:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الاثنين، أغسطس 19، 2024

رسائل من الجبال/1


ولد تشارلز لانمان في ميشيغان في يونيو من عام 1819. وبدأ حياته في الصحافة، ثم درس الرسم مع فنّاني مدرسة هدسون في نيويورك وتتلمذ على يد الرسّام آشر دوراند. كما ربطته صداقة بالكاتب المشهور واشنطن ايرفنغ.
وقد سافر لانمان، المهتم بالتاريخ الطبيعي، في أرجاء أمريكا وألّف كتبا عن رحلاته من أشهرها هذا الكتاب بعنوان "رسائل من جبال ألليغيني"، الذي وثّق فيه رحلته عام 1849 في تلك الجبال التي تمتدّ لما يقرب من 500 ميل عبر وسط بنسلفينيا وميريلاند وغرب فرجينيا وجنوب غرب فرجينيا.
كانت جبال ألليغيني والتلال المحيطة بها موطنا للبشر منذ آلاف السنين. وعاشت في الجزء الجنوبي من السلسلة شعوب أصلية كثيرة لبضع مئات من السنين، قبل وصول المستوطنين الأوروبيين الى المنطقة ابتداءً من القرن الثامن عشر. لكن يبدو أن غالبية الشعوب الأصلية انقرضت، إما بسبب انتشار الأمراض المستوردة أو بسبب الحروب مع الاوربيين ومع مجموعات محلية أخرى.
كتاب لانمان يتناول العديد من القصص عن مغامراته واكتشافاته ولقاءاته الكثيرة مع السكّان الأصليين وانطباعاته عن الكثير من المعالم الجغرافية والأشخاص الذين رآهم خلال رحلاته.

