:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الثلاثاء، أغسطس 20، 2024

رسائل من الجبال/2


في هذا الجزء، يواصل تشارلز لانمان سرد المزيد من القصص عن مغامراته واكتشافاته ولقاءاته الكثيرة مع السكّان الأصليين وانطباعاته عن بعض المعالم الجغرافية والأشخاص الذين رآهم أثناء رحلاته في مناطق جبال ألليغيني.

❉ ❉ ❉

  • إحدى الشخصيات الأخرى المثيرة للاهتمام في مناطق الجبال كان عجوزا هنديّا من الشيروكي إسمه ساتاواها، أو عضّة الخنزير. وهو رجل يزيد عمره عن المائة عام ويعيش في كوخ خشبي صغير، بابه منخفض جدّا لدرجة أنه يتعيّن عليك أن تزحف إليه زحفا على يديك وركبتيك.
    وفي الوقت الذي اكتمل فيه نقل الجزء الأكبر من شعب الرجل إلى أقصى الغرب، استُدعي مجموعة من الضبّاط لاصطحاب رفاقه. وعندما رأى العجوز الجنود وهم يقتربون، تناول بندقيّته المحشوّة وحذّرهم من محاولة وضع أيديهم عليه، لأنه سيقتلهم بالتأكيد. كان حازما وكبير السنّ للغاية، حتى أن رئيس الجند قرّر أخيرا تركه وشأنه.
    كان العجوز يعيش حياة ناسك ويعتمد بشكل أساسي على صدقة شخص أو اثنين من جيرانه الهنود، رغم أنه يقال إنه حتى الآن يستطيع قتل غزال أو ديك رومي. ويقول إنه يستطيع أن يتذكّر الوقت الذي عاشت فيه أمّة الشيروكي على شواطئ المحيط العظيم، أي الأطلسي، ولم يكن بعد قد رأى وجه رجل أبيض واحد قط.
  • كنت في زاوية أمامية من الشرفة، وأغلقت الكتاب عندما كانت الشمس تغرب خلف الجبل. كانت السماء مكتسية بلون فضّي ناعم وخالية من السحب، وكان المشهد بأكمله يغمره جوّ ساحر. ولم يكن هناك نسيم يتحرّك في الوادي، وكانت ظلال الأشجار الباردة ضعف طول الأشجار نفسها. وكان أوّل ضجيج كسَر صمت المشهد صوت بطيء وطقطقة بعيدة على طول الطريق. وعندما نظرت في ذلك الاتجاه اكتشفت عربة كبيرة مغطّاة تجرّها سبعة خيول ويقودها رجل. لا أعرف من أين جاء أو إلى أين كان ذاهبا، لكن مرّت عشرون دقيقة قبل أن يختفي عن ناظري.
    وفي إحدى المرّات، سمعت خشخشة قويّة من إحدى أشجار الحُور الضخمة، ورأيت نزاعا رهيبا بين عدد كبير من طيور الزرزور المقيمة والغريبة. وبعد أن توقّفت عن الضجيج، سمعت زقزقة طيور السنونو وهي تنقضّ على الحشرات التي تطفو في أشعّة الشمس بعيدا فوق الوادي الأخضر. ثم سمعت ضحكات وأصواتا متداخلة، وإذ بمجموعة من عشرة زنوج عائدين من الحقول، حيث كانوا يحصدون التبن أو يزرعون الذرة.
    ثم لفت انتباهي صهيل وضربات خيل، ورأيت جوادا رائعا يحاول الابتعاد عن سائس زنجي كان يقوده على طول الطريق. ثم جاء رنين الجرس الناعم وخوار الماشية مرتجفا في الهواء. وسرعان ما ظهر قطيع من الأبقار عبر التلال البعيدة. ثم غابت الشمس خلف التلال وطار صقر ليليّ وحيد عالياً في الهواء وكأنه ذاهب للترحيب بنجمة المساء التي ظهرت خلف برج المراقبة الأزرق. وأخيراً، جاءت عشرات النساء من حظيرة الأبقار وهنّ يحملن دلاء حليب ممتلئة فوق رؤوسهن. وبعد ذلك، ولساعة طويلة، سيطرت أرواح الهدوء والشفق على الوادي بالكامل، ولم يطرق أذنيّ أيُّ صوت عدا همهمات أجنحة الحشرات.
