراق المتعرّجة مثل جلود الزواحف الخضراء. وكانت أشجار الخيزران الأصفر الريشي تلوّح بحفيف كالورق. ومن أعلى شجرة، كان كوزيمو، في شوقه إلى الاستمتاع إلى أقصى حدّ بالخضرة غير العاديّة لهذه النباتات الغريبة وأضوائها المختلفة وصمتها، يترك رأسه يسقط رأسا على عقب، حتى تصبح الحديقة غابة؛ غابة ليست من هذه الأرض، بل عالم آخر.
أوصاف كالڤينو للأشجار هي من أكثر العناصر التي تسحر قارئ هذا الكتاب. فهو يصف كيف كانت أشجار الزيتون، بسبب أشكالها المتعرّجة، ممرّات مريحة وسهلة لكوزيمو، أشجارا صبورة ذات لحاء خشن ودود يستطيع أن يمرّ أو يتوقّف فوقها، على الرغم من ندرة الأغصان السميكة ورتابة الحركة الناجمة عن أشكالها.
وكوزيمو يعيش حياته كلّها بين الأشجار. وكالڤينو يحاول أن يثْبت مدى طبيعية هذه الحياة. هناك يواصل كوزيمو تعليمه، يراسل الفلاسفة، ويعترف به فولتير ونابليون، وينام ويغتسل ويصطاد، ويقع في حبّ العديد من النساء ويصادق مجرماً ويزوّده بسيل مستمر من موادّ القراءة، ويقاتل القراصنة والجيوش الغازية، ويحْضر جنازة والده، ويحصل في النهاية على لقب "بارون"، كلّ ذلك وهو يمشي على قمم الأشجار "بخطوات قطّة".
ويصل البارون إلى هذه النقطة من الوحدة وهو يعيش بين الأشجار، وهو الذي قضى ليالي يستمع إلى النسغ الذي يجري في خلاياها، والدوائر التي تحدّد السنوات داخل جذوعها، وبقع تَحلُّل الجذور التي تنمو على نحو متزايد بمساعدة رياح الشمال، والطيور النائمة المرتعشة في أعشاشها التي تعيد وضع رؤوسها على ريش أجنحتها الناعم، واليرقات التي تستيقظ والشرنقات التي تتفتّح.
ومن عجيب المفارقات أن كوزيمو يظلّ ثابتا على الأرض. فهو يحتفظ بمسافة بينه وبين الآخرين ويحافظ على هويّته. وفي وقت لا يبدو فيه أيّ شيء مؤكّدا، فإنه يظلّ بين الأشجار.
رواية "البارون بين الأشجار" هي عن الاحتجاج على الروتين وقسوة الحياة، فضلاً عن الاحتفال بالإقصاء الاجتماعي. كما أنها تتحدّث عن التعامل مع الفردية والموازنة بين اتصالك بالعالم الحقيقي واتصالك بنفسك. وهي تعكس الى حدّ ما الماضي غير البعيد للفاشية الإيطالية التي شعر كالفينو أنها حرمته من طفولته. كما أنها تشير إلى أن كلّ شخص لديه نسخته الخاصّة من هروب كوزيمو.
هذه الرواية ليست الكتاب الوحيد الذي استخدم الغابة والأشجار كملاذ من مجتمع مخيف وخانق. ففي كتابه الكلاسيكي "والدن"، يصف المؤلّف الأمريكي هنري ديفيد ثورو كيف أنه ترَكَ الحضارة، تماما مثل "البارون بين الأشجار"، من أجل البحث عن جوهر الحياة في الغابة.

Credits
theconversation.com

الاثنين، ديسمبر 30، 2024

سجّاد لوتو


اللوحة التي فوق تعود الى عام 1520، وفيها يرسم الفنّان الإيطالي لورينزو لوتو قدّيسا يُدعى أنطونيوس من بادوفا عُرف بعطفه على المساكين والفقراء، وهو يوزّع الصدقات على المحتاجين الذين يتوسّلون عطفه.
العنصر الأكثر لفتاً للاهتمام في اللوحة هو السجّادة الإسلامية التي تغطّي الشرفة التي يستند اليها القدّيس، وهي تأكيد لما عُرف عن الرسّام من براعة في استخدام الضوء والألوان النابضة بالحياة لتعزيز العمق العاطفي والإنساني للمشهد.
السجّاد المنسوج في العالم الإسلامي منذ القرن الرابع عشر فصاعدا نرى بعض صوره في لوحات الرسم الأوروبي التي تشكّل مصدرا أساسيا للدراسات حول السجّاد المبكّر. كما أن العديد من مجموعات السجّاد الإسلامي من الشرق الأوسط تسمّى اليوم بأسماء الرسّامين الأوروبّيين الذين صوّروها، مثل هولباين وجيرلاندايو وكريفيلي.
لكن أشهر هؤلاء كان لورينزو لوتو الذي اشتهر بتصميم السجّاد الشرقي في القرن السادس عشر، أي عندما وصل فنّ النسج الى ذروته، إن من حيث عدد السجّاد المُنتج أو جودة التصاميم. وكانت طلبات نسج السجّاد تأتي من قبل أفراد العائلات المالكة والنبلاء الأثرياء. كان السجّاد وقتها يُقدّم كهدايا سياسية، وكان اقتناء السجّاد القادم من الإمبراطورية العثمانية يُعتبر علامة على الثروة والمكانة في إيطاليا وفي جميع أنحاء أوروبّا.
وكان من الممكن أن تضيع الكثير من تحف السجّاد مع مرور الزمن وإلى الأبد، لولا أعمال فنّاني عصر النهضة الذين حافظوا عليها بإدراجها في لوحاتهم. ومن بين أهمّ تلك التحف مجموعة خاصّة من السجّاد الأناضولي العتيق للفنّان لوتو، وأصبحت هذه المجموعة من السجّاد تُعرف باسم "سجّاد لوتو".
كان لوتو معروفا باستخدامه للألوان المشبعة والواقعية. ويتميّز السجّاد الذي رسمه بنمط الحقل المتكرّر مع أنماط هندسية معقّدة من الدانتيل. وعادةً ما تكون التصميمات باللونين الأصفر أو الكريمي على خلفية حمراء غميقة. ويُعتقد أن السجّاد الفعلي أُنتج في منطقة على طول ساحل بحر إيجة في الأناضول.
ولم تكن سجّادات لوتو مناسبة للاستخدام في البلاط العثماني. فالسجّادات التي كانت مخصّصة للاستخدام في الإمبراطورية العثمانية كانت عادةً من النوع ذي التصميم الميدالي مع أنماط نباتية واسعة وكثيرة. أما السجّاد الذي كان يُصنع للتصدير فكان عموما يتّسم بصغر حجمه.


وبالنسبة للسجّاد المصنوع للاستخدام المنزلي في تركيا فكان مخصّصا للاستخدام على الأرضيات. ومع ذلك، في أوروبّا، كان العديد من قطع السجّاد مصنوعة للاستخدام على الطاولات، وهو ما صوّره لوتو في لوحاته "مثل التي فوق".
ومن المرجّح أن الرسّام كان على دراية بهذه السجّادات الهندسية المخصّصة للتصدير، حيث كانت إيطاليا وجهة رئيسية لها. وتبدو حوافّ سجّاد لوتو حاملةً كتابات كوفية، لكن هذه لم تكن كتابة يمكن فهمها، بل صُمّمت لتبدو وكأنها خطّ عربي، أي أنها كانت مجرّد تصميمات زخرفية.
وهناك وثائق تشير إلى أن لوتو كان يمتلك سجّادة كبيرة، على الرغم من أن نمطها غير معروف. وكانت تزيّن حوافّها زخارف عربية صلبة توحي إلى حدّ ما بأوراق الشجر، وتنتهي بسعف نخيل متفرّع. كان هذا النوع شائعا ومعروفا أيضا باسم "سجّاد أوشاك العربي". ومع ذلك، لا يُعرف ما إذا كان أيّ من السجّاد المصوّر في لوحاته من صنعه الخاص، أم أنه رآه في مكان آخر أثناء أسفاره ثم رسَمَه.
ومن منظور تاريخي، تُعدّ سجّادات لوتو مجموعة مهمّة، لأن نمط السجّاد يبدو كما لو أنه ظهر إلى الوجود فجأة ثم اختفى بنفس السرعة. وحتى الآن، ليس هناك تفسير واضح لسبب حدوث هذا. وما نعرفه هو أن هذه السجّادات تحتوي على بعض أروع مجموعات الألوان والأنماط في تاريخ صناعة السجّاد.
لكن العثور اليوم على سجّادة لوتو أصلية أمر يكاد يكون مستحيلاً. ولكن على مرّ السنين، أعيد إنتاجها خلال فترات زمنية مختلفة. وصُنعت بعض النسخ الرائعة منها في أواخر القرن التاسع عشر. وفي كثير من الحالات، من الصعب التمييز بين النسخة والأصل، لأن تقنيات الصباغة والنسج لم تتغيّر كثيرا عبر العصور.
وحتى النسخ التي تعود الى أواخر القرن التاسع عشر تُعتبر تحفا ثمينة. وقد ظهر سجّاد لوتو في لوحات فنّانين مثل موريللو وزورباران في القرن السابع عشر، وكذلك في اللوحات الهولندية من القرن السابع عشر وأحيانا ما بعده.
فيما عدا السجّاد، كان هذا المعلّم الفينيسي، أي لوتو، متخصّصا في رسم صور البورتريهات المشفرّة التي تتضمّن صورة الشخص المرسوم مع رموز للسمات التي تميّزه، كالآلهة الكلاسيكية والابطال القدماء والقدّيسين وسواهم.

Credits
tandfonline.com

السبت، ديسمبر 28، 2024

خواطر في الأدب والفن


  • كتب دوستويڤسكي ذات مرّة يقول: يتحدّث الناس أحيانا عن "الوحشية" التي تتسم بها طبيعة البشر، ولكن هذا ظلم فظيع وإهانة للوحوش، فلا يمكن لأيّ حيوان أن يكون قاسيا مثل الإنسان وبهذه البراعة والتفنّن".
    من المؤلم أن نرى أحيانا مدى القسوة التي يبديها الناس تجاه بعضهم البعض. فقد ابتكر البشر العديد من السبل لإيذاء غيرهم من البشر، جسدياً ونفسياً. ذات مرّة نُظّم في إيطاليا معرض ضخم لأدوات التعذيب التي كانت تُستخدم في العصور الوسطى. وما تضمّنه ذلك المعرض من أدوات كان فظيعاً حقّا. فالأشياء التي كان البشر يفعلونها ببعضهم البعض باسم الله أو باسم الدولة تجعلك تشعر وكأنك تعرّضت أنت نفسك للشرّ أو أنك رأيت شيئاً ما كان ينبغي أن تراه لأنه لم يكن ينبغي له أن يوجد أصلا.
    هناك من يزعم أننا جميعاً نحمل قدرا من القسوة في دواخلنا وأننا كلّنا نملك القدرة على ممارسة البشاعة، وأنه متى أتيحت لنا الفرصة فإننا سنرى مدى القسوة التي يمكن أن نمارسها ضدّ غيرنا من البشر. يقول الروائي هاروكي موراكامي: على الرغم من حسن النوايا، يمكن أن يكون الانسان أنانيّا وقاسيا وقادرا على ارتكاب الشرّ. وباستخدام بعض الأعذار المعقولة، يمكن له أن يُلحق بشخص ما جرحا لا يندمل أبدا".
    وبعض العلماء يقولون إن تعامل الإنسان مع الحيوانات قد يكون مؤشّرا إمّا على إنسانيته أو على طبيعته الشرّيرة. وعن هذه الجزئية يقول شوبنهاور: إن التعاطف مع الحيوانات يرتبط ارتباطا وثيقا بحسن الخلق. ويمكننا أن نؤكّد بثقة أن أولئك الذين يعاملون الحيوانات بقسوة لا يمكن أبدا أن يكونوا أفرادا طيّبين".
    غير أن الطبيعة القاسية لبعض البشر لها أسباب وعوامل مختلفة، كالشعور بالخوف وعدم الرضا عن الذّات وعدم القدرة على الحبّ وانعدام الثقة وعدم القدرة على التواصل مع الآخرين والشعور بالوحدة وما إلى ذلك. وانعدام الرحمة عند بعض الناس هي علامة على وجود اعتلال روحي وعاطفي. ومن المستحيل معالجتها بمعزل عن الظروف التي أوجدتها.
    والقسوة قد تكون علامة على أن الشخص يعيش حياة بائسة وأنه غير راضٍ عن نفسه وعاجز عن التعامل مع تجارب الحياة. وأحيانا يكون من الصعب فهم الطبيعة القاسية لبعض الناس المؤذين، ناهيك عن مسامحتهم. ولكن لا يجب أن ننسى أنهم في النهاية بشر.
    القسّ الإفريقي ديزموند توتو تحدث ذات مرّة، بطريقة متفائلة، عن توحّش الإنسان فقال: لقد سمعت ورأيت العديد من الأمثلة على القسوة التي يمكن أن نُلحقها ببعضنا البعض كبشر. لكنّني أيضا رأيت قدراً لا يُصدّق من التسامح والرحمة. إن كلّ واحد منّا لديه القدرة على ارتكاب أعظم الشرور. ولكن مقابل كلّ فعل شرّير، هناك عشرات الأفعال الطيّبة في عالمنا والتي تمرّ دون أن يلاحظها أحد".
  • ❉ ❉ ❉

  • لوحة "المحادثة" (1912) هي عبارة عن مواجهة رمزية بين رجل وامرأة. المرأة ترتدي زينة داكنة، بينما لا يرتدي الرجل سوى بيجامة، ومع ذلك يظهر بقامة طويلة ومهيمنة. في الصورة، يرسم هنري ماتيس نفسه مع زوجته وهما يواجهان بعضهما البعض أمام خلفية زرقاء. هذه من أهمّ الصور التي رسمها ماتيس خلال فترة إنتاجيّته العالية من عام 1908 إلى عام 1913.
    وكان جامع التحف الروسي سيرغي شتشوكين قد اقتنى هذه اللوحة مباشرة من الفنّان في باريس. كان شتشوكين قد جمع في بداية القرن العشرين أعمال فنّانين غير معروفين آنذاك وكثيراً ما كانوا محلّ سخرية الجمهور والنقّاد، مثل ماتيس وغوغان ومونيه وسيزان وفان غوخ ودونيه وديغا ورينوار وغيرهم.
    وقد تعرّض شتشوكين للتوبيخ والسخرية عندما علّق بعض قطع الفنّ الطليعي في قصره ودعا مجتمع موسكو لمشاهدتها. ولكنه كان رجلاً يتمتّع بالذكاء وبعد النظر. واستمرّ في شراء أعمال أخرى كان يتفاعل معها ويحبّها رغم أنها لم تكن تروق للذوق السائد آنذاك. وتضخّمت مجموعته الفنيّة مع مرور الأيّام وأصبح يمتلك 38 لوحة لماتيس و50 لبيكاسو بالإضافة الى العديد من الأعمال الرمزية.
    وبعد نشوب الثورة الروسية عام 1917، صودرت مجموعة شتشوكين، ومن بينها لوحة "المحادثة"، ثم تبرّعت بها الدولة لمتحفي بوشكين للفنون الجميلة في موسكو والإرميتاج في سانت بطرسبرغ.
    "المحادثة" لوحة كبيرة الحجم، وماتيس يظهر فيها في وضع جانبي، وهو يقف الى اليسار مرتديا بيجامة مخطّطة، بينما تجلس زوجته اميلي الى اليمين. وهناك نافذة في منتصف الجدار الأزرق خلفهما تطلّ على منظر طبيعي لحديقة. بعض النقّاد لاحظوا غلبة الأزرق على اللوحة، وهو لون بارد وعاطفي ومثير بعمقه. المساحة الزرقاء الواسعة وغير العاديّة في اللوحة توحي بالإيماءات التجريدية التي ستظهر في العديد من أعمال ماتيس المستقبلية.
    مؤرّخة الفن هيلاري سبيرلينغ وصفت هذه اللوحة بأنها "لقاء قاسٍ يصوّر طبيعة العلاقة المستقبلية التي اتفق عليها ماتيس وزوجته بعد لقائهما الأوّل، عندما أخبرها بأنه على الرغم من حبّه الشديد لها إلا أنه سيحبّ دائما الرسم أكثر".
    وفي حين يصوّر الفنّان لحظة في الحياة الواقعية، فإنه "يلتقط المعنى الأصدق والأعمق وراءها والأكثر اتساقا مع الواقع"، كما كتب هو نفسه عن هذه اللوحة في عام 1908. البيجامة التي يرتديها كانت رائجة في فرنسا في مطلع القرن الماضي كلباس ترفيهي. وقد جاءت إلى أوروبّا من الهند حيث كان مزارعو الشاي هناك يرتدونها. ثم أصبح ماتيس يرتديها بشكل معتاد كلباس عمل في محترفه الخاص.
  • ❉ ❉ ❉



