وفي مسجد "ريجنت بارك" ما أكاد أتعرّف على أحد من إخوتي المسلمين هناك حتى يسألني إن كنت سنّيا أو شيعيا، وهو يتّخذ موقفه منّي بحسب إجابتي عن سؤاله!
وأضاف: ابني الذي يدرس في المدرسة الإنجليزية وعمره سبع سنوات تصادف أن قدّموا له مع زملائه طعاما يحتوي على لحم الخنزير لكنه رفض أن يأكل. فبادرت المعلّمة إلى الإلحاح عليه أن يتناول طعامه كبقيّة زملائه دون أن تعرف دينه، لكنه رفض وبكى!
وفي اليوم التالي وبعد أن تبيّن للمدرّسة خطؤها أرسلوا اليّ في البيت خطابا من إدارة المدرسة يعتذرون فيها عن سوء الفهم الذي حدث ويؤكّدون على احترامهم للقوانين الإسلامية ويتعهّدون بعدم حدوث ذلك مرّة أخرى.
انتهى كلام المواطن المسلم الذي يعيش في "بلاد الكفر".
والسؤال: ترى كم يلزمنا من السنوات كي تصل مجتمعاتنا إلى بعض ما وصلت إليه مجتمعات الآخرين من تحضّر وتسامح وانفتاح وإنسانية؟!
❉ ❉ ❉
كثيرا ما نسمع بعض النقّاد وهم يقولون في معرض نقدهم للوحة ما أن اللوحة تتضمّن جزءا غامضا أو غير مفهوم. وهم عادة ما يقصدون أن الرسّام ربّما احتاج إلى أن يفعل المزيد كي يوضّح نواياه الفنّية بطريقة أكثر جلاءً.
وبالتأكيد هناك لوحات كثيرة تتضمّن عنصرا غامضا من هذا القبيل. لكن ماذا تقول في لوحة تنطق كل تفاصيلها بالغموض؟! هذا التوصيف ينطبق على لوحة الرسّام جيرارد تيربورش بعنوان موعظة أبوية. لقد رسم هذا الفنّان الهولندي لوحة هي بأكملها غامضة، ربّما بشكل متعمّد.
ولد تيربورش عام 1617 وكان أشبه ما يكون بالطفل المعجزة. فقد مارس الرسم منذ كان عمرة ثمانية أعوام. وعندما بلغ الثامنة عشرة انتظم في كلّية هارلم للفنّ ليدرس الرسم. وقد سافر كثيرا وكان يحظى بشعبية واسعة في أوساط الطبقة الهولندية الوسطى.
لوحته موعظة أبوية لا تشبه أيّا من لوحاته الأخرى التي رسم فيها أشياء من الحياة اليومية. هذه اللوحة مثيرة للاهتمام جدّا. وقد رسم فيها ظهر امرأة شابّة ترتدي ملابس نفيسة وتقف بمواجهة امرأة وقور وجنديّ شابّ.
المكان عبارة عن غرفة نوم. وفي الغرفة يكمن الغموض. ترى، هل تكون المرأة العجوز والدتها أم أنها تقوم هنا بدور السمسار؟ هل ما يمسك به الجنديّ بين أصابعه خاتما أم قطعة نقود معدنية؟ هل نحن إزاء عرض للزواج أم صفقة دعارة؟
وإذا كان هذا زواجا، فلماذا صُوّر المشهد في غرفة النوم؟ وإذا كان الجنديّ على وشك شراء خدمة جنسية، فلماذا تبدو المرأة العجوز على قدر من الرزانة والوقار؟
هولنديّو القرن السابع عشر كانوا متمسّكين بصرامة بالقيم العائلية. لكنهم أيضا كانوا واقعيين بما فيه الكفاية لأن يقبلوا الحاجة إلى بيوت الهوى أيضا. الغموض يكمن في حقيقة انه في اللوحة الأصلية المرسومة عام 1655، يظهر الرجل ممسكا فعلا بقطعة نقود معدنية. لكن اللوحة خضعت للتعديل بشكل بارع بعد ذلك بمائة عام لتبدو القطعة المعدنية وكأنها خاتم. ثم بيعت في المزاد لرجل كان يؤمن على ما يبدو بالرسالة الايجابية والأخلاقية للتوجيه الأبويّ.
قطعة العملة، أو الخاتم، يحتلّ ما لا يزيد عن سنتيمتر مربّع واحد من أكثر من أربعة آلاف سنتيمتر مربّع هي مساحة اللوحة كاملة.
ومع ذلك فالتعديل الصغير الذي لم يتطلّب سوى عدد قليل من ضربات الفرشاة يغيّر معنى اللوحة بشكل جذريّ. وحتى اليوم فإن المرء يتعيّن عليه أن يجهد نفسه ليرى بالضبط ما الذي يمسك به الجنديّ بين إصبعي يده الإبهام والسبّابة.
عندما نقول إن هناك ثمّة جزءا غامضا في اللوحة، فهذا اقلّ ما يمكن أن يقال. لكن هذا المأزق المثير والصغير يظلّ هو العنصر الأكثر لذّة وإمتاعا في اللوحة.
وهو يؤكّد غموض مسألة الأخلاقيات المتغيّرة لمجتمع الطبقة الوسطى الهولندية خلال القرون الأربعة الماضية.