❉ ❉ ❉

  • كلمة "ناكوتشي" الهندية تعني "نجمة المساء"، وقد أطلق هذا الاسم على فتاة من قبيلة شيروكي تميّزت بجمالها وتعلّقها الغريب بالزهور والطيور في واديهم. وقد توفّيت في عامها الخامس عشر في ساعة الشفق ذات يوم صيفي. وفي المساء التالي لدفنها، ظهرت نجمة حديثة الولادة في السماء.
    كان أقاربها يصفونها بانها جميلة كالنجمة، وقد أصبحت الآن الأكثر إشراقا بين كلّ النجوم التي تطلّ على العالم، وهكذا أصبحت ذكراها خالدة مدى الدهر. وأُطلق اسمها "أي ناكوتشي"، على الوادي الذي عاشت فيه، وأصبحت بقعة الأرض التي يُقال إنها دُفنت فيها مغطّاة اليوم بالأزهار والنباتات من كل نوع.
  • نهر ناكوتشي عبارة عن مجرى مائيّ صافٍ وبارد وخلّاب. ومنذ اللحظة التي يتخلّى فيها عن كونه "جدولا" ويتحوّل الى "نهر"، يبدأ في الالتفاف عبر وادٍ يبلغ طوله حوالي 10 أميال ويفقد نفسه بين التلال غير المستكشفة.
    ولأن التلال المحيطة بالنهر ليست عالية، فإنه يتميّز بجماله أكثر من أيّ صفة أخرى. وهو مزروع على نطاق واسع، وتسعد العين أحيانا بمناظر الأكواخ هنا وهناك التي توحي بأفكار الرضا والسلام. ويوجد مرج واسع ترعى فيه الخيول والأبقار بهدوء. ومن التلال المجاورة يتناهى إلى أذني رنين الجرس المتكرّر ليخبرني أن الأغنام أو الماعز تعود من جولاتها الصباحية في الغابات الباردة.
  • قضيت الليل في مكان يسمّى "تيسانتي" في كوخ مزارع فقير استقبلني بحفاوة بالغة. كانت أسرته مكوّنة من تسعة أبناء وثلاث بنات، ولم يسبق لأيّ منهم أن خرج من منطقة البراري. ورغم أن الأب رجل ذكي للغاية، إلا أنه أخبرني أنه لم يتلقّ أيّ تعليم وأنه بالكاد يستطيع قراءة فصل واحد من الكتاب المقدّس.
    كما أبلغني أن أطفاله ليسوا بأكثر تعليما منه، وبدا أنه يأسف بشدّة لعدم قدرته على أن يوفّر لهم التعليم الذي يحتاجونه. وأضاف: لطالما رغبت في أن أعيش على طريق عام حتى تتمكّن بناتي من رؤية رجال من حين لآخر، لأن من المقدّر لهن ألا يلتقين برجال في مجتمعهنّ الصغير".
    شعرت بالأسف على الرجل الطيّب، وسعيت جاهدا إلى توجيه انتباهه بعيدا عن نفسه وظروفه الصعبة إلى الريف المحيط بهم. وقد أخبرني أن الجبال قابلة للزراعة حتى قممها وأن منتجات مزرعته هي الذرة والقمح والشعير. كما أخبرني أن البلاد مليئة بالحيوانات البرّية كالغزلان والديك الرومي والدببة، وأحيانا النمور.
    وقال إن بعض الجبال مغطّاة بشجر الجوز ونوع غريب من شجر البلّوط، وأن السناجب الرمادية وفيرة للغاية في تلك الجبال. كما أبلغني أن الجداول مليئة بالأسماك الصغيرة، وتأكّدت فيما بعد أنه كان يقصد سمك السلمون المرقّط.
    وأثناء حديثي مع صديقي هذا، وقبل غروب الشمس بساعة أو نحو ذلك، فوجئنا بنباح كلابه. وعندما نظرنا إلى الطريق الضيّق الذي يمرّ بجوار منزله، رأينا ظبية جميلة المظهر تهرب باتّجاهنا. وفي ذروة رعبها، استدارت المسكينة فجأة وتسلّقت سياج الحديقة، ولحقت بها الكلاب الى مكان قريب كانت زوجة مضيفنا تزرع فيه بذورا، فأمسكَت المرأة على الفور بعمود فاصوليا، وبضربة واحدة قتلت الظبية.
    وخلال لحظات كان زوجها يضع سكّينه على رقبة الحيوان، وعاد الاثنان إلى مسكنهما، وكأن شيئا لم يكن. وكان هذا أوّل غزال تقتله امرأة فيما أعلم. وعندما انتهزت الفرصة لأثني على كلاب صديقي، قال إن أحدها كان "عدّاءً قويا لأنه تتبّع غزالا لثلاثة أيّام وثلاث ليال".
    وبعد أن وضعت في اعتباري رحلاتي المستقبلية بين الجبال، سألت رفيقي عن الثعابين في تلك المنطقة بعد أن لاحظت كثرتها. فقال: من بين كلّ قصص الثعابين التي سمعتها، لا أعتقد أنك سمعت قطّ عن قتال ثعابين. لقد شهدت على بعد ميل من هنا معركة ضارية بين ثعبان أسود وثعبان جَرَسي. وقد أمسك أحدهما بالآخر من مؤخّرة رأسه ولفّ جسده حوله وكأنه ينوي خنقه حتى الموت. كان الشجار عنيفا وانتهى بمقتل الجرَسي".
    غادرت مسكن صديقي الجبلي بعد الإفطار مباشرة في صباح اليوم التالي، ولم أتجاوز تلك العتبة الشاحبة مرّة أخرى.