    ❉ ❉ ❉

  • في الصين جبل جميل وساحر يُدعى جبل بوتو. ويقع الجبل قريبا من بحر الصين الجنوبي المضطرب، حيث تشهد المنطقة أكثر من عشرين إعصارا كلّ عام. وفي السنوات الماضية، اقتربت العديد من الأعاصير من جبل بوتو، ولكن كلّما اقتربت منه تحوّلت بطريقة سحرية إلى اتجاه آخر. ولم يضرب أيّ من الأعاصير هذا الجبل أو يمرّ فوقه مباشرة على الرغم من أن ارتفاعه لا يتجاوز 300 متر فوق مستوى سطح البحر. ويطلق السكّان المحليون على جبل بوتو لقب حامي المنطقة. فهو يحمي الصيّادين المحليين من أضرار الأعاصير. كما يجذب العديد من السيّاح من جميع أنحاء العالم للقدوم ومعاينة سحره عن قرب.
    ويقول البعض أنه في منتصف عهد أسرة تانغ، زار راهب ياباني جبلا مشهورا آخر في الصين يُدعى جبل ووتاي. كان الراهب يعبد بوذا في ذلك الجبل، ثم أراد أن يحمل تمثالا بالحجم الطبيعي لإلهه إلى اليابان. وفي طريقه إلى اليابان، توقّف في جبل بوتو لأن إعصارا كبيرا كان يقترب. واستغرق الأمر ثلاثة أيّام حتى هدأ الإعصار. وفي الليلة الأخيرة، حلم أن بوذا جاء إليه في المنام وقال له: لا أريد أن أذهب معك إلى اليابان، أريد أن أبقى في هذا المكان!".
    وبناءً عليه، بقي الراهب في جبل بوتو وجمع التبرّعات ورفع تمثالا ضخما لبوذا على قمّة الجبل. ومنذ ذلك الحين، كلّما أتى إعصار إلى المنطقة، كان بوذا يعيد توجيه الإعصار دائما إلى اتجاه آخر. وقد جاء العديد من العلماء من جميع أنحاء العالم لدراسة "معجزة" جبل بوتو. وتوصّلوا الى استنتاج مفاده أن حزام الضغط المرتفع شبه الاستوائي القريب هو الذي ينفخ الهواء بعيدا عن جبل بوتو، وينقذ المنطقة من أضرار الإعصار.
    هل تؤمن بالأسطورة أم بالعلم؟!
  • ❉ ❉ ❉

  • التعبير البحريّ القائل بأن "الفئران تترك السفينة الغارقة" هو حقيقة ملموسة. والفئران لا تحاول إنقاذ نفسها فحسب، بل تساعد أيضا في إنقاذ زملائها الآخرين. وأظهرت الدراسات أن الفئران تكون أكثر ميلا لمساعدة رفاقها إذا كانت قد تعرّضت هي نفسها لغرق سابق في الماء. وعلى الرغم من كره البشر للفئران، إلا أنها في الواقع حيوانات اجتماعية عطوفة للغاية وتتوق إلى الرفقة. وقد أثبتت الأبحاث أن الفئران تساعد فأرا آخر في محنة قبل أن تبحث عن طعام لنفسها حتى لو كانت جائعة.
    ولوحظ أن لدى الفئران معرفة فطرية بالكارثة الوشيكة. وإذا شوهدت وهي تهجر سفينة، فقد يكون من الحكمة اتّباعها. وقد ذكر شكسبير شيئا مثل هذا في مسرحية "العاصفة" عندما كتب: في غضون بضع دقائق، سارعوا بنا على متن مركب، وحملونا بضعة فراسخ إلى البحر، حيث أعدّوا هيكلا متحلّلا لقارب بلا أشرعة، كان على الفئران نفسها أن تتركه غريزيّا".

  • Credits
    art-matisse.com
    dostoevsky.org

    السبت، ديسمبر 14، 2024

    على خُطى بابَر


    تُوصف مذكّرات ظهير الدين محمّد، المعروف بالسلطان بابَر (1483-1530)، بأنها إحدى أكثر السير الذاتية شهرةً في الأدب العالمي. وتكشف تلك المذكّرات أن بابر لم يكن مجرّد محارب بارع، بل كان أيضا مثقّفا وشاعرا وفنّانا ومتذّوقا لجمال الطبيعة.
    المؤرّخ ويليام دالريمبل كتب مقدّمة للطبعة الأخيرة من مذكّرات بابر، مؤسّس سلالة المغول في الهند وأوّل إمبراطور لها. هنا ترجمة مختصرة لبضع فقرات مختارة منها.

    ❉ ❉ ❉

    في مطلع القرن السادس عشر، بدا العالم الإسلامي مختلفا تماما عمّا كان عليه في أيّام عصره الذهبي. كانت الخلافة العباسيّة في بغداد قد انهارت بعد أن دمّرها المغول. ولم تعد إسبانيا الإسلامية موجودة إلا في الذاكرة بعد سقوط آخر معقل عربي في غرناطة قبل ذلك بقرن. ولم تعد مصر موطنا للفاطميين، بل أصبحت الآن تحت سيطرة سلالة من الجنود العبيد تُسمّى المماليك. كما سقطت القسطنطينية في أيدي العثمانيين الذين احتلّوا أوروبّا الشرقية. وكانت إيران قد وقعت للتوّ تحت حكم سلالة شيعية تُعرف باسم الصفويين.
    في حوالي ذلك الوقت، وبالتحديد في عام 1526، هبط ظهير الدين بابر، وهو أمير تيموري شابّ من فرغانة، فيما يُعرف الآن بأوزبكستان، عبر ممرّ خيبر بمرافقة جيش صغير من الأتباع المختارين. وقد أحضر معه بعض البنادق والمدافع الحديثة التي لم يشاهد الناس مثلها في الهند من قبل. وباستخدام هذه البنادق هزم بابر السلطان إبراهيم لودي في دلهي. وفي دلهي وأغرا أقام أساسَ ما سيصبح فيما بعد إمبراطورية المغول.
    ولم تكن هذه أوّل غزوة يقوم بها بابر. فقد أمضى معظم شبابه بلا عرش، وكان يعيش مع رفاقه من يوم لآخر، يسرقون الأغنام والطعام. وفي بعض الأحيان كان يستولي على بلدة. كان في الرابعة عشرة من عمره عندما استولى على سمرقند لأوّل مرّة واحتفظ بها لأربعة أشهر.
    ولكن في أغلب شبابه، عاش بابر كقاطع طريق وتجوّل لسنوات في آسيا الوسطى في خيمة مشرّداً محروماً. وقد كتب في مذكّراته يقول: خطرت بذهني فكرة مفادها أن التجوال من جبل إلى جبل، بلا مأوى أو حيلة، لا يستحقّ كلّ هذا العناء".
    توفّي بابر عام 1530، بعد أربع سنوات فقط من وصوله إلى الهند، وقبل أن يتمكّن من تعزيز فتوحاته الجديدة. كان يعتبر نفسه فاشلاً لأنه فقدَ أراضي عائلته في فرغانة، ولم يكن لديه أدنى فكرة عمّا إذا كانت فتوحاته الهندية الجديدة آمنة أم لا.
    وربّما يتذكّر التاريخ بابر باعتباره أوّل إمبراطور مغولي، لكنه كان في عين نفسه لاجئاً على الدوام. وفي أواخر حياته، أمضى أيّامه في كتابة وصقل وتحرير أحد أعظم كتب المذكّرات في العالم، الذي تذكّر فيه كلّ ما فعله وكلّ ما فقده أيضاً. وعندما أعدت قراءة مذكّراته، كان من المدهش كيف أنه على الرغم من فوزه بالكنوز والطبيعة الرائعة في الهند، إلا أن بابر ظلّ يندب وطنه المفقود في فرغانة، وهو المكان الذي أصبح اليوم منسيّاً إلى حدّ كبير، ولكن بابر كان يتذكّره دائماً باعتباره جنّة أرضية.
    في فقرة تلو أخرى، يصف بابر، بلهفة وتوق، الأشياء التي أحبّها في فرغانة والتي اشتاق إليها وهو يكتب في المنفى الهندي: صباحات الربيع التي كان يقضيها وسط التلال المزيّنة بالبنفسج البرّي والزنبق والورود، المياه الجارية الباردة التي تمرّ عبر مروج البرسيم المظلّلة والمبهجة حيث يستريح كلّ مسافر عابر، الحدائق الصغيرة والجميلة الممتلئة بأشجار اللوز، الرمّان المشهور بجودته، الصيد الوافر والطيور، طيور الدرّاج التي تكبر بشكل مدهش لدرجة أن الشائعات تقول إن واحدا منها يمكن أن يشبع أربعة أشخاص.
    منذ وقعتُ في حبّ بابر لأوّل مرّة، عندما قرأته في سنّ الثامنة عشرة أثناء زيارتي الأولى للهند، كنت أتساءل دائما عمّا حدث لوادي فرغانة الذي وصفه بابر بكلّ هذا الحبّ في مذكّراته. كانت الروايات مختلطة. وعندما بدأت في جمع معلومات عن المكان في نهاية الثمانينات، أخبرني المسافرون الذين زاروا المنطقة أنني تأخّرت كثيراً، وأن المنطقة تضرّرت بشدّة لأسباب، من أهمّها تحويل السوفييت الوادي إلى مركز لصناعة القطن في آسيا الوسطى.
    وفي الربيع الماضي، قمت بأوّل زيارة لي إلى أوزبكستان. وعند وصولي إلى طاشكند، لاحظت تسارع عملية نزع الطابع الروسي عن البلاد. وكانت الشوارع الواسعة ومباني الشقق الشاسعة التي تصطفّ على جانبيها من بين آخر علامات النظام السوفييتي القديم. وقد لفت انتباهي الشغف الوطني المستمرّ بالفودكا، وهو أمر مفاجئ في بلد مسلم. وكان التلفزيون مليئا بالمسلسلات الهزلية التركية والدراما العثمانية، ومن بينها مسلسل "قيامة أرطغرل".
    الرئيس الأوزبكي شوكت ميرزاييف أطلق برنامجا للإصلاحات السياسية والاقتصادية الشاملة، فأمر بتحرير السجناء السياسيين وبدأ خططا للقضاء على الفساد وتحسين الخدمات الحكومية وتحرير الاقتصاد وجذب الاستثمار الأجنبي.
    كان التباين صارخا مع عالَم سلفه إسلام كريموف، أحد أكثر المستبدّين وحشيةً في آسيا الوسطى. ويمكنك رؤية النتائج في كلّ مكان حولك في شوارع طاشكند. فالطرق الآن مليئة بالسيّارات اليابانية والكورية، والبيرة معروضة للبيع في الحانات، والعشّاق الذين يرتدون ملابس أنيقة يُمسكون بأيدي بعضهم البعض تحت أشجار الكازوارينا. وفي نهاية عام 2019، أطلقت مجلّة الإيكونوميست على أوزبكستان لقب "بلد العام". وكان ذلك إنجازا كبيرا لدولة كانت في الماضي كثيرا ما تجد نفسها في أسفل التصنيفات الدولية من ناحية الفساد والحكم وحقوق الإنسان.
    ولكن ماذا عن فرغانة؟ كنت مصمّما على معرفة ما الذي حدث للوادي الذي وصفه بابر بأنه "أقرب مكان على الأرض شبَها بالجنّة السماوية". فتفاوضتُ مع سائق سيّارة أجرة لأخذي الى هناك. كان الوصول إلى الوادي يبدأ من السهوب المحيطة بطاشكند عبر طريق يمرّ بعدد من المصانع ومحطّات الطاقة وأبراج الكهرباء المصطفّة عبر مراعي السهوب والساحات شبه المهجورة. وكانت هناك لمحات عارضة لحقول بيضاء ميّتة قتلتها الملوحة بسبب الريّ الجائر لزراعة القطن السوفييتي. ولكن بعد ساعة، انحرف الطريق السريع بشكل حادّ إلى الجبال، وبدأ في الصعود متعرّجا إلى أعلى عبر ما أصبح مروجا خضراء.
    وكانت جوانب الطرق مليئة بأشجار الصفصاف والزنبق البرّي المحاطة باللون الأبيض المبهر للقمم الثلجية التي ترتفع عن بعد. وبينما كنّا نصعد، امتدّت سماء آسيا الوسطى الشاسعة، محاطة بقمم جبال تيان شان. وفي الجزء العلويّ من الممرّ، مررنا بـ "ظلّ المطر"، وهي صحراء مرتفعة، ثم هبطنا على الجانب البعيد إلى أرض عشبية يابسة. ثم فجأة، ازدهرت السهوب في أسفل المنحدر. وخلف الحقول الخضراء الأولى من القمح الربيعي الغنيّ، رأينا سواقي الريّ المتدفّقة والموحلة بالثلوج الذائبة حديثا من جبال البامير القرغيزية.


