:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الخميس، أغسطس 22، 2024

جيلو عن بيكاسو وماتيس


على مدى عقود، ربطت هنري ماتيس وبابلو بيكاسو علاقة صداقة مميّزة بدت في بعض الأحيان وكأنها محكومة بالغِيرة المتبادلة. كانا على طرفي نقيض في كلّ شيء، من الأساليب الفنّية إلى الطبائع والتفضيلات الشخصية وخلافها، لكنهما كانا يقدّران عالياً إبداع كلّ منهما. وذات مرّة شبّه ماتيس علاقتهما بمباراة في الملاكمة، بينما اعترف بيكاسو بأنه لو لم يكن بيكاسو، لتمنّى أن يرسم مثل ماتيس.
في سنواته الأخيرة، كان ماتيس طريح الفراش. وقد شكا غير مرّة أن بيكاسو لم يكن يزوره كثيرا. وعندما توفّي في نوفمبر 1954، اتصلت ابنته ببيكاسو على الفور، لكنه لم يردّ على المكالمة أو يعيد الاتصال، بل ولم يحضر الجنازة أبدا. وقد رأى كثيرون في تصرّف بيكاسو قلّة ذوق منه وعدم احترام. وبالنسبة للبعض، بدا الأمر وكأن بيكاسو لم يستطع قبول حقيقة وفاة صديقه ومنافسه القديم.
الرسّامة الفرنسية فرانسواز جيلو كانت إحدى زوجات بيكاسو. وقد عاشا معا سبع سنوات بدءا من عام 1946. وكان صديقهما المشترك هنري ماتيس الذي كان يعيش قريبا منهما وكانا يزورانه بانتظام. في كتابها بعنوان "ماتيس وبيكاسو: صداقة في الفن"، تتحدّث جيلو عن بعض جوانب تلك العلاقة.
هنا بضع فقرات مترجمة من الكتاب..

❉ ❉ ❉

كان هنري ماتيس ملك الألوان. وكان لقائي الأوّل به في فبراير 1946 بصحبة بيكاسو، عندما كان يعيش في منزله في فونس بفرنسا. توقّعت أن يكون منزله مشرقا، ولكن تمّ إغلاق المصاريع حتى تسمح بدخول أقلّ كميّة من الضوء. وكانت تلك مفاجأة كاملة لي. في الغرفة الأولى عندما دخلنا، كان هناك قفص كبير للطيور. قلت في نفسي: الطيور الصغيرة المسكينة لا يُسمح لها برؤية الشمس!".
دائما ما يكون عكس ما نتوقّعه مثيرا للاهتمام.
لكنّي بدأت أفهم، فقد كان ماتيس خائفا في وقت ما من أن يصبح أعمى. ولذلك كان يحمي بصره بالظلام. ومن الغريب أنك ترى الأشياء بشكل أفضل في الظلام الدامس لأنك تراها واحدا تلو الآخر عند ظهورها.
قادتنا سكرتيرة ماتيس وعارضة الأزياء ليديا إلى غرفته. كان جالسا في سريره مرتدياً سترة خضراء. وكانت السترة متطابقة مع أشياء معيّنة على الحائط خلفه، مثل قطعة خشب صينية أرجوانية اللون. وأحد الأشياء الخاصّة بماتيس هو أنه عندما يكون هناك لون أخضر فإن اللون الأرجواني يرافقه دائما. كان من اللافت أن نرى أنه يعيش بالطريقة التي يرسم بها، فعندما تدخل بيته تصبح في قلب عالمه.
قدّمني بيكاسو اليه كرسّامة شابّة. لكنه أخفى عنه حقيقة ارتباطي به. قال لي ماتيس الذي لم يكن غبيّا على الإطلاق: أستطيع أن أرسم لك صورة. ستكون بشرتك زرقاء شاحبة وشعرك أخضر داكن". وعندما غادرنا قال بيكاسو: ما هذه الجرأة التي عنده كي يعرض عليك أن يرسمك؟ وماذا عنّي؟" في ذلك الوقت، لم يكن بابلو قد رسم لي أيّ لوحة بعد. قلت: كيف تعتقد أن ماتيس يمكن أن يعرف أنك مهتم بي، بما أنك لم ترسم لي صورة من قبل؟".
في وقت لاحق من ذلك العام، رسم ماتيس صورة لي. أخذ قطعة صغيرة من الورق الأخضر، ثم قطعة أرجوانية مائلة للحمرة، وقطعة أرابيسك كبيرة ووضعها في المنتصف. ثم أخذ بعض الورق الأسود وصنع أرابيسك آخر. ثم صنع واحدا أصغر. وقال: وهذه فرانسواز، وهي على ركبتيها تصلّي".
تساءل بابلو: الصلاة من أجل ماذا؟" كان ينفر من الدين لأنه كان ملحداً ومؤيّداً صريحاً للحزب الشيوعي. وبابتسامته الساحرة، عرف ماتيس بالضبط كيف يستفزّ بيكاسو. لقد كان مثل مصارع الثيران الذي يستفزّ ثوراً! عرف ماتيس أن بيكاسو قال من وراء ظهره بعض الأشياء ضدّه. كانت هناك صداقة بينهما، لكن كانت هناك أيضا مناوشات صغيرة. وبدا وكأنهما في كثير من الأحيان يختبران صبر كلّ منهما على الآخر.