    ❉ ❉ ❉


  • ❉ ❉ ❉

  • في العصور القديمة كان يقيم في وادي ناكوتشي شخص يُدعى كوستوياك أو "الرامي الماهر"، وهو زعيم من قبيلة شيروكي كان مشهورا بشجاعته ومَكرِه. وكان من بين ألدّ أعدائه تشونيستا، أو"الكلب الأسود"، وهو زعيم من قبيلة تينيسي. في تلك الأيّام كان هناك فتاة من قبيلة أخرى تقيم في السهول. كان أبوها زعيم عشيرة، وكانت مشهورة بجمالها في جميع أنحاء البلاد.
    وكان من بين من تقدّموا لطلب يدها العديد من الخُطّاب منهم كوستوياك وأربعة محاربين آخرين. وكانت سعيدة بالابتسام لكلّ منهم بينما تخلّت عن الآخرين، ومن بينهم زعيم تينيسي تشونيستا. وعند عودته إلى بلده، هدّد الأخير كوستوياك بأنه إذا نجح في الحصول على يد الفتاة، فسوف تُباد قبيلة شيروكي عن بكرة أبيها.
    كانت مزايا الزعماء الأربعة المتنافسين متساوية، ولم يتمكّن والد الفتاة من تحديد من سيمنح ابنته. كان كوستوياك هو المفضّل عندها، ومن أجل تأمين الزواج منه، اقترحت الفتاة على والدها أن تقبل المحارب الذي يستطيع اكتشاف مكان مياه السافانا وتينيسي بين الجبال. وأعطى الأب موافقته، وبدأت عملية بحث كبرى.
    وفي نهاية اليوم الأوّل، كان كوستوياك قد عاد ومعه خبر اكتشافه لوادٍ ضيّق يُطلق عليه اليوم اسم "بلو ريدج"، حيث يتلاقى النهران العظيمان ويبدآن رحلتهما. وبمرور الوقت، اقتنع والد الفتاة بأن قصّة كوستوياك حقيقية، ولذلك زوّجه الفتاة التي كان يحبّها منذ وقت طويل.
    وقد غضب تشونيستا من هذا الخبر فجمع محاربيه وشنّ حربا على قبيلة شيروكي بأكملها. وكانت "الروح العظيمة" صديقة لكوستوياك فانتصر وقتل تشونيستا بيده ودمّر أشجع محاربيه وأصبح في النهاية مالكا لنصف وادي تينيسي.
    تزوّج كوستوياك من الفتاة وعاشا بسعادة معا. وبعد سنوات تعرّضت قبيلة الزوج الى غزو من قبيلة أخرى. وقُتل هو وزوجته في المعركة ودُفِنا بكلّ شرف في الوادي. ولتخليد فضائلهما العديدة، أقامت قبيلتاهما حول رفاتهما مجموعة من التلال التي تزيّن الآن جزءا من الوادي الذي عاشا فيه.
  • نهر توكواه هو مجرى مائي صغير للغاية، ولا يتميّز في معظمه بأيّ صفة أخرى غير تلك التي توصف بها آلاف الجداول الرقراقة الأخرى في هذه المنطقة. لكن في مساره نحو المحيط، يقوم بقفزة واحدة أعطته سمعته. وبسبب هذه القفزة، أطلق عليه السكّان الأصليون اسم توكواه أو الجميل.
    ولكي تتصوّر هذا الشلال، تخيّل جرفا شديد الانحدار من الصخور الرمادية والوعرة يبلغ ارتفاعه 187 قدما، مع بحيرة هادئة صغيرة محاطة بكتل منحدرة من الغرانيت والأشجار الطويلة الظليلة. ومن النتوءات البارزة لهذا الجرف في الأعلى، بين عينيك المقلوبتين والسماء، يأتي جدول متدفّق بهدوء.
    وبعد أن يثِب وثبةً مبهجة، يندفع الى الأسفل متحوّلا إلى وابل من الرذاذ الثقيل وتتناثر قطراته على نطاق أوسع وفي ضباب خفيف على الحجارة الناعمة المغطّاة بالطحالب التي تقع تحته مباشرة. وعلى طول جوانب هذه الهاوية، تلتصق خصلات صغيرة من الطحالب والنباتات الدقيقة والمتسلّقة، وتتباين بشكل جميل مع الغرانيت الصلب. وفي أيّام الصيف وبسبب المطر المتساقط، تأتي نسيمات باردة منعشة باستمرار من أسفل الهاوية.
  • ترتبط بشلال توكواه قصّة هندية مشهورة. فقبل وقت قصير من الثورة، خاض الشيروكيون حربا مريرة ضدّ قبيلة قويّة من الهنود الذين كانوا يقطنون منطقة بوتوماك. وخلال إحدى معاركهم الضارية، أسرَ الشيروكيون 12 من أعدائهم وأحضروهم إلى بلادهم مقيّدين.