    وخلف هذه الحقول المحاطة بقمم ثلجية متعرّجة، تقع سلّة الفاكهة الخصبة لوطن بابر الحبيب. وأيّا كان الحال قبل 30 عاما، لا يمكن رؤية أيّ مصنع قطن الآن. وعاد وادي فرغانة إلى حالته كجنّة عدن المرتفعة التي كانت في زمن بابر. وبينما كنّا نقود السيارة على طول شوارع أشجار الحور، كانت المروج المليئة بأزهار الخشخاش تحيط ببساتين التفّاح والتوت والمشمش واللوز.
    وعلى الأرض المرتفعة عند حافّة الوادي، لاحت لنا بعض مزارع الكروم. وبجوار بعض قنوات الريّ الأكبر حجماً، كان الرجال يجلسون متربّعين حول أوانٍ خشبية وهم يحتسون الشاي. وكانت قطعان الأغنام ذات الذيول السمينة ترعى وسط المروج تحت حراسة النساء اللاتي يرتدين سترات من المخمل. وكانت الحمير تستريح على جانب الطريق. وألقى رجل عجوز ذو أسنان ذهبية بخيط صيد من فوق جسر. وذكّرني ذلك بكشمير أو ربّما بسهل "شومالي" في أفغانستان.
    إن قراءة كتاب بابر عن جمال حدائق فرغانة لا تزال تثير صدى ومتعة في القرن الحادي والعشرين، كما كانت في القرن السادس عشر. وأثناء قيادتنا للسيّارة، أخرجتُ كتاب "بابر ناما" وأعدت قراءة القسم الأوّل، الذي يصف فيه السلطان أيّام شبابه الأولى في هذا الوادي. وأذهلتني مرّة أخرى نضارة كتابته. فهو يعترف لنا طوال الوقت بثقته بنفسه بينما يتساءل باستمرار عن العالم من حوله. ومن عدّة وجوه فإن هذا النصّ حديث وغريب ويكاد يكون بروستيّا "نسبة الى بروست" في وعيه الذاتي. كان هذا الكتاب بمثابة تذكير لنا بأن بعض الأشياء تتغيّر من عصر إلى عصر، ولكن الكثير منها يظل عالميّا.
    كانت الخضرة تشتدّ كلّما توغّلنا في الوادي. وكانت تعرّجات نهر "سير داريا" الكبير الذي عبره الإسكندر الأكبر تمتدّ إلى الأمام خلف الحقول. وعلى الجانب البعيد، فوق ضفاف النهر مباشرة، كانت ترتفع الجدران الطينية المتآكلة والشديدة الانحدار لأعظم حصن في فرغانة كان يحمي عاصمة الوادي القديمة "آخسيكاث".
    ووصلنا إلى القلعة الأصلية لسلالة بابر ومركز رغباته في المنفى. كنت أخشى أن يكون السلطان قد بالغ في وصف جمالها. لكن بابر كاتب صادق ويمكن الاعتماد عليه، حتى عندما يكتب عن وطنه المفقود. كانت الشمس تغرب خلف قمم الثلوج، فتحوّلت الجدران الطينية الضخمة في "آخسيكاث" إلى اللون الأحمر الساطع المذهل في ضوء النهار الأخير. وفي الأسفل، بين أكوام القصب، كانت طيور الماء ترفع أصواتها بالتغريد. ولم يكن هناك أحد حولها. لقد دُمّرت المدينة وهجرها ساكنوها بسبب زلزال كبير ضربها عام 1621. لكن حتى في حالة الخراب الكامل، ما يزال بوسعك أن تشعر بعظمة وقوّة هذا المكان في أيّام مجده التيموري.
    بعد بضعة أيّام، وجدت نفسي في قرية جعلتني أقرب إلى بابر من أيّ مكان آخر رأيته في آسيا الصغرى. كنت أتجوّل في سمرقند، ورغم أنها كانت رائعة، إلا أنني لم أستطع أن أمنع نفسي من الشعور بالضرر الناجم عن الانفصال الثقافي الذي لا يمكن إصلاحه والذي أحدثته الإمبريالية الروسية في القرن التاسع عشر ثم الماركسية السوفييتية. فلم تعد المدارس الدينية والمساجد القديمة تعمل كأماكن للعبادة أو التعلّم. ولكن قيل لي إن هناك، على مسافة ما خارج المدينة، قطعة أثرية تيمورية رائعة نجت من السوفييت، وهي مجموعة من الآثار التي تعود إلى طفولة بابر وتقع في وادٍ جميل على نهر.
    وفي صباحي الثاني في سمرقند، تخلّينا عن المجموعات السياحية وانطلقنا بمفردنا إلى الريف. وفي أعلى الممرّ الذي يفصل سمرقند عن عاصمة تيمور العظيمة الأخرى، شهرسبز، توقّفنا لتناول الغداء، وهو عبارة عن خبز نان وأسياخ لحم مشوي، مع التوت البرّي ونوع من الرافيولي التركي. وقُدّم الطعام بجوار نبع جبليّ متدفّق على أرائك خشبية في ظلّ أشجار الحور. هنا كلّ الأشياء التي كان يشتاق اليها بابر: الحدائق الظليلة والجداول الصافية والزنبق البرّي والمناظر الطبيعية الجبلية الباردة، مع إطلالات على الوديان في الأسفل.
    واصلنا رحلتنا على طول المنعطفات، مروراً بالنساء اللاتي قدّمن لنا جبن الماعز الحامض المخمّر والفستق وزجاجات عصير البطيخ، مع حِزم الراوند التي يزعمون أنها جيّدة لضغط الدم. ثم توقّفنا للتزوّد بالوقود وتساءلت: في أيّ مكان آخر من العالم يدعوك عمّال محطّات الوقود لتناول كوب من الشاي؟!
    بعد عشرين ميلاً من شهرسبز، انعطفنا نحو وادٍ أخضر جميل باتجاه كاتا لانجار. كانت قطعان الماعز ترعى في المروج والنسور تحلّق في السماء. وفي نهاية الوادي، على تلّة مرتفعة، رأينا ما أتينا من أجله: ضريح الشاعر الصوفي النقشبندي التيموري الشيخ محمّد صادق، الذي كان معاصرا لبابر.
    كان قبره الرائع محاطا من جميع جوانبه بأشجار كثيفة توفّر الظل. ولم يكن هناك سوى ثلاث نساء مسنّات يرتدين المآزر. وقد سجدن ثم استدرن إلى الخلف وهنّ ما زلن يواجهن قبر الوليّ. وفي الداخل وجدنا حارس الضريح، أبا الحسن. كانت له لحية بيضاء وكان يرتدي "شاباناً" أفغانيّا من الحرير المخطّط الجميل يعلوه غطاء أوزبكيّ صغير متعدّد الأضلاع.
    وسألت أبا الحسن عمّن يأتي الى هنا، فأجاب: الناس يأتون من كلّ مكان لزيارة الضريح، أوزبك وأفغان وأتراك وهندوس وعرب وحتى أوروبيون. الجميع يأتون، وخاصّة يوم الخميس. والعديد من الناس يُشفون من الأمراض، والنساء العواقر يحملن، والفقراء يجدون قوت يومهم".
    سألته وأنا أفكّر في المدارس الدينية والأضرحة الميّتة التي رأيناها في اليوم السابق في سمرقند: كيف نجا هذا الضريح من السوفييت؟" فقال: لم يحدث ذلك هنا، لقد أغلق السوفييت هذا المكان تماما. وخلال الحقبة السوفييتية كنّا نصلّي على قمم الجبال ونقرأ القرآن سرّاً. وكان من المحظور أن يكون عندك قرآن في ذلك الوقت. وإذا وجدوا واحدا، فإنهم يضعونك في السجن".
    وأضاف: إننا نتذكّر كلمات الشيخ صادق كلّما صلّينا هنا. ولا يرتاح قلبي الا بالذكر. هل ترغب في الاستماع؟" وبدأ أبو الحسن في الغناء وفعل ذلك من كلّ قلبه وملأ غرفة الضريح بترنيمة قويّة وجميلة من الأوتار الثانوية، ارتفعت إلى ذروتها ثم تراجعت برفق مرّة أخرى. فعلَ ذلك ويداه مجوفّتان وعيناه مغمضتان، غارقاً في الدعاء. وفي الخارج، تناهت إلى أسماعنا أصوات الطيور وهي تغرّد وسط الورود وأزهار التوت واللوز.

    Credits
    williamdalrymple.com

    الجمعة، ديسمبر 13، 2024

    خواطر في الأدب والفن


  • الوالد المَرْوَحي helicopter parent ، مصطلح يُطلق على الآباء الذين يكونون شديدي الانتباه وخائفين فوق اللزوم من تجارب أطفالهم ومشاكلهم، وخاصّة خارج المنزل وفي المؤسّسات التعليمية. ويطلَق على الوالدين هذا الوصف "أي المروحي" لأنهم يشبهون الطائرات المروحية او الهيليوكوبتر، فهم يحومون في الأعلى ويُشرفون على كلّ صغيرة وكبيرة تخصّ ابنهما، سواءً في المدرسة او الجامعة أو في أنشطة الحياة الاجتماعية الأخرى.
    ومصطلح "الوالد المَرْوَحي" أصبح متداولا منذ أواخر الثمانينات وتوسّع استخدامه في مستهلّ القرن الحالي، حيث يتّصل الآباء بمعلّمي أبنائهم مرارا لسؤالهم عن درجاتهم وانتظامهم وما الى ذلك. ويحدث أحيانا أن الآباء الحريصين كثيرا ما يستمرّون في متابعة ودعم أبنائهم حتى على مستوى الدراسات العليا، فتجدهم مثلا يصرّون على قبولهم في هذه الكلّية او تلك، بصرف النظر عن المعايير او الاستحقاق.
    هذا الأسلوب المفرط في التربية ينبع غالبا من قلق الوالدين من تعرّض أطفالهم للأذى أو من تعطّل نموّه. ويقول خبراء التربية ان مشاركة الوالدين في حياة الطفل قد تكون مفيدة للغاية لأنها تساعد على تفوّقه أكاديميّا وعاطفيّا وتعينه على بناء علاقات أفضل مع أقرانه. لكن تبيّن أن التسلّط الأبوي له آثار ضارّة على حياة المراهقين، لأنه يعيق النموّ المعرفي والعاطفي للطفل، في حين أنه من الضروري أحيانا أن يفشل الأطفال ويتعلّموا من أخطائهم من خلال التجربة والخطأ.
    وفي بعض الحالات كثيرا ما يواجه أطفال الآباء المروحيين مشاكل في التفاعل مع أقرانهم، لأنهم ببساطة لا يقدّرون التعايش الاجتماعي بسبب أنانيتهم وافتقارهم للثقة، نتيجة الحرص الزائد لوالديهم.
  • ❉ ❉ ❉

  • هذه اللوحة اسمها "تحيّة إلى يوهان سيباستيان باخ" للرسّام التكعيبي الفرنسي جورج براك. وهي لوحة ذكيّة من عدّة نواحٍ، بما في ذلك توقيع براك نفسه الذي ضمّنه الصورة وكأنه إشارة بارعة إلى التشابه بين لقب عائلته "براك" ولقب الموسيقيّ الباروكي الشهير.
    المعروف أن براك كثيرا ما كان يضمّن لوحاته صورا لآلات موسيقية أو إشارات إلى الموسيقى، وكان هو نفسه موسيقيّا موهوبا يعزف على الكمان والفلوت والأكورديون. لذا ليس من المستغرب أن يكرِّم من خلال هذه اللوحة أحد أعظم الموسيقيين، والذي كان ملحّن براك المفضّل.
    أبتكر براك مع بيكاسو أسلوبا في الرسم أصبح يُعرف بالتكعيبية التحليلية. وفيها تكون المساحة مضغوطة وتُختزل الألوان إلى البنّي الفاتح والرمادي، ولا تظهر التفاصيل التي يمكن التعرّف عليها إلا في لحظات عابرة.

  • سبق لبراك أن عمل في عدد من المهن التي تعلّم منها بعض التقنيات التي استخدمها لاحقا في فنّه، مثل تأثير حبيبات الخشب الوهمية الذي يظهر في الجانب الأيسر السفلي من اللوحة.
    تقول مونيكا باون إن المؤلّفات الموسيقية المتعدّدة الأصوات لباخ، والتي تقدّم الزخارف الموسيقية السائدة من خلال طبقات مختلفة من الآلات والأصوات، تتوازى مع الطريقة التي تقدِّم بها اللوحات التكعيبية نفس الأشياء من خلال مجموعة متنوّعة من الأفكار المجزّأة. كما تتوازى الابتكارات المختلفة لباخ مع الطريقة التي سعى بها براك إلى إنشاء أشكال مختلفة من المواضيع المتشابهة طوال حياته المهنية. وقد لاحظ أحد النقّاد أن نسج الأصوات معا في "فيوكاتfugues " باخ يعطي إحساسا بالبنية والخطوط والهندسة المعمارية في لوحة براك.
    وتضيف أن براك كان يعتقد أن الآلات الموسيقية تضيف بُعدا ملموسا للصورة المرئية. وكان يرى أن السمة المميّزة للآلة الموسيقية ككائن هي أنها تنبض بالحياة عند لمسها. وربّما شعرَ، مثل أيّ رسّام، بانفصال عن لوحاته لأنه لا يلمسها مباشرة في عملية الإبداع بالنظر الى أنه يستخدم فرشاة الرسم. وبهذه الطريقة، يمكن للموسيقى أن تسدّ هذه الفجوة الماديّة. لكن يبدو أن الموضوع الموسيقيّ يضيف طبقة إضافية من التجربة، هي تجربة السماع، التي تتجاوز الاستكشافات المكانية للتكعيبية.

    ❉ ❉ ❉

  • تقول أكاديمية أمريكية متخصّصة في التاريخ: لسنوات طوال، كنت أبدأ درس التاريخ الأمريكي بسؤال الطلاب: ما اسم الرجل الذي يقال إنه اكتشف أميركا؟". أحيانا يعترض بعض الطلاب على كلمة "اكتشف"، لكنهم جميعا يعرفون الرجل الذي أسأل عنه. "كريستوفر كولومبوس!".
    ثم أسأل: حسنا، من وجد عندما جاء إلى هنا؟". وعادة ما يجيب بعض الطلاب: الهنود". ثم أطلب منهم أن يذكروا بعض أسمائهم، فيكون الجواب الصمت. إننا جميعا نعرف اسم الرجل الذي جاء إلى هنا من أوروبّا، لكن لا أحد منّا يعرف أيّا من اسماء الأشخاص الذين كانوا هنا أوّلاً، وكان هناك مئات الآلاف، إن لم يكن الملايين منهم. لماذا لا نسمع عنهم؟ هذا الجهل هو من صُنع التاريخ الذي يفرض الصمت، وهو ما يجعل حياة وقصص شعوب بأكملها غير مرئية وغير معلومة.
    وتقول أكاديمية أمريكية من قبيلة شايان الأصلية: بصفتنا شعوباً أمريكية أصلية تعيش في هذا المكان من الأرض، ليس لدينا أيّ سبب للاحتفال بغزو تسبّب في هلاك العديد من أبناء شعبنا، ولا يزال يتسبّب في الدمار حتى اليوم. في نهاية المطاف، لم يكتفِ كولومبوس بـ"الاكتشاف"، بل استولى على السلطة. فقد اختطف شعب التاينو واستعبدهم. كما أصدر أمرا بقطع أيديهم ومطاردتهم بالكلاب الشرسة إن فشلوا في تسليم حصّة الذهب التي طالب بها".
    وتضيف: لم تتضمّن الكتب المدرسية للشركات والسير الذاتية للأطفال عن كولومبوس أيّاً من هذا، بل كانت مليئة بالمعلومات المضلّلة والتشويه. ولكن المشكلة الأعمق كانت في النصّ الفرعي لقصّة كولومبوس. فقد أصبح أمرا جائزا وعاديّا أن تتنمّر الدول الكبرى على الدول الصغيرة وأن يهيمن البيض على الملوّنين، وأن يُحتفَل بالمستعمِرين دون الاهتمام برأي المستعمَرين، وأن يُنظر إلى التاريخ من وجهة نظر المنتصرين فقط".
  • ❉ ❉ ❉

  • لم يكن الفيلسوف الروماني شيشرون (106 - 44 قبل الميلاد) يعرف شيئا عن التسويق. لكن لو تمعنّا في أحد أقواله المشهورة، فسنعرف عنه فكرة مختلفة. فممّا يُنقل عنه قوله: إن كنتَ تريد إقناعي، فيجب عليك أن تفكّر بأفكاري وتشعر بمشاعري وتتحدّث بكلماتي".
    ولو حلّلنا هذا الكلام، فسندرك أن شيشرون يلعب هنا دور العميل أو الزبون ويتحدّث إلى البائع أو المسوّق. فهو يقول: إن كنت تريد إقناعي"، ولا يقول إبلاغي أو نصحي، ولكن جعلي أقتنع. ثم يقول "فيجب عليك"، وهذا جزء إلزامي وليس اختياريّا. وهو الطريقة الوحيدة المجدية. ثم: فكّر بأفكاري"، أي يجب أن تعرف ما يحدث في عالمي وكيف أنظر الى الأمور. ثم أن "تشعر بمشاعري"، أي أن تأخذ الأمر أبعد من ذلك، فتعرف ما يهمّني وما أريده وما أخشاه.
    ثم أن "تتحدّث بكلماتي"، أي أن تستخدم اللغة التي أفهمها وأعرفها، لغة جيلي ومهنتي وصناعتي، ولا تستخدم مصطلحات تقنية ولا اختصارات. لو أن كلّ مسؤول مبيعات دوّن هذه الحكمة الرائعة على بطاقة وتصرّف بناءً عليها في كلّ مرّة يتواصل فيها مع العملاء أو مع السوق، فإن مستوى أدائه لأعماله سيتحسّن كثيرا وسينعكس هذا على أداء ومكانة المنظّمة او الشركة ككلّ.