  • في المنطقة المجاورة مباشرة لهذا المكان، يمكن رؤية تلال هندية غامضة تزيّن كلّ وديان هذه الأرض تقريبا. وبحسب بعض القبائل في الجنوب، فقد صنع هذه التلال عِرق منقرض من البشر، وكان يستخدمها الشيروكيون سابقا كمكان مناسب فحسب.
    كما ساد اعتقاد بأن كلّ هندي في العصور القديمة كان يُحضِر إلى مكان معيّن لحاء شجر صغير ممتلئ بالتربة التي يزرعها كتقدير للروح العظيمة التي أرسلت لهم في المقابل حصادا وفيرا. ويزعم البعض أن هذه التلال كانت مدافن للمحاربين والصيّادين العظماء. ويزعم آخرون أنها كانت تُبنى كغنائم أو حصون، أو كأماكن تُقام عليها الطقوس الدينية الأكثر قداسة.
    ويشيع اعتقاد بين قبيلة شيروكي أن هذه التلال كانت تحتوي في الماضي على نوع من النار المقدّسة. ولم يُعرف من قبل أن هنديّا شوّه أحد هذه التلال، كما أن رؤية رجل أبيض وهو يشوّهها أمر يجعلهم غير سعداء. الشيء الوحيد الذي يمكن تأكيده هو أن بناة هذه التلال غير معروفين، وكلّ ما يستطيع حتى الحكماء من الجيل الحالي فعله هو النظر إليها في صمت ورهبة.
  • أكتب الآن من كوخ خشبي يقع على نهر كاتاووبا وفي أحد أجمل الوديان. لم أتعرّض لحادثة واحدة مثيرة للاهتمام أثناء رحلتي من آشفيل إلى بيرنزفيل، وهي مسافة تزيد عن 40 ميلاً، ولم أحظَ إلا بمنظر جبليّ واحد جعلني أستمهل حصاني.
    لكن المنظر الذي أشرت إليه كان يشمل كامل محيط الجبل الأجرد؛ أحد أعلى الجبال في هذا الجزء من البلاد. يوجد على القمّة البعيدة لهذا الجبل نبع ماء كبير جدّا وبارد كثيرا. وفي جواره مباشرةً كهف صغير وأطلال كوخ خشبيّ ارتبط بإنسان فريد يُدعى ديفيد، كان قد اتخذ من هذا العالم العلوي موطنا له ذات يوم.
    ظهر هذا الرجل لأوّل مرّة في هذه المقاطعة منذ حوالي 50 عاما. ولا يُعرف موطنه الأصلي ولا شيء عن حياته المبكّرة. وبعد فترة وجيزة من وصوله الى الجبال، وقع في حبّ ابنة أحد المزارعين، لكن الفتاة رفضت الاقتران به.
    وقد شعر بخيبة أمل جرّاء رفض الفتاة له ثم اختفى فجأة. وبعد فترة عُثر عليه يقيم في الجبل الأجرد في الكهف المذكور آنفا. هنا عاش حياة عزلة، ويقال إنه ألّف كتابا عن الحب. كان ديفيد قد ألّف كتاباً فريداً عن الدِين، وآخر ادّعى أنه أطروحة عن الحكم البشري. وفي العمل الأخير نصّب نفسه مالكا أوحد للجبل، وأعلن للعالم أن كلّ من سيصبح جاراً له لا بدّ أن يخضع للقوانين التي سنّها بنفسه.
    كانت أفعال ديفيد البارزة في حياته قليلة ومتباعدة، ولكنها سيّئة السمعة عموما. فبعد بضع سنوات من إعلانه استيلاءه على الجبل، بعثت إليه سلطات المقاطعة رسولاً وطالبته بضريبة رأس مال قدرها 75 سنتا. فردّ بأنه سيهتمّ بالأمر في يوم المحكمة التالي، وقبلوا كلمته. وفي اليوم المذكور حضر الرجل في الموعد المحدّد، ولكن بدلاً من دفع المال، رشق نوافذ المحكمة بالحجارة وطرد القضاة والمحامين والعملاء جميعا من القرية، ثم عاد إلى مسكنه الجبلي حاملاً بندقيته.