❉ ❉ ❉

❉ ❉ ❉

ذات مرّة قال ماتيس إنه سعى إلى خلق فنّ مريح مثل الكرسي المريح. وبسبب هذه المقولة سخر منه بيكاسو لسنوات. وكان ماتيس يستسلم، مثل كثيرين غيره، لتعليقات بيكاسو الساخرة وحافظ دوماً على موقف أبويّ تجاه الفنّان الأصغر منه سنّاً. وفي لقاءاتهما، كان الطرف النشط هو بابلو والطرف السلبي هو ماتيس. وكان بابلو يسعى دائماً إلى استفزاز ماتيس، ولكن في النهاية كان ماتيس هو الذي ينتصر.
لم يكن التنافس بينهما في الرسم، ولكن من الناحية الإنسانية. كان تنافسا بين الشمال والجنوب. كان بيكاسو من الأندلس، وماتيس من أقصى شمال فرنسا. ذات يوم قال ماتيس تعليقا مضحكا: نحن مثل القطبين الشمالي والجنوبي". أجاب بيكاسو: نعم أنت على حق، لأن القطب الجنوبي أكثر برودة". وبالرغم من أن القطب الشمالي والقطب الجنوبي متضادّان، فإن المناظر الجليدية المحيطة بهما لا يمكن التمييز بينها.
كان أوّل لقاء للإثنين، بيكاسو وماتيس، عام 1906 في منزل غيرترود وليو ستين المفتوح أيّام السبت في باريس. في ذلك الوقت، لم يكن بيكاسو يتحدّث الفرنسية جيّدا. ولم يكن باستطاعته شرح لوحاته. وفي نفس الوقت، كان ماتيس في ذروة قوّته. وقد أخبرني بيكاسو أنه شعر بالإرهاق قليلاً من السهولة التي شرح بها ماتيس خياراته الفنيّة.
وفيما بعد قال بيكاسو لكاتب سيرته الذاتية: يتعيّن عليك أن تكون قادراً على تصوّر كلّ ما كنت أفعله أنا وماتيس في ذلك الوقت جنباً إلى جنب. لم يسبق لأحد أن نظر إلى لوحة ماتيس بعناية أكثر منّي، ولم يسبق لأحد أن نظر إلى لوحاتي بعناية أكثر منه".
كان الاثنان مثل جبلين متقابلين. وكان كلّ منهما يعلم أن الآخر يفعل الشيء الوحيد الذي لا يستطيع فعله بنفسه.
بالنسبة لماتيس، كان اللون أساسيّا، فقد استخدمه لبناء الفراغ نفسه. أما بالنسبة لبيكاسو، فكان اللون مجرّد زخرفة، والشكل يأتي أوّلاً. لوحاته هي في الأساس أسود ورمادي وأبيض. لكن بالنسبة لماتيس، اللون هو الذي يخلق المساحة. وكلا النهجين جيّدان، لكنهما ليسا نفس الشيء. ومن خلال المبالغة في الأشكال، يخلق بيكاسو منظورا، بينما كان لمنهج ماتيس علاقة أكبر بالفيزياء ومبدأ المنشور (prism).
عندما عرفت ماتيس، كان يعمل على القصاصات (cutouts). وبعد أن أجرى عملية جراحية لسرطان الأمعاء في عام 1941، أصبح مريضا جدّا وكان من المتوقّع أن يموت. لكنه عاش 13 سنة أخرى. وقد أطلق على تلك الفترة اسم فترة السماح.
ووصف عمله على القصاصات، بأنه نحت بالألوان. كانت الأشكال حادّة إلى حدّ ما، ما جعل الألوان أقوى. وكان يعمل في السرير بمقصّ كبير. كانت ليديا وفتيات صغيرات أخريات يأخذن القطع التي يقطعها. وكان يشير بعصا الخيزران ويوجّههن إلى مكان وضعها الذي كان يتغيّر عدّة مرّات أحيانا.
إن الناس كثيرا ما يعتقدون أن مقابلة فنّان ستغيّر كلّ شيء. والحقيقة أن ما يهم حقّا هو الحوار الذي تقيمه مع عمله. وقد ظلّت علاقتي بلوحات ماتيس على حالها، بل أصبحت في الحقيقة أكثر قوّة.
وما جذبني إليه في الأساس هو رغبته في إيجاد أقوى وأبسط طريقة للتعبير من خلال زيادة اللون إلى أقصى حد. كان بيكاسو لا ينظر إلى شيء عندما كان يرسم، في حين كان ماتيس يحبّ دائما أن يكون هناك نموذج بالقرب منه وأن يلمسه بيده.
وأتذكّر أن ماتيس قال لي عن بيكاسو: يتعيّن علينا أن نتحدّث إلى بعضنا البعض بقدر ما نستطيع. فعندما يموت أحدنا، ستكون هناك بعض الأمور التي لن يتمكّن الآخر من التحدّث عنها مع أيّ شخص آخر".
وبعد أن تركت بابلو عام 1953، لم أرغب في رؤية ماتيس مرّة أخرى. كنت أعرف ما سيقوله لي. كان سيقول: حتى لو كان بيكاسو شخصا صعبا أو يستحيل العيش معه، يجب عليك أن تتحمّليه وتبقَي معه لأن تأثيرك عليه كبير". لكن التأثير ليس القوّة، بل ما يقف وراءها.

Credits
francoisegilot.com