  • Credits
    georgesbraque.org
    albertis-window.com

    الأربعاء، ديسمبر 11، 2024

    أميرة إشبيلية


    حكَمَ المعتمد ابن عبّاد إشبيلية خلال فترة ملوك الطوائف في القرن الحادي عشر، عندما ظهرت ممالك صغيرة متنافسة بعد انهيار الحكومة الأموية المركزية. وكان والد المعتمد، أي المعتضد، رجلا طموحا عاش حلم إعادة توحيد الأندلس تحت الحكم العربي وخاض حربا ضدّ خصومه من الطوائف على أمل تحقيق ذلك. والمؤرّخون يصفونه بأنه أكثر الحكّام شجاعة وهيبة في عصره ويشبّهونه بالخليفة العبّاسي الكبير أبا جعفر المنصور.
    كان المعتمد أرقّ من والده كثيرا ومثله في الوسامة. كان ملكا مدلّلا ومحبّا للحياة المترفة. وفي حدائقه الشاسعة حيث تتفتّح أزهار الربيع الرائعة، كان المعتمد يقضي ساعات طوالا يلعب الشطرنج مع رفيق شبابه الماكر الشاعر الوزير ابن عمّار.
    وقد لفتت هذه اللعبة التي جلبها العرب إلى أوروبّا انتباه المسيحيين. وذات يوم، لعبها ألفونسو السادس القشتالي الذي كان شغوفا بالشطرنج مع ابن عمّار في خيمته خارج إشبيلية. وكان الاثنان قد اتفقا على أن من حقّ الفائز أن يُملي على المنهزم شرطه. وقد فاز ابن عمّار بفضل براعته في هذه اللعبة، وطلب من الملك المسيحي التقاعد وأعطاه أجمل مجموعة شطرنج على الإطلاق.
    وعندما بدا أن الأمور قد استقرّت، بدأ ألفونسو السادس مرّة أخرى في تهديد مدينتي قرطبة وإشبيلية الجنوبيتين. وشعر المعتمد، الذي كان صاحب أملاك كثيرة في الأندلس، بالإحباط من مندوبي ألفونسو ولم يقبل الإذلال. فطردهم قائلاً بغضب: لم يعد بإمكاني تحمّل طغيان هؤلاء المسيحيين الأوغاد". وفي محاولة لإنقاذ سمعته، أقسم ألفونسو السادس يمينا مغلّظا وصاح: سأدمّر ممتلكات الكفّار بمحاربين كثيرين كشعر رأسي ولن أتوقّف حتى أصل إلى مضيق جبل طارق". وردّ المعتمد، الذي غلب عليه الكبرياء، بأنه سيعاقب جشع ألفونسو بالسيوف الشرسة للمرابطين.
    كان المعتمد يدرك أن قوّته لم تكن كافية، وكان يخشى الخضوع للملك المسيحي أكثر من أيّ عار آخر. وفي مجلس عُقد لمناقشة الأمر، نصح أمراء إشبيلية المعتمد بالاتصال بملوك شمال إفريقيا من العرب، لكنه رفض على أساس أنهم ليسوا أقوياء بما يكفي. وأعلن صراحةً أنه سيستدعي أمير المرابطين الزاهد يوسف ابن تاشفين.
    وأدرك من حوله، بمن فيهم ابنه ووليّ عهده المأمون، خطورة جلب البربر من الصحراء إلى جنّات الأندلس. وردّ عليهم الملك بعبارته المشهورة: لأن أرعى الجِمال عند ابن تاشفين في الصحراء خير لي من أن أرعى الخنازير عند ألفونسو في قشتالة!".
    كانت حركة المرابطين تتألّف من رجال قبائل بربرية من شمال أفريقيا وكانوا جميعهم متشدّدين في التزامهم بالإسلام. وكانت هذه المجموعات قد غزت شمال أفريقيا وزحفت إلى عمق غرب القارّة واستولت على غانا.
    المؤرّخون يصفون ابن تاشفين بأنه كان رجلا أسمر البشرة وذا قوام متوسّط ولحية خفيفة. وقد استجاب يوسف لنداء المعتمد، وحين هبط إلى أرض الأندلس، قال: لقد جئنا إلى هنا لإنقاذ الإسلام وسنضطرّ إلى محاربة عدوّ متجبّر. أما الخائفون منكم فهم أحرار في العودة إلى ديارهم".
    وبالفعل هزمت الجيوش العربية الأفريقية المشتركة ألفونسو السادس في معركة الزلّاقة المشهورة، والتي خلّدها المعتمد نفسه في قصيدة وصف فيها يوسف بأنه "حامي حمى المسلمين من الكفّار":
    ولولاك يا يوسفُ المتّقى : رأينا الجزيرةَ للكفرِ دارا
    رأينا السيوفَ ضحىً كالنجومِ : وكالليلِ ذاك الغبارَ المُثارا


    وقد دعا المعتمد يوسف لتناول العشاء في قصره الفخم على سبيل الكرم. وكان يوسف، الذي عاش حياة متواضعة، ينظر بازدراء إلى ثراء البلاط، بينما كانت النخبة العربية وشعراء القصر يفتخرون بأخلاقهم الأنيقة وثقافتهم الراقية. وعندما تغنّى أحد الشعراء بمديح يوسف، لم يفهم الأخير شيئا. وفي حادثة أخرى، نظر يوسف باحتقار إلى رسالة بليغة من المعتمد ثم صاح: ماذا يطلب هذه المرّة؟!" وقبل أن يغادر إشبيلية، جال الأمير المتديّن يوسف بنظره على الجنان الفخمة والرياض الخضراء والمياه المتدفّقة، وربّما تذكّر في تلك اللحظات بعض أبيات الشاعر ابن خفاجة التي يصف فيها جمال طبيعة الأندلس:
    يا أهلَ أندلسٍ لله درّكمُ : ماء وظلَ وأنهار وأشجارُ
    ما جنّة الخلد إلا في دياركمُ : ولو تخيّرت هذا كنت أختارُ
    لا تحسبوا في غدٍ أن تدخلوا سقراً : فليس تُدخلُ بعد الجنّة النارُ
    لم يكن وصول يوسف باعثا على سرور الكثيرين، بل إن وليّ العهد المأمون كان يخشى أن يؤدّي تدخّل البربر الى تهديد سلطة بني عبّاد. كانت الأحداث تتوالى بسرعة، وتحوّلت مخاوف المأمون إلى حقيقة، فقد غيّر يوسف موقفه من العرب وقرّر شنّ حرب ضدّهم. وذهبت جهودهم في الدفاع عن مدينتهم أدراج الرياح. ومع حصار المرابطين لقرطبة المزدهرة، أرسل الأمير المأمون زوجته الحبيبة "زائدة" برفقة أبنائهما إلى قلعة ألمودوڤار القريبة التي بناها الأمويون بعد فترة وجيزة من وصول أوّل أمير لاجئ إلى إسبانيا هرباً من الاضطهاد العبّاسي.
    وقد غدر المرابطون بأبناء المعتمد، الراضي أمير رُندا والمأمون أمير قرطبة. فبعد أن وعدوهم بالأمان، نهبوا المدينتين بمجرّد فتح بوّاباتهما. وواصل المأمون الدفاع عن قرطبة وقاتل بشجاعة البربر الملثّمين حتى قتلوه. ثم قطعوا رأسه ووضعوه على رمح وطافوا به شوارع المدينة. ومع بدء وصول أخبار هذه الأحداث المزعجة إلى إشبيلية، كان المعتمد على يقين من أن نفس المصير ينتظر مدينته.
    وبعد فترة وجيزة، هاجم المرابطون قصر المعتمد، درّة الجمال الأندلسي، فقتلوا الرجال واختطفوا النساء، ومن بينهن ابنة المعتمد نفسه الأميرة بثينة التي بيعت في سوق الرقيق. كما أُسر المعتمد نفسه وزوجته اعتماد الرميكية وأُرسلا إلى المنفى في أغمات بالمغرب.
    في قلعة ألمودوڤار، كانت "زائدة" زوجة المأمون تنتظر وصول أميرها سالما. وفي احدى الليالي شعرت بأن شيئا ما لم يكن على ما يُرام. كانت تنظر من الشرفة وتتطلّع طويلاً في الأفق. ثم رأت في الحلم حصانا أبيض يركض بلا فارس باتجاه قلعة ألمودوڤار. ولم تلبث أن علمت أن زوجها قُتل في المعركة. فهربت وهي بحال من الصدمة والانكسار مع أبنائها طالبةً حماية ألفونسو السادس. وعندما رآها الملك المسيحي فتنه جمالها وسمح لنفسه بالانجراف وراء عاطفته. والتزمت زوجة ألفونسو الصمت بشأن تودّد زوجها الى الأميرة العربية.
    وبعد أن ترمّل ألفونسو إثر وفاة زوجته، قرّر الزواج عن حبّ متجاهلاً انتقادات النبلاء والنظام الديني. ولتجنّب الخلاف في البلاط، عُمِّدت زائدة وأصبح اسمها "إيزابيل". وقد كرَّم ألفونسو الأمراء العرب ومنح كلا منهم لقب "كونت". وجلبت هذه العلاقة السعادة لألفونسو السادس والوئام والتعايش بين المسلمين والمسيحيين. وأنجبت له زائدة وريثا للعرش هو الأمير سانشو الذي كان ثمرة اتحاد فريد من نوعه بين الثقافتين القشتالية والعربية.
    ووفقا للأسطورة، احتفظت الملكة زائدة بإيمانها الإسلامي سرّاً وأدخلت الكثير من العادات العربية إلى بلاط قشتالة. ومن جهته، تبنّى ألفونسو العديد من التقاليد الإسلامية وارتدى الرجال في بلاطه ملابس على الطراز العربي. وكانت العملات المعدنية التي سُكَّت آنذاك تشبه كثيرا عملات المسلمين، بل حتى الدين المستعرب في طليطلة بدا وكأنه نسي اللاتينية واستبدلها باللغة العربية.
    وإلى اليوم، ما تزال قلعة ألمودوفار المهيبة (والتي يعني اسمها "المُدوّر" بالعربية)، والواقعة في قلب نهر الوادي الكبير، تُذكّر زوّارها بأمجادها الغابرة. ففي كلّ عام، يقام مهرجان زوكو دي لا إنكانتا (أي السوق السحري) لإحياء ذكرى أسطورة هذه القلعة. وعلى أنغام الأغاني، تمشي الأميرة "زائدة" بقدميها النحيلتين على الأشياء العزيزة على قلب الشرق؛ الكافور والمسك وماء الورد، بينما يراقب زوجها الشاعر العظيم المشهد من شرفة القصر الملكي.
    ويقال إنه في الثامن والعشرين من مارس من كلّ عام، أي تاريخ مقتل زوجها المأمون، يعود شبح "زائدة" إلى القلعة، حيث تظهر مرتديةً لباساً أبيض بينما تأخذ طريقها نحو البرج لتنظر عبر نهر الوادي الكبير باتجاه قرطبة، منتظرةً بفارغ الصبر عودة أميرها الحبيب.

    Credits
    medievalists.net

    الاثنين، ديسمبر 09، 2024

    أورفيوس: رموز واستعارات


    في اللوحة التي فوق، يصوّر الرسّام الفرنسي كميل كورو اللحظة المأساوية التي قاد فيها أورفيوس خطيبته يوريديسي خارج العالم السفلي. ويظهر الاثنان ملفوفين بأجواء ناعمة وحالمة، تحيطها طبيعة خضراء يغلّفها الضباب، بينما يقف بالقرب منهما بضعة أشخاص غامضين يمثّلون على الأرجح بعض ساكني العالم السفلي.
    كان أورفيوس موسيقيّا وشاعرا يونانيّا. ورغم أن قصّته قديمة جدّا، إلا أنه ما يزال، حتى يومنا هذا، يتمشّى بيننا كموسيقيّ متجوّل، يذكّرنا بشيء ما، يربّت برفق على أكتافنا، رافضا أن يُنسى، ويعلّمنا عن حياة مليئة بالغموض والحبّ والفقد والحكمة.
    عاش أورفيوس، كما يُعتقد، في الجيل الذي سبق حرب طروادة. وأظهرت أسطورته أن الإغريق يؤمنون بقوّة الموسيقى والشعر. وكان قد تلقّى من الإله أبولّو آلة موسيقية عبارة عن قيثارة. ومع مرور الوقت، كبر الشابّ ليصبح معلّما في الغناء والموسيقى. وفي عزلته، كان يعزف أعذب الموسيقى التي تحرّك الروح، فتعكس آلام قلبه وأوجاعه. وكانت براعته الفنيّة هي التطهير الذي يلجأ إليه لفهم عزلته والتعامل معها.
    وعندما كان أورفيوس يعزف على قيثارته، كان يسحر كلّ من يستمع إليه. وكانت حتى الأشجار والحجارة تتناغم مع موسيقاه والحيوانات تصمت عندما يعزف. وكانت الأنهار تغيّر اتجاه جريانها وأمواج البحر تهدأ عند سماع عزفه الساحر.
    وقد أراد أورفيوس الزواج من الحورية يوريديسي التي كان يحبّها بشدّة. ولكن في يوم زفافهما، ركضت يوريديسي عبر حقل ودَاست على ثعبان سامّ فلدغها وماتت على الفور. وتلقّى أورفيوس الخبر الأليم وصُدم بقوّة ثم سقط في حزن عميق وتوقّف عن العزف والغناء.
    ومرّت الأيّام وحزنه يزداد الى أن قرّر الانطلاق في رحلة خطرة لإقناع هيديز ملك العالم السفلي بإعادة حبيبته من عالم الأموات. وكان هذا أمرا غير مسبوق، لأن العالم السفلي كان مكانا صعبا ومَلكُه أكثر صعوبة، ولم يحدث أبدا أن غادرت أيّ روح بعد عبورها نهر "ستيكس".
    وفي طريق أورفيوس إلى العالم السفلي، كان يغنّي ويعزف على قيثارته. وكالعادة، كان غناؤه جميلاً لدرجة أن الأرض ذاتها التي أسرها سحر موسيقاه انفتحت وسمحت له بالنزول إلى العالم السفلي. وهناك التقى شيرون، البحّار الذي سيساعده في عبور نهر "ستيكس" الذي يفصل أرض الحياة عن أرض الموت. وسمح له سيربيروس، الوحش ذو الرؤوس الأربعة، الذي أسره سحر موسيقاه، بالدخول دون أيّ جهد إلى عالم لم يدخله إنسان حيّ من قبل.
    وفي العالم السفلي، التقى أورفيوس كلا من هيديز وبيرسيفوني وطلب منهما أن يعيدا يوريديسي إلى عالم الحياة. وعندما لاحظا حبّه الكبير لها، تعاطفا معه وقرّرا أن يساعداه لمرّة واحدة. فسمحا له باستعادة حبيبته، ولكن بشرط أن يسبقها وألا يدير رأسه نحوها حتى يخرجا من العالم السفلي تماما.