    ❉ ❉ ❉


  • ❉ ❉ ❉

    وبعد عدّة أشهر من هذا الحادث، كان يستمتع بتشويه الماشية التي كان يصادفها فيما أسماه "مزرعته"، ويقال إنه كان معتادا على اختبار قوّة بندقيته بإطلاق النار على مَزارع جيرانه. ومع ذلك، كان الحدث الأبرز في حياة ديفيد هو إطلاقه النار على رجل يُدعى هيغينز وقتله بدم بارد في وضح النهار. وكان العذر الوحيد الذي قدّمه لارتكاب هذه الجريمة هو أنه عثر على المغدور يصطاد الغزلان في قطعة الأرض التي كان يدّعي أنها ملكه.
    وقد قُدِّم ديفيد للمحاكمة وبُرّئ على أساس أنه مجنون. وعندما تُلي قرار براءته، غضب بشدّة. ولما أُطلق سراحه انطلق إلى كوخه وهو يتمتم باللعنات. كان ذلك الرجل من أشدّ الناس تمرّدا على القانون. ومع مرور الوقت، جرت عدّة محاولات لقتله.
    وبعد أن عاش في الجبل 20 عاما، قرّر أخيرا التخلّي عن حياته المنعزلة، واستقرّ في إحدى المستوطنات على الجانب الذي يقع على الطرف الآخر من الجبل الأجرد بولاية تينيسي. هناك، ولمدّة عامين تقريبا، عمل بانتظام في ورشة حدادة. ولكن بعد أن نشب خلاف بينه وبين أحد زملائه في العمل، أقسم أنه سيطلق عليه النار في غضون خمس ساعات، وبدأ في البحث عن بندقيته.
    وكان الشخص المختلف معه يُدعى تومبكينز، وبعد أن تشاور الأخير مع أصدقائه حول المسار الذي ينبغي له أن يسلكه نظرا للتهديد الذي وجّهه إليه خصمه، نُصح بأن يأخذ القانون بيديه. فنفّذ هذه النصيحة، وعندما رأى ديفيد وهو يسير على طول الطريق وبندقيته في يده، أطلق تومبكينز النار على قلبه فقتله. ولم يُعرف مكان دفنه أبدا. وكان الرأي العام يقف إلى جانب قاتله الذي لم يُستدعَ قطَ للمحاسبة عن جريمة القتل "الدفاعية" التي ارتكبها.
  • أود أن أتحدّث الآن عن زعيم هنديّ مشهور ويستحقّ أن نعتبره من بين النجوم اللامعة في أمّة الشيروكي. هذا الزعيم هو يونا غوسكا، أو الدبّ الغارق، المتوفّي عام 1838 عن 75 عاما. عندما طُلب من قبيلة شيروكي الانتقال إلى غرب المسيسيبي عام 1809، التمس الزعيم من الرئيس جيفرسون السماح له بالبقاء مع أتباعه بين جبال موطنهم الأصلي. واستجاب الرئيس لطلبه.
    لكنه قبل ذلك كان يرفض بإصرار كلّ دعوة من الحكومة للهجرة. وكان مستعدّا لبذل دمه ودماء جميع محاربيه في الدفاع عن حقوقهم. وعندما بلغ من العمر حوالي 60 عاما، أصيب بمرض حادّ انتهى بغيبوبة. لكنه تعافى وعندما استعاد وعيه، أخبر مرافقيه أنه ذهب إلى أرض الأرواح، وتواصل مع أصدقائه الذين ماتوا منذ زمن طويل وأنهم جميعا كانوا بأسعد حال. كما ذكر أن الروح العظيمة تحدّث معه وأخبره أن وقته لم يحن بعد لمغادرة هذا العالم وأنه يجب أن يعود إلى شعبه.