    كانوا ينوون التضحية بالأسرى كما قيل. ولكن نظرا لأنهم أرادوا أن تكون المراسم مهيبة بسبب أهمية الأسرى، فقد تقرّر تأجيل التضحية بهم حتى القمر التالي. في تلك الأثناء، خرج الشجعان من قبيلة شيروكي للقتال مرّة أخرى، بينما تُرك الأسرى الذين أصبحوا الآن مقيّدين بشكل أكثر أمانا في كوخ كبير بالقرب من توكواه، تحت وصاية امرأة عجوز اشتهرت بوطنيّتها المتوحّشة.
    وبينما كان الأعداء التعساء يرقدون في كوخ العجوز، وَزّعت عليهم إمدادات ضئيلة من الطعام والماء. فتوسّلوا إليها أن تطلق سراحهم وعرضوا عليها رشاوي كبيرة، لكنها تمالكت نفسها وظلّت وفيّة لأمانتها. وذات صباح، صاح صبيّ هندي على باب كوخ العجوز وأخبرها أنه رأى مجموعة من أعدائهم في وادٍ مجاور، وأنه يعتقد أن من المحتمل أن يكونوا في طريقهم الى القرية.
    واستمعت المرأة الى هذه الأخبار في صمت، ثم عضّت شفتيها في حنق وتحدٍّ. وعند عودتها إلى حجرتها، وجّه السجناء لها نداءً آخر للحرّية، وسعدوا برؤية ابتسامة ارتسمت على وجهها أخيرا. وأخبرتهم أنها استجابت لطلبهم وستسمح لهم بالهروب من مصيرهم الموعود، ولكن يجب أن يكون ذلك بشروط معيّنة.
    كان أوّل تلك الشروط أن يسلّموها جميع متعلّقاتهم الشخصية التي ستدفنها تحت الحجرة. كما يجب أن يغادروا في منتصف الليل. ولم ترغب في أن يعرفوا طريق العودة إلى الحجرة، فطلبت أن تكون عيونهم معصوبة، وأن يوافقوا على أن تقودهم مسافة ميلين عبر غابة كثيفة، إلى أن يصلوا الى برّية مفتوحة حيث ستطلق سراحهم.
    وافق السجناء بسرور. وبينما كانوا يجرَّدون من أرديتهم وأسلحتهم، غطّت سحابة ثقيلة السماء فوقهم، منذرةَ بعاصفة. وفي منتصف الليل، انطلق هدير رعد عالٍ وأضاء السماءَ وميض برق خاطف. وفكّر الأسرى وفكّرت المرأة أيضا وقرّروا أن الليل والعمل المدروس مناسبان بشكل رائع. ووضعت العجوز أربطة جلدية حول عيون أسراها، وبعد أن قطعت الأربطة التي كانت تقيّد أقدامهم، أمرتهم باتباع المكان الذي ستقودهم إليه. وهكذا قادتهم المرأة إلى حرّيتهم الموعودة.
    كان الطريق وعرا ومتعرّجا، لكن لم ينطق أحد منهم بكلمة. وعندما وصل الموكب الغريب إلى بقعة مستوية من الأرض، خطى الرجال في طريقهم بثقة الى أن وصلوا إلى جُرف توكواه. وبينما المرأة تمشي نحو الحافّة، استدارت فجأة ودفعت بالأسرى المساكين واحداً تلو الآخر في الهاوية الى أسفل. وتردّد صدى صرخة النصر العالية عبر الهواء من شفتيها. ومع أنين المحتضرين في أذنيها وضوء البرق في طريقها، عادت أدراجها إلى نزلها لترتاح، ثم في الغد لتعلن عن فعلتها القاسية.
    في قاع بركة توكواه، تتجمّع اليوم شظايا صغيرة من مادّة بيضاء تشبه حجر الصابون، يزعم الكثيرون أنها بقايا الأسرى الهنود الذين لقوا حتفهم في تلك الليلة عند سفح الهاوية.
  • كان هناك من الهنود من رفضوا بإصرار كلّ دعوة من الحكومة الامريكية لهم بالهجرة من مناطقهم. ومن بين هؤلاء هنديّ عجوز كانت لديه عائلة كبيرة وكان متديّنا. وعندما اتصلوا به لأخذه، قال إنه يريد فقط أن يطلب معروفا واحدا، وهو أن يُسمح له بإقامة صلاة أخيرة مع زوجته وأطفاله في كوخه القديم. وعندما انتهى من صلاته، جاء العجوز وقال إنه مستعدّ للرحيل.
    ولكن قبل أن يغادر دعا زوجته وأطفاله إلى جانبه، وتحدّث إليهم بأسلوب شعري ومؤثّر للغاية عن ممتلكاتهم الهزيلة ولكن المحبوبة للغاية، والتي كانوا على وشك تركها إلى الأبد. ثم تولّى قيادة موكب الجند. ودون أن ينطق بكلمة، سار إلى الأمام بخطوات ثابتة. ولم يُسمع صوت هذا الرجل مرّة أخرى حتى عبرت القافلة المسيسيبي.