    وافق أورفيوس وبدأ الاثنان رحلة عودتهما بهدوء، أورفيوس أوّلاً وخلفه يوريديسي. وبعد أن قطعا مسافة، وفي لحظة شكّ، استدار أورفيوس ليضمن أن زوجته تتبعه، فأخلّ بالشرط الذي قطعه على نفسه وفقدها مرّة واحدة وإلى الأبد.
    عندما نظر أورفيوس إلى الوراء، كان يعصي ربّ العالم السفلي. وقد خسر يوريديسي عقابا له، مع أنه فعل ذلك لأنه لم يسمعها، إذ كيف يمكنك أن تسمع روحا تتبعك؟ّ! لكن بما أنه لم يفِ بالاتفاق الذي أبرمه مع سيّد أرض الموتى، كان لا بدّ من أن يدفع الثمن، وهو استعادة روح يوريديسي بعد أن سُمح لها بمغادرة العالم السفلي.
    بعد مقتل أورفيوس فيما بعد، دفنته الآلهة في ليبيثرا حيث كانت البلابل تغرّد بعذوبة فوق قبره. وأصبحت قيثارته اسما لكوكبة القيثارة (Lyra Constellation) التي تقع في نصف الكرة السماوية الشمالي. وفي العصر الحديث، رسم قصّته العديد من الفنّانين وألّف موسيقيّون أعمالا كثيرة استوحوها من هذه الأسطورة.
    قصّة أورفيوس هي عن النور والظلام وعن الحياة والموت وعن حقائق الوجود البسيطة. ويمكن أن تكون القصّة استعارة للفنّان الذي يبحث عن الجمال لكنه يفقده حتى عندما يلمحه بسرعة. ويمكن أيضا أن تكون رمزا لقوّة الحبّ وكيف يمكنه أن يُلهم الأفراد خوض تحديّات عظيمة ومواجهة المجهول. كما تتحدّث القصّة عن قدرة الفنّ والإبداع على تجاوز الحدود واستدعاء المشاعر العميقة وربطنا بالعالم.
    كما تتناول فكرة الفقد والحزن، والمدى الذي قد نذهب إليه من أجل استعادة ما فقدناه. وهي أيضا عن هشاشة الأمل وكيف أن الشكّ والخوف يمكن أن يقوّضا أهدافنا ويؤدّيا إلى عواقب وخيمة. كما تشير الأسطورة الى محدودية تحكّم الانسان وعجزه عن تغيير مسار القدَر أو التصرّف في مواجهة إرادة قوى أعظم منه.
    من جهة أخرى، يمكن اعتبار ذهاب أورفيوس ونزوله إلى العالم السفلي رحلة إلى الذات ومواجهة تعقيدات المخاوف والعواطف الداخلية والتحدّيات الوجودية والخروج منها بفهم وحكمة أكبر. كما تثير الأسطورة تساؤلات عمّا يمكننا التخلّي عنه من أجل أولئك الذين نهتم بهم ونحبّهم.
    إن الأساطير عبارة عن لغة ورموز واستعارات وليس فيها مصادفات أو أحداث تقع كيفما اتفق. وحقيقة أن اسم أورفيوس يعني "ظلام الليل" يمكن أن يعلّمنا شيئا عن هذه الحركة بين الظلام والنور، التي قد تكون استعارة لرحلة البذرة على الأرض من النور إلى الظلام، ثم العودة إلى النور مرّة أخرى. فبعد أن تنبعث البذرة من ثمرة إلى ظلمة الأرض، تعود إلى النور بقوّتها الخاصّة.
    والدورات العظيمة التي تمرّ بها الطبيعة تتكرّر مراراً، فتُلهِمُنا وتعلّمُنا. وهي تمسّ واحدة من أعظم معضلات الظرف الإنساني: الحياة والموت. فنحن نأتي إلى هذا العالم ونتعلّم طرقه ونبني علاقات ونكوّن ذكريات. ثم، في وقت ما ودون أيّ استعداد مسبق، يتعيّن علينا أن نترك كلّ هذا وراءنا.
    لكن الحياة ليست سيّئة ولا جيّدة. إنها مجرّد حياة. وإذا تأمّلناها عن قرب، فقد تروي لنا قصّة عظيمة عنّا؛ عن هويّة الإنسان، هذا الكائن الذي جاء إلى هذا العالم ووقع في حبّ انعكاسه، إلى الحدّ الذي جعله يعتقد أن هذا الانعكاس هو نفسه.

    Credits
    greek.mythologyworldwide.com
    theacropolitan.in

    السبت، ديسمبر 07، 2024

    الرحلة الخيالية للإسكندر


    مرّت قصّة وشخصية الإسكندر الأكبر بالكثير من التحوّلات في النصوص الشعرية والنثرية الشرقية على مدى ألف عام. وأكثر ما يلفت الانتباه في الأعمال المختلفة التي تناولت الموضوع هو مسار الرحلة الخيالي للبطل، أي الاسكندر، وخاصّة فيما يتعلّق بعلاقاته بالملكات من النساء اللاتي التقاهنّ أثناء حملاته العسكرية.
    وأقدم معالجة شعرية معروفة للقصّة هي ملحمة الشاهنامة للفردوسي التي كُتبت حوالي عام 1010 م، ويظهر فيها الإسكندر ضمن سلسلة الملوك الإيرانيين القدماء. وعلى ما يبدو فإن مؤلّفي الروايات اللاحقة كانوا على دراية بعمل الفردوسي، لكنهم صوّروا شخصية الإسكندر بحرّية فنّية أكبر. وعلى رأس هؤلاء يأتي الشاعر نظامي في كتابه "اسكندرنامه"، أو كتاب الاسكندر (1202)، وهو مزيج من الملحمة والرواية الرومانسية.
    ونظامي هو أحد أبرز شخصيات الشعر المكتوب بالفارسية. وقد عاش في أذربيجان في النصف الثاني من القرن الثاني عشر واشتهر بأنه شاعر صعب ومصقول، وشعره يتضمّن مفردات وتعبيرات وإشارات إلى العلوم المعروفة آنذاك. وفي كتابه عن الاسكندر، يصف نظامي مغامرات ومعارك القائد اليوناني أثناء سفره إلى نهاية العالم. وهو يقدّمه كبطل إسلامي، على غرار ما فعله كتّاب آخرون مثل أمير خسرو دهلوي وعبد الرحمن جامي.
    والإسكندر في كتاب نظامي ينتقل بسهولة من كشمير، حيث يتزوّج ابنة الملك ماهافرين، إلى سيلان ثم إلى مكّة واليمن ومصر والأندلس والصين. ويصف النصف الثاني من الكتاب المزيد من المغامرات الخيالية مع المخلوقات الأسطورية وأوصاف العجائب. ويخصّص المؤلّف جزءا لا بأس به من السرد للحديث عن صراع الإسكندر مع "أراكيت" ملكة الفرس وزواجه منها لاحقاً.
    ثم يتحدّث نظامي بتفصيل أكثر عن "نوشابا"، ملكة أرض "باردا" القوقازية، التي التقاها الاسكندر وهو في طريقه إلى بلاد الظلام. في البداية يصف الشاعر "باردا" بأنها جنّة أرضية وتبدو وكأنها معبد للأصنام. ويقارنها بـ "هاروم" أرض الأمازونيات في نصّ الفردوسي. ويسمع الإسكندر عن الملكة وأسلوب حياة أهل تلك الأرض وجميعهم من النساء الجميلات العفيفات.
    ويقرّر الإسكندر أن يسير بجيشه إلى الملكة ليطلب منها أن تدعم حملاته. ويقيم له مخيّما بالقرب من أرضها. وعندما تعلم "نوشابا" عن مجيئه تبعث له بهدايا، ما يثير فضوله لاكتشاف سرّ هذه المرأة ومكانها الأسطوري. ثم يتخفّى على هيئة رسول من الاسكندر ويعِدّ نفسه كما يفعل الرسل ويتوجّه إليها في مكانها.
    عندما علمت "نوشابا" عن وصول رسول الاسكندر الى مملكتها، زيّنت البلاط والطريق المؤدّي إليه وصفّت الفتيات المزيّنات بمختلف أنواع الزينة، ثم أمرت بإدخال الرسول عليها. فدخل الاسكندر وهو في هيئته المتنكّرة تلك واتجه كالأسد الهصور نحو عرشها، دون أن يخلع سيفه أو ينحني كما يفعل الرسل، ما دفع الملكة للشكّ في أمره.
    كان من عادة "نوشابا" أن تحتفظ بصور العظماء. وعندما سمعت عن الإسكندر وشجاعته وفتوحاته وانتصاراته في الحروب وميله إلى الإصلاح، كلّفت أحد رسّاميها ليرسم له صورة تكون ضمن كنزها من الصور الشخصية. وكانت تلك الصورة عندها. فاستمهلت الرسول لبعض الوقت، ثم أحضرت الصورة وأخذت تقارنها بملامح وجهه، وتأكّدت أخيرا أنه الإسكندر. ثم صارحته بما في نفسها فأنكر. فأرته صورته، ولمّا رآها خاف واصفرّ لونه ووقع في حرج.


    وعندما عرفت "نوشابا" أن الرجل القويّ قد خاف، تلطّفتْ معه وقالت له: أيّها الملك الشجاع! كم أحدث الدهر مثل هذه الحيل! أرجو ألا تفكّر في شيء، واعلم أن صداقتي لك أكثر من أيّ شيء آخر، وأن هذا المنزل منزلك وأنّي لك جارية مطيعة وخادمة منقادة، سواءً في ديارك أو في دياري".
    ثم طلبت أن تقام للاسكندر وليمة على شرفه، ودعته للجلوس بجانبها على عرش من الذهب يحيط بهما خدم وموسيقيون. وأسرّت الى خدمها بأن يعدّوا للضيف مأدبة كبيرة عبارة عن أطباق من الأحجار الثمينة بدلاً من الطعام الحقيقي. وعندما اكتشف الاسكندر ذلك وقع في حيرة من تصرّف الملكة، فضحكت وسألته بدهاء: لماذا لا تأكل ما قضيتَ حياتك كلّها في السعي وراءه؟!" ويفاجأ الإسكندر بذكاء الملكة فيمتدحها ويثني على حكمتها.
    وبعد أن انتهى الاسكندر وحاشيته من تناول طعام حقيقي، أهدته الملكة الكثير من الهدايا القيّمة والعظيمة، وانصرف الاسكندر من عندها شاكرا مسرورا. ثم سار باتجاه جبال البرز، بينما كان رجاله يحملون هداياه معهم ويسيرون ببطء لكثرة ما كان معهم من الجواهر والذهب إلى أن شعروا بالمشقّة والتعب. فشاور الإسكندر أصحابه في أمر تلك الهدايا، فأشاروا عليه بدفنها تحت الأرض وإقامة طلسم عليها كعلامة.
    وواصل الاسكندر سيره حتى فتحَ قلعة دربند وأجلسه الأهالي على عرش كسرى ونثروا الأموال تحت قدميه وقدّموا له خمر الظفر في الكأس التي كان الملوك القدماء يشربون فيها الخمر.
    ثم ذهب إلى الهند عن طريق خراسان، وكان ملكها قد قرأ رسالته، فأرسل إليه الهدايا، على أن يتعهّد له بعدم الإغارة على بلاده. وكانت الهدايا أربعاً ذكرها نظامي على لسان الملك: أبعثُ ابنتي إليك وهي فتاة جميلة كالشمس المشرقة وكالقمر المنير، وأرسلُ كأسا من الشراب نادر الوجود لا ينقص الشرب منه شيئا، وأبعثُ اليك فيلسوفا يحلّ شتّى المعضلات، وطبيبا عاقلا بارعا يجعل المرضى أصحّاء". ويقبل الإسكندر الهدايا ويتعاهد مع الملك، ثم يسير من الهند إلى التبت ومنها إلى أقاصي الصين.
    وفي الطريق، أتى الاسكندرَ رسل من أرمينيا وأخبروه بأن الروس قد هجموا على أرض "نوشابا" فحطّموا ملكها وأسروها. فقرّر الانطلاق في حملة كبرى ضدّ الروس ودارت بين الجانبين سبع معارك انتهت بانتصار الإسكندر. وقد هُزِم الروس وقُتل منهم خلق كثير.
    ونظامي يُجمِل نتيجة تلك الحرب بقوله: أمعنَ جيش الإسكندر في الروس قتلا وشنقا وأسراً. وخلّص الإسكندر "نوشابا" من الأسر وأعاد مملكتها إليها. وفي خطوة غريبة زوّجها إلى ملك أبخازيا وودّع الاثنين مشفوعين ببركاته. وقد غنم الاسكندر من تلك الحرب مغانم كثيرة وعلم أنه أصبح قريباً من بلاد الظلام، حيث يوجد ماء الحياة، فسُرّ بذلك وأظهر الكثير من الفرح والغبطة.
    ثم سار في الظلام باحثا مع الخِضر عن ماء الخلود. وعندما وجد الخضر عين الماء، نزل وخلع ملابسه واستحمّ في مائها وشرب منه بقدر ما استطاع، فأصبح جديراً بالحياة الأبدية. أمّا الإسكندر فقد تاه في الطريق وظلّ يبحث عن الخِضر والعين أربعين يوماً، فلم يعثر لهما على أثر. وسمع في الظلمة هاتفاً يدعوه للعودة فعاد. ولمّا وصل إلى بلاد اليونان، كان قد حصل على مفتاح السعادة، لأنه أفاد من رحلته علما كثيراً وفُتح له باب الحكمة الإلهية.