    كانت شهرة يونا غوسكا كخطيب مفوّه واسعة النطاق مثل شهرة أمّته بأكملها. وعندما دعاه جنود الحكومة ذات مرّة للانتقال غربا، حتى بعد أن أصبح هو وشعبه مواطنين، كتب رسالة الى كبير موظفي الحكومة يقول فيها: ما يزال الرجل الأبيض يسير نحو غروب الشمس، وأنا أعلم أنه لن يرضى أبداً حتى يصل إلى شاطئ المياه العظيمة.
    وأضاف: إن من الحماقة أن تخبرني أن البيض لن يزعجوا الشيروكي الفقراء في الأرض الغربية. إن طبيعة الرجل الأبيض ومصير الهنود تحكي قصّة مختلفة. وإن عاجلاً أو آجلاً، لا بدّ أن تحكم حكومة واحدة هذه القارّة بأكملها، وسوف يصبح الشعب الأحمر، إن لم يتناثر كأوراق الخريف، جزءاً من الأمّة الأميركية. أما عن وعود الرجل الأبيض بالحماية، فقد أخلفها في كثير من الأحيان، وهي أشبه بالقصب في ذلك النهر.. كلّها أكاذيب.
    وأردف قائلا: لقد اعترفت ولاية كارولينا الشمالية بحقّنا في هذه الأراضي، وضمنت الولايات المتحدة هذا الحق. ولكن كلّ هذا لم يمنع الحكومة من الاستيلاء على أراضينا بالقوّة. ولم يكتفوا بذلك، بل باعوا بقرة الهندي الفقير وبندقيته لإجباره على مغادرة بلاده. فهل هذا ما يسمّيه الرجل الأبيض العدالة والحماية؟ كلا، لن نذهب إلى الغرب. لقد أردنا أن نصبح من أبناء كارولينا الشمالية، وقد قبلتنا الولاية على هذا الأساس، وأصدرت قانوناً لحمايتنا، وسنستمرّ في زراعة الذرة في هذه الأرض بالذات.
    وأضاف: لقد كان شعب كارولينا دائما لطيفا جدّا معنا، ونحن نعلم أنهم لن يضطهدونا أبدا. تقولون إن الأرض في الغرب أفضل بكثير مما هي عليه هنا. هذه الحقيقة ذاتها هي حجّة لصالحنا. يجب أن يكون لدى الرجل الأبيض أرض غنيّة للقيام بأعماله، لكن يمكن للهنود أن يكونوا سعداء بأرض أفقر.
    وأضاف: يجب أن يكون لدى الرجل الأبيض أرض مسطّحة حتى يعمل محراثه بسهولة، لكننا نستطيع أن نتدبّر أمورنا حتى بين الصخور. لن نفعل أبدا ما تريدون منّا فعله. أنا لا أحبّكم بسبب طيبتكم المزعومة. وأنصح شعبي دائما بإبقاء ظهورهم إلى الأبد باتجاه غروب الشمس، وألا يغادروا أرض آبائهم مطلقا. وأقول لهم أنه يجب عليهم أن يعيشوا كمواطنين صالحين؛ وألا ينسوا أبدا لطف كارولينا الشمالية، وأن يكونوا دائما على استعداد لمساعدتها في وقت الحرب. "
    عندما كان يونا غوسكا على فراش الموت، استدعى رؤساءه ومحاربيه إلى جانب سريره، وتحدّث إليهم مطوّلاً عن أهمية الاعتراض على فكرة هجرتهم إلى الغرب، وطلب منهم أن يُقسموا له بأنهم لن يتخلّوا أبدا عن قبور آبائهم، أو قبره الذي تحيط به اليوم كومة من الحجارة كعلامة تُميّزه.

  • Credits
    gutenberg.org