:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الثلاثاء، مارس 17، 2009

عولمة من زمن آخر

Fascination for the East

اللوحة، فوق، لا ُيعرف تاريخها ولا من رَسَمَها على وجه التحديد. غير أنها ُرسمَت في أوربّا، وعلى الأرجح في أوائل القرن الثامن عشر أو ما قبله بقليل.
والتفاصيل فيها بسيطة بل وعادية، إذ تصوّر مظهرا من مظاهر الحياة اليومية في أوربا في ذلك الحين. وفيها نرى امرأة شابّة تجلس على كرسي وتنظر إلى وجهها في المرآة. ومن خلال ما تقوله المرآة، نفهم أن المرأة معجبة بهيئتها وجمالها بدليل علامات الرضا والسرور البادية على محيّاها.
لكن لو تمعّنا في الصورة بشيء من التركيز فسنلاحظ فيها بعض التفاصيل اللافتة. فشعر المرأة وقدماها وأناملها مخضّبة بالحنّاء الذي كان يستورد من تركيا. وأرضّية الغرفة مغطاة بقطعة من السجّاد الفارسي. والكرسي الذي تستند عليه المرأة يدلّ طرازه وتصميمه على انه من صنع شرقي.
في ذلك الوقت كان الأوربّيون مفتونين بسحر الشرق وغموضه. وكانت النساء الأوربيات والأمريكيات يتهافتن على اقتناء السلع والأدوات الشرقية ويقرأن الروايات والكتب التي تتحدّث عن الشرق ونسائه الجميلات الغامضات. وكان يساورهن توق لأن يعشن حياة نساء الشرق المليئة بالسحر والترف والعاطفة، أي كلّ ما كنّ يعتبرنه ناقصا أو مفقودا من حياتهن.
وقد جرت العادة أن يحرص كلّ مسئول أو دبلوماسي غربي يزور الشرق على أن يأخذ معه رسّاما أو أكثر من اجل تسجيل مظاهر الحياة هناك. وكان الرسم آنذاك يقوم بوظيفة التلفزيون هذه الأيام.
وكانت اللغة العربية لغة الصالونات والنخب الاجتماعية الارستقراطية والراقية. وكان رجال ونساء الطبقات المخملية يزيّنون أحاديثهم بكلمات ومصطلحات عربية من باب إثبات الوجاهة وادّعاء الثقافة. تماما كما نستخدم نحن هذه الأيام في أحاديثنا وحواراتنا كلمات ومفردات انجليزية أو فرنسية لنثبت كم أننا مثقفون ومنفتحون على العالم.
وحسب ما يذكره بعض المؤرّخين الغربيين، كان يندر أن تدخل بيتا في أوربا دون أن تجد فيه عنصرا يذكّرك بثقافة العرب والمسلمين، من الأثاث إلى الأطعمة والأدوية والمعمار والديكور والموسيقى والفنون .. إلى آخره.
وباختصار، كان الغرب "يذوب" في الشرق. وكان ذلك نوعا من العولمة حتى قبل أن تظهر الانترنت ومنظمة التجارة العالمية، بل وقبل أن تخترع السيّارة أو الطائرة.
إن العولمة ليست مفهوما طارئا أو مبتكرا. كانت هناك دائما عولمة من نوع ما، تتسيّد فيها الحضارات الأقوى وتفرض نماذجها الثقافية على الحضارات الأقلّ شأنا.
وما أشبه الليلة بالبارحة. باستثناء أن الآية انقلبت والدورة الحضارية اكتملت وأخذت مداها. فأصبح الغرب هو الذي يفرض ثقافته علينا من خلال هذه الشبكة الهائلة من القوانين والنظم التي صمّمها لحماية مصالحه. وأصبحنا نحن، كما كان الأوربيون منذ ثلاثة قرون، نتمثل ثقافتهم ونمعن في تقليدها بل والتماهي معها إلى الحدّ الذي كدنا معه نفقد محدّدات هويّتنا الخاصة التي تميّزنا عن الآخرين..