    Credits
    nizamiganjavi-ic.org/en
    blogs.bl.uk

    الأربعاء، ديسمبر 04، 2024

    خواطر في الأدب والفن


  • لورانس ألما تاديما رسّام هولندي الأصل، استقرّ في انغلترا بدءا من عام 1870 وحصل هو وعائلته على وضع المواطنة ومُنحوا حقوقا قانونية كمستوطنين هولنديين. ومعظم لوحاته هي لأشخاص يجلسون في ديكور رخامي أو أمام الزرقة الغميقة لمياه وسماء البحر المتوسّط. وبسبب كثرة الرخام في صوره لُقب تاديما بالرسّام الرخامي.
    كان الرسّام منذ بداياته مهتمّا خاصّة بالدقّة المعمارية، وقد جمعَ كثيرا من الصور الفوتوغرافية لمواقع قديمة في انغلترا وإيطاليا ليستخدمها في لوحاته. وكان يرسم غالبا من الطبيعة ويستخدم الأزهار الطازجة ويضمّنها في صوره قبل ذبولها، ما دفعَ الكثيرين لوصفه بالمتفذلك.
    في حياته، لم ينل ألما تاديما تقديرا يُذكر، غالبا بسبب أسلوبه الأكاديمي وتركيزه على العصور القديمة وتمسّكه بالتقاليد في وقت بدأت فيه مدارس الفنّ الحديث في الظهور. وبدءا من النصف الأوّل من القرن العشرين، احتلّت الانطباعية والوحشية والتعبيرية والتكعيبية والتجريدية والمستقبلية مركز الصدارة في عالم الرسم. وفي نفس الوقت فقدت أعمال ألما تاديما شعبيّتها وصِلتها بالواقع.
    وكان الناقد جون راسكين قد وصف تاديما بأنه "أسوأ رسّام في القرن التاسع عشر!"، بينما قال ناقد آخر إن لوحاته لا تصلح سوى "لتزيين علب الحلوى"! ثم أصبح وجود لوحة لهذا الرسّام في منزل شخص مثارا للسخرية، وصارت صوره توصف بالفنّ الرخيص.
    وعندما بيعت احدى لوحاته في الستّينات، لم تحقّق أكثر من 350 دولار، أي أقلّ من قيمة القماش والألوان التي دُفعت لرسمها. ويعزو البعض تناقص حظوظ الفنّان الى اختلاف الاذواق وافتقار لوحاته الى العمق وإغراقها في العاطفية والمثالية وتركيزها على الزخرفة، رغم الجمال البصريّ لبعضها.
    وبعد وفاته، نُسي اسم ألما تاديما تماما تقريبا. ومع ذلك أُعجبت به هوليوود لاهتمامه بالتفاصيل، وظهرت بعض لوحاته في عدد من أشهر الأفلام مثل غلادييتور "المصارع" و"كليوباترا" و"الوصايا العشر" وغيرها.
    في الماضي، أي زمن ألما تاديما ومعاصريه من الرسّامين، كان للفنّ وظائف مختلفة، كالتعليم والترفيه وكسب رضا الكنيسة والملوك وطبقة النبلاء والبرجوازيين. لكن منذ بداية القرن العشرين، أصبح الفنّ أكثر صعوبة عندما طَغت عليه الفلسفة وعلم النفس، مع ميلٍ الى هدم المعايير ومخالفة توقّعات الجمهور. وإجمالا وبمقاييس هذه الأيّام، ليس مطلوبا من الفنّ ان يكون ممتعا أو جميلا ولا يتطلّب بالضرورة مهارات خاصّة أو مواهب استثنائية.
  • ❉ ❉ ❉

  • كان كينكو المنعزل يسجّل أفكاره الحادّة اللاذعة على قصاصات من ورق لم تنجُ عبر القرون إلا بالصدفة. وكان من الممكن أن تتحلّل على الجدران التي ألصقها عليها أو أن تُرمى في سلّة المهملات. ولكن انظر إلى سحره الآن، إذ يمكنك البحث عن كينكو في غوغل، وإذا كان لديك كيندل أو نوك أو آيباد أو أيّ قارئ إلكتروني آخر، فيمكنك إعادة تجميع كلّ أعماله هو أو دانتي أو دي مونتين إلكترونياً على شاشة مسطّحة رقيقة. وقد تختفي هذه الأعمال أيضاً بلمسة واحدة وفي جزء من الثانية.
    إن الكُتاب الثمينين ينتشرون على نحو عجيب عبر الإنترنت، فأنت تحصل عليهم من الهواء بنفسك. وربّما يختفون بسرعة أكبر من أزهار كينكو أو أقماره المخفية، ما يدلّ على أن هذا الكون عبارة عن خداع بصريّ وليس شيئاً صلباً.
    ولو تخيّلنا أن دي مونتين أو كينكو أو دانتي يكتبون اليوم على موقع فيسبوك أو تويتر ويتبادلون الرسائل النصّية، فماذا سيكتبون؟ هل سيتناولون مواضيع مثل المنفى أو الانسحاب أو العزلة في عالم سكايب والخلية العالمية؟ وهل تعمل الشبكات الاجتماعية الجديدة على تحسين نوعية التفكير والكتابة؟ وكيف وإلى أيّ مدى؟ لا نعرف بعد.
    إن الكاتب العظيم لا يحتاج بالضرورة لأن يكون ناسكاً منعزلا. ولم يكن شكسبير كذلك. والغريب أن الكتابة في غرفة صاخبة أسهل أحيانا من الكتابة في صمت وعزلة. فلفترة من الزمن، كنت أحبّ الكتابة أثناء ركوب القطار السريع. كانت خشخشة العربات وصرير القضبان يحسّنان من قوّة تركيزي، وكنت أفضّل أن يكون معي رفيق وأنا أكتب. وقد أذهلني بروتوكول مترو الأنفاق، الذي يتطلّب أن تكون وجوه كلّ الركّاب المتنوّعي الخلفيات والاعراق، وطيلة مدة الرحلة، جامدة وغير قابلة للقراءة، وألا يكون هناك اتصال بالأعين في ما بينهم.
    لانس مورو
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • طلب منّي المعلّم أن أكتب موضوعا عن "من أنا؟"، وجلست طويلا أفكّر في الإجابة. لم تكن المشكلة أنني لا أعرف نفسي، بل كان الأمر يتعلّق بحيرتي في اختيار أيّ نسخة منّي يمكن أن أكتب عنها. فأنا عدّة أشخاص مختلفين. واستغرقَ الأمر منّي بعض الوقت لأدرك أن نسختي المفضّلة من "الأنا" هي تلك التي تظهر عندما لا يكون أحد حولي، أي عندما لا يتمّ تسجيل أفعالي.
    هل نكون أشخاصا مختلفين حين لا يراقبنا أحد؟ حين لا تحكم علينا عيون الآخرين؟ طريقتنا في المشي، نبرات أصواتنا، تعبيرات وجوهنا، ملابسنا، وكلّ ما يحدّد شخصياتنا يتغيّر في غمضة عين. نضحك بهستيريا، نغنّي بأعلى أصواتنا وحتى نرقص بجنون. تلك الأجزاء الجميلة والغريبة من شخصيّاتنا لا تظهر إلا عندما نكون بمفردنا.
    إن لدى كلّ انسان منّا أجزاء شرّيرة في داخله، زوايا مظلمة وممرّات ودهاليز سرّية تتنفّس في أعماقنا. وعندما لا يكون هناك أحد حولنا، تَخرج كل تلك المشاعر المدفونة فنصبح أنانيين وحسَدة وعدوانيين وقد نتمنّى الشرّ لأعدائنا.
    ولكنْ هناك بداخلنا خير أيضا، فعندما لا يراقبنا أحد فإننا نبتسم للفقير بحبّ ونعيد المال الذي سقط من جيب شخص غريب، ونحاول أن نكون أفضل نسخة من أنفسنا. إننا الأسرار المظلمة التي نخفيها والأخطاء التي نرتكبها والحبّ الذي لا نعبّر عنه واللطف الذي لا نلاحظه.
    من أنت حين لا يراقبك أحد؟! ماذا تفعل حين لا يراك أحد؟ حين لا يُحكم عليك على كلّ فعل تقوم به؟ حين لا يلاحظ أحد خطواتك وتحرّكاتك؟ هل تظلّ أنت نفسك، أم تصبح شخصا آخر؟!
  • ❉ ❉ ❉

  • يشير مصطلح "الحكمة القديمة Ancient wisdom " إلى وجود رؤى وحقائق قيّمة يمكن أن نجدها في تعاليم الحضارات القديمة والتقاليد الروحية والنصوص القديمة. وغالبا ما يشير هذا المصطلح إلى شعور باحترام معارف وتجارب الأجيال السابقة والاعتراف بأهمية تعاليمهم وضرورتها الدائمة في الحياة المعاصرة.
    وقد يلجأ الناس إلى الحكمة القديمة طلباً للإرشاد والإلهام ومن أجل فهم أعمق للحقائق الأساسية حول الوجود البشري والأخلاق والروحانية والعالم الطبيعي. وكثيراً ما ترتبط ممارسات مثل التأمّل واليوغا والطب التقليدي والتعاليم الفلسفية بتقاليد الحكمة القديمة.
    وإجمالا، تنقل "الحكمة القديمة" فكرة مفادها أن هناك حِكَما يمكن اكتسابها من المعرفة المتراكمة ومن تجارب الماضي، وأنه بدراسة تلك التعاليم القديمة والتمعّن فيها يمكن للأفراد أن يحصلوا على فهم أعمق عن معنى الحياة والغرض منها.
    وتتضمّن "الحكمة القديمة" المعرفة والرؤى والتعاليم والمعتقدات والممارسات التي تناقلتها الأجيال في مختلف الثقافات والمجتمعات على مدى فترة طويلة من الزمن. وغالبا ما تُعتبر هذه الحكمة خالدة وعالمية وتتجاوز السياقات الثقافية المحدّدة التي نشأت فيها.

  • Credits
    alma-tadema.org
    smithsonianmag.com

    الثلاثاء، ديسمبر 03، 2024

    عربي في بلاط سلطان المغول


    كان العلّامة أبو الفضل ابن المبارك (1551 - 1602) مؤرّخا وأديبا ومفكّرا ووزيرا أعظم للسلطان المغولي أكبر في الهند. وينحدر أسلاف أبي الفضل من اليمن ويعود نسبهم إلى الشيخ موسى الذي هاجر مع بعض قومه إلى السند في أواخر القرن الخامس عشر. وما أن استقرّوا في الهند حتى انتظموا في الحركات الصوفية، وخاصّة حركة طائفة الشيستي في راجستان.
    كان والده مبارك فقيها معروفا وقد أسّس له مدرسة فقهية في أغرا حيث كان مجال اختصاصه الفلسفة. وقد جذب عددا من العلماء إلى محاضراته، كما أمضى بعض الوقت في "بدوان" التي كانت تُعتبر الأرض المقدّسة للصوفية. لكن فيما بعد انتقد العلماء مبارك واتهموه بتغيير قناعاته الدينية حسب المصلحة. فمثلا كان سنيّا في عهد السلطان إبراهيم لودي، ثم أصبح مهدويّا في عهد همايون فَبَطلاً للفكر الليبرالي في عهد أكبر.
    يتحدّث أبو الفضل عن السنوات العشرين الأولى من حياته فيقول: في ليلة الأحد السادس من محرّم 958هـ، خرجت روحي الطاهرة من الرحم إلى هذا الفضاء الجميل من العالم. وفي سنّ تزيد قليلاً عن عام، اكتسبت موهبة النطق الطليق. وفي سنّ الخامسة اكتسبت مخزوناً غير عاديّ من المعلومات وعرفت القراءة والكتابة. وفي سنّ السابعة أصبحت أميناً على مخازن والدي من المعرفة وحارساً أميناً لجواهر المعاني الخفيّة، وكنت أحرس الكنز كأفعى".
    ويضيف: كان والدي يستحضر بطريقته سحر المعرفة ويعلّمني القليل من كلّ فرع من فروع العلم. ورغم نموّ ذكائي، إلا أنني لم أكتسب انطباعات عميقة من مدرسة التعلّم. وفي بعض الأحيان لم أكن أفهم شيئا على الإطلاق. وفي أحيان أخرى كانت تلوح في الأفق شكوك لم يكن لساني قادرا على تفسيرها. فإمّا أن الخجل يجعلني أتردّد أو أنني لم أكن أمتلك القدرة على التعبير. وكنت أبكي في الأماكن العامّة وألقي باللوم كلّه على نفسي".
    ثم يقول: وذات يوم تعرّفت على شخص أصبح صديقا مقرّبا منّي فتعافت روحي من هذا الجهل وعدم الفهم. ولم تمرّ أيّام قليلة حتى استعاد عقلي المشتّت هدوءه. ورغم أنني كنت أتمتّع بموهبة خاصّة نزلت عليّ من عرش القداسة، إلا أن إلهام والدي الجليل كان مفيدا للغاية وأصبح أحد أهم أسباب تنويري. ثم ولعشر سنوات أخرى، تحرّرت روحي مرّة أخرى من نيرها ونشأ في داخلي قلق جديد. فلم أعد أفرّق بين الليل والنهار أو بين الشبع والجوع، ولم أميّز بين الخصوصية والمجتمع، ولم تكن لديّ القدرة على فصل الألم عن اللذّة. ولم أعترف بأيّ شيء آخر غير رباط الإثبات والمعرفة".
    ويضيف: ثم اعترضتُ على الكتّاب القدامى وخالفت الرجال الذين علّموني في شبابي، وانزعجَ عقلي وكان قلبي في حال من الاضطراب. كنت كلّما قوِيتْ إرادتي استنار فكري، إلى أن وصلتني بشرى استقلاليّتي وتخلّصَ عقلي من قيوده السابقة وعادت حيرتي المبكّرة. لم أكن أعلم كيف سينتهي كلّ شيء ولا في أيّ مكان سأستقرّ في رحلتي الأخيرة. لكن منذ بداية وجودي وحتى الآن، ظلّت نعمة الله تحميني باستمرار. وأتمنّى أن أقضي لحظاتي الأخيرة في تنفيذ إرادته وأن أنتقل إلى الراحة الأبدية متخفّفاً من أيّ أعباء".


    واصل أبو الفضل ولعه بالقراءة ودفن نفسه في قراءة المصادر العربية واليونانية الكلاسيكية، مع اهتمام خاص بالفلسفة والتصوّف. وفي عام 1574، دخل الى بلاط السلطان أكبر، وكان عمره 23 عاما. وبسبب اعتدالهما وتسامحهما، نشأت بين السلطان والفقيه علاقة عميقة، حيث أثّر كلّ منهما على الآخر فكريّا وإنسانيّا. كان أبو الفضل يحظى باحترام كبير لعلمه وفضله، ولم يلبث أن أصبح يشار اليه باعتباره إحدى "الدّرر التسع" في بلاط السلطان.
    وعلى امتداد السنوات الخمس والعشرين التالية، عمل كمستشار لأكبر وكمتحدّث باسمه، حيث صاغ وروّج لأفكار وسياسات السلطان. ثم عُيّن مسؤولاً عن "بيت العبادة" العلماني، حيث كان الفلاسفة والمفكّرون من ديانات مختلفة يناقشون شتّى القضايا، الأمر الذي جرّ عليه غضب بعض الزعماء الأصوليين الذين اتهموه بالتأثّر بالأفكار الصوفية "المتساهلة".
    ثم عهد إليه السلطان بتأليف كتاب "أكبر نامه" أو كتاب أكبر، وهو وثيقة لتاريخ حكم السلطان موزّعة على ثلاثة مجلّدات. ويحتوي الكتاب على تاريخ أسلاف السلطان من تيمور إلى همايون وحتى العام السادس والأربعين من حكم أكبر. وقد عمل أبو الفضل على هذا المشروع الضخم لمدة 12 عاما تقريبا وحتى مقتله في عام 1602. "في اللوحة التي فوق، يظهر العلّامة أبو الفضل وهو يسلّم الكتاب الى السلطان أكبر الجالس على عرشه محاطا بعدد من أفراد حاشيته وخدمه".
    في الكتاب، تناول أبو الفضل القيم الطيّبة في الديانات المختلفة وجمَعها معا من أجل الحفاظ على السلام ومساعدة الناس على أن يتحرّروا من الأفكار المكبّلة، وقدّم "أكبر" كحاكم عقلاني وتبنّاه باعتباره "بطله" الشخصي، مشيدا بسياساته العلمانية والمتفتّحة. كما ذكر أن الهدف الأساسي من فتوحات أكبر كان إخضاع أكبر عدد ممكن من الناس لإدارته وحكمه الليبرالي والمتسامح والعادل والمسالم، من أجل تحقيق أقصى قدر من الفوائد السياسية لأكبر عدد ممكن من الهنود.
    وقد ذكر أبو الفضل أسباباً عديدة لظهور الخلافات بين أتباع الديانات المختلفة في الهند. فرأى مثلا أن تنوّع اللغات يُعدّ من بين هذه الأسباب وأن اختلافها يجعل من الصعب على الأفراد فهم الموضوعات الدينية والطقوس والعادات التي يتبنّاها أتباع الديانات الأخرى. وذكر أيضا أن هناك نقصاً في الحماس بين مختلف الناس لمحاولة فهم تعاليم الديانات المختلفة. وبحسب أبي الفضل فإن الحكّام الضيّقي الأفق والمهووسين هم أيضا مسؤولون عن ذلك لأنهم يمارسون أفعالا وسياسات معادية لأتباع الديانات الأخرى.
    كتاب "أكبر نامه" يُعتبر عملا تاريخيا وأدبيّا مُهمّا يوفّر رؤية عن المشهد السياسي لإمبراطورية المغول وجهود "أكبر" لتعزيز التسامح الديني والتوليف الثقافي. وما يزال الكتاب مصدرا قيّما للمؤرّخين المهتمّين بدراسة تلك الفترة من تاريخ الهند. ويتّفق الكثيرون على أن الإرث الدائم لأبي الفضل هو أنه أسهم في وضع رؤية لإمبراطورية كبيرة وموحّدة يحكمها زعيم مسلم يمارس "الإسلام العالمي".
    كان قُرب أبي الفضل من "السلطان أكبر" سببا في شعور الكثيرين بالغيرة منه. وقد اغتيل الرجل عام 1602 في مؤامرة دبّرها الابن الأكبر لأكبر الأمير سليم الذي أصبح فيما بعد الإمبراطور جهانغير. وقيل إن سبب مقتله كان معارضته لتولّي سليم للعرش. كان أبو الفضل وقتها في الخمسين من عمره. وقد أُرسل رأسه المقطوع إلى سليم في الله أباد. وفي عام 1608، عُيّن ابن أبي الفضل، الشيخ أفضل خان، حاكما على بيهار بأمر من جهانغير نفسه.

    Credits
    static-cdn.edit.site

    الأحد، ديسمبر 01، 2024

    سيكولوجيا لوم الضحيّة


    أقوى إساءة يمكن أن توجّهها لإنسان هي عدم تصديقك لمعاناته. وأسوأ من هذا أن تلومه وهو الضحيّة وتبرّيء مرتكب الجريمة!
    إلقاء اللوم على الضحيّة يمكن أن يكون له عواقب ضارّة، لأنه يساوي الجاني بالمجني عليه ويستخفّ بمعاناة الضحايا ويمكن أن يثنيهم عن طلب المساعدة أو الإبلاغ عن الجرائم المرتكبة ضدّهم أو التحدّث عنها علنا بسبب الخوف أو المزيد من اللوم.
    أحيانا ينشأ لوم الضحيّة عن الصور النمطية والمواقف المجتمعية، مثل الاعتقاد أنه كان ينبغي على الضحايا أن يمنعوا الضرر أو أنهم تسبّبوا به أو استحقّوه أو أنهم يبالغون في تجاربهم أو يختلقونها. ويمكن أن تكون مثل هذه المواقف متأصّلة بعمق في الأعراف الثقافية وفي صور وسائل الإعلام والخطاب العام.
    وأحيانا يلوم الناس الضحيّة ليُبعدوا عن أنفسهم احتمال أن يصبحوا هم أيضا ضحايا. وهذا السلوك يوفّر إحساسا زائفا بالأمان من خلال الاعتقاد بأنه إذا كان الضحايا مخطئين فيمكن للشخص تجنّب الوقوع ضحيّة وذلك باتخاذ خيارات مختلفة.
    وكثيرا ما يتضمّن لوم الضحيّة بعض الصيغ والعبارات الشفهية مثل "لا بدّ أنك تعلم أن هذا سيحدث" و"لماذا لم تتكلّم من قبل" و"لا بدّ أنك أخطأت أو استفزّيت أحدا" و"لماذا بقيت في ذلك المكان؟" أو "أين دليلك" أو "يجب أن تصمت لأن خصومك أقوى منك وسيدمّرونك!" الخ. ومثل هذه التعليقات والكليشيهات الفجّة والمبتذلة تُسهم في حرمان الأشخاص المتضرّرين وضحايا العنف بأشكاله من التعاطف والدعم الذي يحتاجونه ويستحقّونه.
    ويمكن أن يتقاطع إلقاء اللوم على الضحيّة مع أشكال أخرى من التمييز والقمع المجتمعي، مثل العنصرية أو الطبقية والمذهبية وما في حكمها من صور نمطية وتحيّزات، ما يؤدّي إلى تفاقم آثار إلقاء اللوم على الضحيّة وإدامة دائرة الإفلات من العقاب.
    وهناك أيضا سبب آخر لميلنا إلى إلقاء اللوم على الضحيّة، يتمثّل في الاعتقاد بأن هذا العالم مكان عادل ومنصف وأن باستطاعة الناس التنبّؤ مسبقا بأيّ مشكلة قد تصيبهم ومن ثمّ منعها، وبالتالي فإنهم يستحقّون ما يحدث لهم على أيّ حال. ومثل هذه الأفكار المغلوطة تجعل الناس يستسهلون لوم الضحيّة وتعزّز وهمهم بأن الأشياء الفظيعة لا يمكن أن تحدث لهم أبداً.
    وعادةً عندما يحدث شيء سيء لشخص آخر غيرنا، فإننا غالبا ما نعتقد أن ذلك الشخص لا بدّ أنه فعل شيئا يستحقّ مثل ذلك المصير وأن الناس يحصلون على ما يستحقّونه. لكن المنطق يقول إن الأشياء السيّئة يمكن أن تحدث لأيّ شخص، حتى أنت وأصدقاؤك وعائلتك، بغضّ النظر عن مدى طيبتك وحذرك ونوعية ضميرك.


    ويمكن أن ينشأ إلقاء اللوم على الضحيّة من عدم التعاطف مع الآخرين كطبيعة متأصّلة في بعض الناس. فهناك أشخاص يفتقرون بشدّة إلى التراحم والعطف على الآخرين ويكرهون التعامل مع المواقف الإنسانية ولا يفكّرون في مآسي الغير أو تجاربهم. وبسبب هذا الفقر العاطفي والجفاف الإنساني، فإنهم أكثر ميلاً لإلقاء اللوم على الآخرين عندما تحدث لهم أشياء سيّئة كما أنهم أقلّ عرضة لتقديم المساعدة.
    إن إلقاء اللوم على الضحيّة يمكن أن يكون له عواقب وخيمة على الأفراد الذين عانوا بالفعل من الظلم. إذ يمكن أن يدفعهم ذلك إلى العزلة والامتناع عن الإبلاغ عن الجرائم المرتكبة ضدّهم أو طلب العدالة، لخشيتهم من التعرّض لمزيد من التشكيك أو التحامل وعدم التصديق.
    ويمكن أن يكون إلقاء اللوم على الضحيّة مدمّرا للأشخاص المعتدى عليهم. فهو يؤدّي الى لوم الذات ولا يشجّعهم على طلب المساعدة بتركيزه على سلوكيات الضحايا بدلاً من تصرّفات المعتدين. كما أنه يجعل من الصعب على الضحايا الحصول على المساعدة والدعم الذي يحتاجونه ويسهم في مشاكل تتعلّق بالصحّة العقلية، مثل الاكتئاب والقلق واضطراب ما بعد الصدمة وحتى التفكير في الانتحار.
    في المجتمعات المتحضّرة، يتطلّب التعامل مع ظاهرة لوم الضحايا جهدا جماعيّا لخلق ثقافة تدعم الضحايا وتنتصر لهم وتتحدّى المواقف والمعتقدات التي تساهم في هذه الظاهرة. وهذا بدوره يؤدّي الى تعزيز ثقافة الاحترام والتفاهم والتعاطف والعدالة للجميع ومساءلة الجناة مباشرة وتشجيع الضحايا على التعبير عن مظالمهم دون خوف من حكم الناس أو لومهم.
    وبدلا من لوم الضحيّة والتركيز على ما فعله الضحايا أو لم يفعلوه، يجب إعادة صياغة المناقشات حول المسؤولية والمساءلة والتركيز على سلوك الجناة ومعالجة الأسباب الكامنة وراء الضرر، مثل المواقف المؤسّسية والمجتمعية أو الأنظمة التي تشجّع على العنف والتحامل.
    إن كلّ انسان عرضة لأن تحدث له أشياء مؤسفة في هذه الحياة، وربّما تحدث لك أنت في مرحلة من حياتك. لذا، عندما تجد نفسك تتساءل عمّا فعله شخص آخر ليتسبّب في سوء حظّه، توقّف للحظة وفكّر في التحيّزات النفسية التي تؤثّر على حكمك. وبدلاً من إلقاء اللوم على الضحيّة، حاول أن تضع نفسك مكان ذلك الشخص وعامله بالحدّ الأدنى من التعاطف الإنساني بدل لومه وتحميله المسئولية عن ظلم غيره له.

    Credits
    psychologytoday.com

    الجمعة، نوفمبر 29، 2024

    خواطر في الأدب والفن


  • اللوحة فوق رسمها فنّان يُدعى روبيرت وارثموللر من القرن الثامن عشر، وفيها يظهر فريدريش العظيم ملك بروسيا المعروف بـ "ملك البطاطس" وهو يتفقّد ثمار البطاطس التي زرعها بعض الفلاحين في حقولهم. كان الملك يبحث عن طرق لإطعام شعبه وخفض سعر الخبز. واقترح البطاطس كإضافة جديدة ومناسبة للنظام الغذائي في البلاد.
    لكن الفلاحين قاوموا زراعة البطاطس على أساس أن مظهرها غير نظيف ولا طعم لها. فقرّر الملك إعادة تسميتها وأطلق عليها "الخضرة الملكية"، وزرع حقلاً كاملا بالبطاطس وأمر حرّاسه بحمايتها. لكنه أمر الحرّاس سرّاً بأن يتغافلوا عن أيّ مواطن يأتي الى حقل الملك ليسرق البطاطس. وبعد فترة وجيزة، بدأ الفلاحون في سرقة "البطاطس الملكية" وزراعتها سرّاً في حقولهم. ثم فجأة أصبح الجميع يأكلون البطاطس. كان الملك ذكيّا بما يكفي لأن يفهم أن كلّ شيء يستحقّ الحراسة فإنه يستحقّ السرقة.
    وقد أصبحت البطاطس بعد ذلك الغذاء الجديد والأكثر أهمية في القرن التاسع عشر. وكانت تتمتّع بثلاث مزايا رئيسية على الأطعمة الأخرى، فمعدّل تلفها منخفض وحجمها ضخم ومشبع وثمنها رخيص. وانتشر المحصول ببطء في مختلف أنحاء أوروبا. وبحلول منتصف القرن التاسع عشر احتلّ هذا المحصول ثلث الأراضي الصالحة للزراعة في آيرلندا.
    وقبل ذلك بثلاثة قرون، رأى مجموعة من الغزاة الإسبان ثمرة بطاطس لأوّل مرّة أثناء إغارتهم على قرية في بيرو بحثاً عن الذهب والفضّة. ووصلت البطاطس لأوّل مرّة إلى أوروبّا في وقت ما قبل نهاية القرن السادس عشر.
    بالنسبة للشعوب الاصلية في أمريكا الجنوبية، لم يكن للبطاطس أهميّة دينية أو ثقافية كبيرة كالذرة مثلا. لكن تلك الشعوب فُتنت بالطبيعة البارزة والمشوّهة للبطاطس وظهرت في فنونهم على هيئة حيوانات وبشر مشوّهين.
    فريدريش العظيم حكمَ بروسيا من عام 1740 إلى عام 1786. ورغم أنه كان معروفًا بحملاته العسكرية، إلا أنه كان أيضا من روّاد التحديث الاجتماعي والاقتصادي.
    وعندما ظهر خطر المجاعة في مملكته، قدّم الى شعبه البطاطس التي كان الإسبان قد جلبوها مؤخّرا معهم من أمريكا الجنوبية. كانت زراعتها سهلة ويمكن أن تكون مصدرا غذائيا جديدا وحيويا. ولكن لم يكن الفلاحون البروسيون متحمّسين للفكرة. وكانوا يؤمنون بمثل يقول "ما لا يعرفه الفلاح لن يأكله". لكن تلك الحيلة "التسويقية" الذكيّة من الملك أقنعتهم بتغيير رأيهم. وتحوّلت قصّة البطاطس هذه إلى أسطورة. ففي مدينة بوتسدام، يوجد قبر فريدريش العظيم وسط بستان للكروم. وإلى اليوم ما يزال الناس يأتون إلى المكان ليضعوا البطاطس على قبره تكريما لذكراه.
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • يقول مطلع قصيدة للشاعر حافظ: ألا يا أيّها الساقي أدر كأسا وناولها.. الى آخر القصيدة. الساقي تعني حرفيّا حامل الكأس. لكنها في شعر المتصوّفة تُستخدم كإشارة إلى معلّم روحي، والمعلّم بدوره رمز لحضور الحبيب الواحد والوحيد.
    لكن السؤال: كيف ومتى انتقلت مفردة "ساقي" الى اللغة الانغليزية؟
    هناك رأي شائع يقول إن المفردة Saqi/Sagi قُدّمت للقرّاء الناطقين بالإنغليزية لأوّل مرّة في عام 1868 في الطبعة الثانية من ترجمة إدوارد فيتزجيرالد لرباعيّات عمر الخيّام. وقد نشر فيتزجيرالد أربع طبعات مختلفة من ترجمته للخيّام. في الطبعة الأولى عام 1859، لم تظهر كلمة "ساقي"، على الرغم من أن غوته وآخرين قدّموها من قبل إلى اللغات الغربية في ترجماتهم للشعر الشرقي.
    لكن مع مرور الوقت، بدا أن فيتزجيرالد شعر بشكل متزايد أن الاستخدام الإنغليزي لكلمة "ساقي" مناسب، فقدّمها في طبعة الرباعيّات لعام 1868 في البيت الذي يقول: ما أهرقَ الساقي سُلافا في الثرى إلا وأطفأ نارَ قلبٍ مُولعِ". ثم أضاف ظهورا ثانيا للمفردة في الطبعتين الثالثة والرابعة.
    كانت رباعيّات فيتزجيرالد واحدة من أنجح ترجمات الشعر إلى الإنغليزية على الإطلاق، وربّما كانت الأكثر نجاحا، لذلك كثيرا ما شوهدت كلمة "ساكي" (أو ساقي) في اللغة الإنغليزية في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، وخاصّة بعد ظهور جمعيات أدبية نشطة عن عمر الخيّام في معظم العواصم الناطقة باللغة الإنغليزية.
    بل إن كاتب قصّة قصيرة أسكتلنديّا يُدعى هـ. مونرو (1870-1916) اختار "ساقي" كاسم مستعار له، وهو ما يفترض أن هذه المفردة موثّقة جيّدا في المعاجم الإنغليزية. لكن الأمر غير ذلك، فقاموس أكسفورد الإنغليزي لا يقدّم أيّ مدخل لكلمة "ساقي" بهذا المعنى، بل كاسم يصف نوعا معيّنا من قرود أمريكا الجنوبية! أما قواميس ميريام وبستر فتذكر أن "ساقي" يمكن أن تكون تهجئة مختلفة لكلمة (Sake/sake/saki) التي تشير الى نوع من نبيذ الأرُزّ الياباني.
    من الكلمات العربية الأخرى التي دخلت الى الإنغليزية kazi بمعنى قاضي بالعربية والتركية والفارسية، وأيضا كلمة vizier أي وزير بالعربية والتركية. ويعود اوّل استخدام للمفردة الثانية في الإنغليزية إلى حوالي عام ١٥٩٩م.
  • ❉ ❉ ❉

  • أحيانا يمكن أن نتعلّم من بعض الكائنات الضعيفة دروسا مهمّة قد لا نتمكّن من تعلّمها من بعضنا البعض كبشر. فبحسب بعض العلماء، يمكن أن يعلّمنا طائر الإوز مثلا العديد من الدروس المفيدة في الحياة.
    فعندما ترفرف كلّ إوزة بجناحيها، أثناء الطيران، فإنها تخلق رافعة للطيور التي تتبعها. ومن خلال الطيران على شكل حرف "V"، يضيف السرب بأكمله مدى أكبر بنسبة 70% ممّا لو طار كلّ طائر بمفرده. والدرس المستفاد هو أنه يمكن للأشخاص الذين يشتركون في حسّ مشترك بالاتجاه وبالجماعة أن يصلوا إلى حيث يتجهون بشكل أسرع وأسهل، لأنهم يسافرون معا ويدعم بعضهم بعضا.
    وهناك حقيقة ثانية، فعندما تخرج إوزّة من التشكيل أو السرب، فإنها تشعر فجأة بمقاومة الطيران بمفردها، فتعود بسرعة إلى التشكيل للاستفادة من قوّة رفع الطائر الذي أمامها مباشرة. والدرس المستفاد هو أنه إذا فكّرنا مثل الإوزّة، فإننا نبقى مع أولئك الذين يتجهون إلى حيث نريد أن نذهب، ونبدي استعدادنا لقبول مساعدتهم وتقديم مساعدتنا للآخرين.
    والحقيقة الثالثة هي أنه عندما تتعب الإوزّة القائدة، فإنها تدور مرّة أخرى في التشكيل وتطير إوزّة أخرى إلى موضع النقطة. والدرس المستفاد هو أنه من المفيد التناوب في أداء المهام الصعبة وتقاسم القيادة والاعتماد على المهارات والموارد البينية، كما هو الحال مع الإوز.
    والحقيقة الرابعة هي أن طائر الإوزّ المحلّق في التشكيل يُطلق صفيرا لتشجيع من هم في المقدّمة على الحفاظ على سرعتهم. والدرس المستفاد هو أن علينا أن ندرك أهمية التحفيز والتشجيع. ففي المجموعات التي يوجد فيها تشجيع، تكون الإنتاجية أكبر بكثير.
    والحقيقة الخامسة: عندما تمرض أو تُجرح أو تسقط إوزّة، تخرج إوزّتان من السرب وتتبعانها لمساعدتها وحمايتها، وتبقيان معها إلى أن تموت أو تتمكّن من الطيران مرّة أخرى وتلتحق بالسرب. والدرس المستفاد هو أنه إذا كان لدينا نفس عقل الإوز، فسنقف بجانب بعضنا البعض في الظروف الصعبة ووقت الحاجة.
  • ❉ ❉ ❉

  • سأل صحفيّ شغوف بالصحراء أحد أفراد قبيلة الطوارق: لماذا يتحدّث الطوارق قليلاً". فأجاب: لأنه بعد قول ما هو ضروري، يصبح كلّ شيء آخر هدرا. وفي الصحراء اعتدنا على توفير كلّ شيء حتى الكلام".
    ويعلّق الصحفي بقوله: رغم أنني أكتب الكلمات لكسب العيش، إلا أنني أخاف بشدّة من إهدارها بلا حساب". أحد خبراء الإعلان قال مرّة: لم أجلس قطّ لكتابة مقالة طويلة، بل أجلس لمحاولة بيع شيء ما. والقاعدة الصحيحة هي أن تقول ما تريد قوله ثم تتوقّف".
    بشكل عام، لم يعد أحد يقرأ النصّ الطويل اليوم. لذا إجعل مقالتك أقصر وأقوى وحديثك أكثر إيجازا.

  • Credits
    motivatedbynature.com
    pure-potential.co.uk

    الأربعاء، نوفمبر 27، 2024

    إيقاعات عصرية


  • عندما أبدأ الكتابة، لا يكون في ذهني أيّ خطّة على الإطلاق. فقط أنتظر القصّة حتى تأتي. ولا أختار نوع القصّة أو ما سيحدث. فقط أنتظر. أكتب رواية كلّ ثلاث أو أربع سنوات. ونَثري سهل القراءة للغاية، فهو يحتوي على روح الدعابة، كما أنه درامي ومثير للاهتمام. وهناك نوع من التوازن السحري بين هذين العاملين، وربّما يكون هذا سبباً آخر لنجاحي كروائي. هاروكي موراكامي
  • هل تستطيع رؤية ذلك النجم؟ إنه جميل، أليس كذلك؟ هل تعتقد أنه يعلم أننا نراه؟ وأننا منبهرون بجماله؟ لا أعتقد. ومع ذلك فهو مستمرّ في التألّق. عليك أن تكون مثل ذلك النجم تماما. حاول أن تتألّق دائما، فحتى لو لم تعرف، هناك دائما من هو معجب بك كما أنت. مارك هيلبيرن
  • كنّا نعتقد بأن البطل الذي يُقتل في خدمة سيّد عظيم أو يُضحّى به تكريما لإله هائل، كان مضمونا له حياة أبدية في أكثر عوالم الآخرة بهاءً، حيث سيكافَأ بنعيم أبدي. والآن تخبرنا الأديان أنه يمكننا جميعا أن نأمل في حياة أخرى بجنّة رائعة مماثلة.
    ولكن فكّر في الأمر، حتى أكثر الأبطال شجاعةً الذين يموتون في أكثر القضايا شرفا، حتى أكثر الشهداء تديّنا الذين يموتون وهم على يقين من الوصول إلى الجنّة، لن يعودوا يعرفون أبدا ضوء القمر كما يبدو في هذا العالم ولن يمشوا ثانيةً تحت أشجار السرو. هذه متعة تافهة وصغيرة جدّا، ولكن لن تُعرف أبدا مرّة أخرى." غاري جينينغز
  • تتحدّث رواية "جسر إلى تيرابيثيا" لكاثرين باترسون عن شجرة تفّاح برّي تنمو في ريف فرجينيا بالقرب من وادٍ جافّ، ويتدلّى من فرعها الرئيسي حبل قديم. تتأرجح جيس وليزلي، الطالبتان والصديقتان المقرّبتان، على الحبل لدخول الغابة، حيث يحكمان كملك وملكة على مملكتهما الخيالية تيرابيثيا.
    عالم جيس وليزلي الساحر له قواعده، وإحداها هي أنه لا يمكن دخول تيرابيثيا إلا بالتأرجح على شجرة التفّاح البرّي. إنها الطريقة الوحيدة لجعل السحر يعمل. وبصفتي كاتبة، أحبّ هذا، فمن خلال ترسيخ الأطفال في عالمهم المادّي يصبح دخول عالم الخيال ممكنا. الخيال ليس هروبا من الواقع، بل يسمح لنا خيالنا باختراق اللمعان السطحي الذي نسمّيه الواقع، من أجل الكشف عمّا هو حقيقي وما هو أكثر صدقاً من الحقيقة. كاترينا ڤاندينبيرغ
  • يقال أحيانا أن "زبالة شخص ما قد تكون كنزَ شخص آخر". والمعنى هو أن ما قد يعتبره البعض عديم القيمة أو غير مرغوب فيه يمكن أن يحمل قيمة وإمكانات كبيرة بالنسبة للآخرين. فأيّ شيء تملكه ولا تحتاج إليه حقّا أو لا تريده هو مجرّد متاع مهمَل أو خردة بالنسبة لك. ولكن بالنسبة لشخص آخر قد يكون هذا الشيء من الممتلكات الثمينة والتي لا تُقدّر بمال لأنه يحتاجه، لكنه لا يمتلكه.
    وهذا القول يؤكّد الترابط المتأصّل والتنوّع في المجتمع، وأن الأرض بما فيها من موارد وفيرة تكافئ الذين يمتلكون المرونة اللازمة للكشف عن الكنوز المخفيّة أو تلك المهمَلة أو المتجاهَلة. كما تؤكّد العبارة أيضا على تقدير قوّة الاستكشاف والإبداع وتسخير الإمكانيات والموارد الكامنة.
    هل تتذكّر أسطوانات الموسيقى القديمة أو أشرطة الكاسيت؟ إنها بالنسبة للكثيرين مجرّد خردة أو زبالة، لكنها بالنسبة لعشّاق الموسيقى وجامعي التسجيلات "كنوز" ذات قيمة عالية، لأنها توفّر ارتباطا بالماضي وتجربة استماع فريدة. وهناك من يقدّرون عيوب هذه الوسائط ويفضّلون الصوت القديم والخبرة التي تتضمّنها على الكمال الرقمي الحديث.
    ونفس الشيء ينطبق على الملابس والأزياء القديمة والأثاث العتيق والسيّارات الكلاسيكية والكتب المستعملة "خاصّة إن كانت نادرة أو نفدت طبعتها" والإلكترونيات المكسورة أو القديمة أو المهملة والخردة المعدنية وما إلى ذلك. رون تالبوت
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • يجب أن نقبل أولئك الذين يقبلوننا وأن نتجاوز الذين لا يفهموننا أو لا يقبلوننا. إن محاولة إجبار الآخرين على قبولنا هي الطريق إلى التعاسة وإلى الأذى. لا يوجد شيء يمكننا القيام به لتغيير أولئك الذين لا يحبّوننا أو لا يفهموننا. وفي النهاية، يتعيّن علينا ترك مثل هؤلاء الأشخاص وراءنا، لأن السماح للأشخاص الخطأ بسحبنا إلى أسفل سيجعل من الصعب علينا أن نُبقي أعيننا على المكان الذي نحتاج لأن نكون فيه. پول كوربيه
  • لا شيء عشوائي. حتى الإلكترونات التي يُفترض أنها مثال للتقلّبات غير المتوقّعة، هي كائنات صغيرة أليفة ومطيعة تندفع بسرعة الضوء وتذهب بالضبط إلى حيث يُفترض أن تذهب. إنها تُصدر أصوات صفير خافتة. وعندما تُدرَك في مجموعات مختلفة، فإنها تكون ممتعة كالريح التي تطير عبر الغابة، وهي تفعل بالضبط ما تُؤمر به. مارك هيلبيرن
  • بدأتُ قراءة كتاب بوتيرتي السريعة المعتادة. ولكن سرعان ما أدركت أنني سأحتاج إلى العودة والبدء من جديد، لأن القصّة والأسلوب يتطلّبان مزيدا من التركيز والوقت. ثم بدأت أضع خطّا تحت الكلمات والعبارات التي أذهلتني بجمالها أو قوّتها.
    كانت هذه الكلمات والعبارات قليلة في البداية. لكنْ شيئا فشيئا أصبحت كلّ صفحة تقريبا مليئة بها، غالبا جمل وأحيانا فقرات كاملة. إن وضع خطّ تحت الكلمات هو وسيلة للابتهاج والمتعة وإخبار شخص غير موجود بمدى حبّك لقراءة هذا الكتاب.
    كان تأثير القراءة مهدّئا وتأمّليا، وهو ما أبطأ من سرعتي أكثر، وجعلني أشعر بأنني جزء من كلّ ما يُكتب. كان شعورا جسديّا وحسّيا معا، وأنا متأكّد من أن دقّات قلبي وكذلك عقلي تباطأت. كنت أبتسم في بعض الأحيان وأقرأ بصوت عالٍ لأستمتع بسماع إيقاعات اللغة. وليام هارت
  • كان أداء ألبيرت آينشتاين السيّئ للغاية في المدرسة سببا في دفع معلّميه إلى إخبار والديه بإخراجه من المدرسة لأنه "غبيّ جدّا بحيث لا يستطيع التعلّم"، واقترحوا أن يحصل على وظيفة سهلة تعتمد على العمل اليدوي. لكن بدلاً من ذلك، اشترى له والده كمانا ليتعلّم عليه العزف.
    كانت الموسيقى هي المفتاح الذي ساعد آينشتاين على أن يصبح أحد أذكى الأشخاص الذين عاشوا على الإطلاق. وقد أحبّ موسيقى موزارت وباخ أكثر من غيرهما. وقال أحد أصدقائه المقرّبين إن الطريقة التي اكتشف بها آينشتاين مشاكله ومعادلاته كانت من خلال الارتجال على الكمان، وأن الموسيقى هي التي أظهرت عبقريّته. روبيرت سپولدينغ
  • إحدى أكبر الإهانات التي يمكنك توجيهها إلى الحبيب في العالم الحديث هي أن تقول له: أريد أن أغيّرك". كان لدى الإغريق القدماء وجهة نظر عن الحبّ، تستند في الأساس إلى التعليم، وهي أن الحبّ عملية خيرية يحاول من خلالها شخصان تعليم بعضهما البعض كيف يصبحان أفضل نسخة من نفسيهما. آلان دي بوتون
  • أدركُ، كأمريكي، بأن هذا المكان هو الذي يعتبره ملايين الناس في العالم الأفضل على وجه الأرض ولطالما حلموا بالعيش فيه. ومن المؤكّد أن جزءاً كبيراً من الأمريكيين هم أناس طيّبون حقاً. ونحن نعلم أن أسلافنا جاءوا إلى هذه القارّة وسرقوا أراضي السكّان الأصليين وقتلوا الكثيرين منهم، بل وأساءوا معاملة من نجوا.
    لقد كان ما حدث ظلماً فظيعاً، ولكنني لا أستطيع تغيير ما حدث آنذاك ولست على استعداد لتحمّل المسئولية عمّا حدث قبل ولادتي بفترة طويلة. إنني ضدّ الأفكار الشوفينية وعبادة الدولة، وأدرك أن هذه البلاد ليست مثالية ولا أستطيع أن أزعم أنني أحبّ الحكومة القسرية هنا. ولكنّي أحبّ ما كان مفترَضا أن تكون عليه أميركا ذات يوم، بل إنني أتطلّع إلى السبل التي قد تنجو بها هذه الفكرة وتزدهر. ديڤيد ماكلروي
  • يبدو أننا، كبشر، مبرمجون ليكون لدينا حاجة عميقة لسماع صوت شخص نحبّه، حتى لو لم نكن نعرف ذلك عن وعي. أتمنّى لو كانت لديّ تسجيلات لعائلتي منذ كنت صغيرا. كنّا نمتلك مسجّلات شرائط كاسيت منذ وقت مبكّر جدّا، وقد سجّلنا الكثير من الشرائط لأنفسنا. وأتذكّر أنني كنت أسجل ساعات وساعات من أفكاري عندما كنت صغيرا. كنت مستعدّا لبذل أيّ شيء لسماع صوتي وما كنت أتحدّث عنه.
    أتمنّى لو كان لديّ اليوم تسجيلات لوالديّ أو تسجيلات لأجدادي. كان جدّي يحكي لي قصصا مذهلة عن حياته عندما كان صبيّا فقيرا في الريف. ولا زلت أستطيع سماع صوته في ذاكرتي، لكنني لن أسمعه في أذني أبدا. كان رجلا لامعا ومتعلّما رغم أنه لم يتجاوز الصفّ السادس في المدرسة. هل تعرفون أفلام الخيال العلمي القديمة التي يفتح فيها صوت شخص ما باباً أو قبواً؟ لا أعلم ما إذا كانت قلوب الآخرين تعمل بنفس الطريقة، ولكن الصوت قادر على تنشيط شيء ما في القلوب وفتحها. ستيڤ نيلسون
  • الأشياء الأكثر أهميّة هي التي يصعب قولها. الكلمات تقلّل من حجم الأشياء التي تبدو بلا حدود عندما تكون في رأسك. لكن الأمر أكثر من ذلك. الأشياء الأكثر أهميّة تكمن بالقرب من أيّ مكان دُفن فيه قلبك السرّي، مثل المعالم التي تشير إلى كنز يحبّ أعداؤك سرقته. وقد تكشف عن أشياء تكلّفك غاليا. إن أسوأ شيء هو عندما يظلّ السرّ محبوسا في الداخل، ليس بسبب عدم وجود راوٍ، ولكن بسبب افتقاره إلى أذن متفهّمة. ستيڤن كنغ

  • Credits
    garyjennings.com
    harukimurakami.com