كل من يقرأ سيرة حياة الفنان الاسباني فرانشيسكو دي غويا أو يتأمّل مضامين وأفكار لوحاته، لا بدّ وأن يتصوّره فيلسوفا في ثياب رسّام. فقد صوّر في أعماله العديد من الجوانب المظلمة والمخيفة في الطبيعة الإنسانية. ويقال انه ما من رسّام استطاع أن يصوّر أهوال وويلات الحرب ووحشية الإنسان تجاه أخيه الإنسان بمثل ما فعل غويا. كان فنانا ذا عقل مبدع ونفس كريمة تنكر الظلم وتأنف منه. لذا من الصعب أن لا تحبّه وتحترمه وتتعاطف معه. في بورتريه ذاتي مع الدكتور ارييتا، يرسم غويا نفسه مع صديقه الطبيب ارييتا الذي قام على علاجه ورعايته أثناء مرضه. ويصرّ الفنان على أن يذيّل البورتريه بهذه العبارة التي تدلّ على نبله وعلى دفئه الإنساني: من غويا امتنانا لصديقه ارييتا للبراعة والرعاية اللتين أنقذ بهما حياته في مرضه الخطير الذي عانى منه في نهاية عام 1819 وهو في سنّ الثالثة والسبعين".
وفي البورتريه يظهر غويا جالسا على السرير وهو في حال من الإنهاك والتعب والى جواره الطبيب الذي يسنده بيد بينما يرفع باليد الأخرى كأس الدواء إلى فمه.
كان غويا إنسانا ميالا للعزلة والتأمّل ولطالما شغلته فكرة الموت ومصير الإنسان. ولم يكن يخفي تشكّكه في الطبيعة البشرية وميل الإنسان الغريزي لارتكاب الشرّ. ومن عباراته المشهورة أن البشر أسوأ من الحيوانات لأنهم على وعي بالأذى، ومع ذلك يفعلونه".
وكان يردّد دائما أن السلطة المطلقة تحوّل صاحبها إلى مخلوق متبلّد الإحساس فيبطش ويظلم ويقتل".
كان العالم الذي عاش فيه غويا مليئا بالكثير من مظاهر التوحّش والعنف والكراهية، من حروب نابليون إلى محاكم التفتيش إلى الصراعات بين الطوائف والطبقات. لذا لم يكن قادرا على فهم أو استيعاب ذلك العالم كما هو، ناهيك عن أن يقبله أو يتصالح معه.
ومن القصص التي توقّف عندها النقاد والمؤرّخون لحياة غويا تلك القصّة التي تتحدّث عن العلاقة العاطفية التي ربطته بإحدى أشهر وأجمل نساء اسبانيا في ذلك الوقت.
كتبت الكثير من القصص عن العلاقة التي ربطت بين غويا ودوقة ألبا. وقد أسرت تلك القصة وما تزال خيال الكثيرين منذ منتصف القرن التاسع عشر، كما كانت موضوعا لعدد من الروايات والأعمال الدرامية.
كانت دوقة ألبا، واسمها دونا كاياتانا دي توليدو، إحدى أجمل نساء اسبانيا في زمانها. وقد عرفت بسحر شخصيّتها وسلطتها الطاغية. ومن خلال الصور العديدة التي رسمها لها غويا، تبدو كاياتانا امرأة طويلة، نحيفة، ذات عينين سوداوين مشعّتين وشعر فاحم متجعّد.
ويقال انه لولا اقتران اسمها باسم غويا لما قدر لها أن تحظى بكلّ هذه الشهرة والاهتمام.
كان غويا مقرّبا من مجتمع النبلاء الإسبان، وكانت له علاقاته مع العديد من النساء البورجوازيات اللاتي كنّ في ذلك الوقت يتمتّعن بالكثير من مظاهر الحرّية والاستقلال الاجتماعي والاقتصادي.
لكن قصّتة مع كاياتانا تظلّ الأكثر غموضا وإثارة. كانت المرأة احد رعاته الرئيسيين ثم ما لبثت أن أصبحت خليلة له. وقد بدأت تلك العلاقة عاصفة متوتّرة في بدايات العام 1794م وامتدّت عشر سنوات من عام 1794 إلى 1804م.
لكن أيّ صنف من النساء كانت تلك المرأة التي قيل إن شغف الفنان بها كاد يدفعه في إحدى المرّات إلى حافّة الجنون؟
تورد بعض المصادر عددا من الوقائع وتستشهد ببعض الوثائق من بينها رسائل غويا التي كتبها إلى أصدقائه. وكلّ هذه الموادّ يمكن أن تؤلف فصولا في رواية مليئة بكلّ عناصر التشويق والترقب.
كانت الدوقة بالإضافة إلى جمالها الباهر وجاذبيتها الشخصية امرأة متقلبة المزاج وغريبة الأطوار. وما من شكّ في أن هذه السمات في شخصيّتها لم تؤدّ إلا إلى استمرار اهتمام الناس بها حتى بعد مرور قرنين على وفاتها.
وقد رسم لها غويا عدّة بورتريهات أشهرها ذلك الذي تظهر فيه بفستان اسود وقد أشارت بيدها إلى الأرض التي ُنقشت عليها عبارة بالاسبانية تقول: سولو غويا أو غويا فقط". وثمّة لوحة أخرى للدوقة وهي ترتدي ملابس بيضاء.
كما رسم غويا لوحتين لامرأة واحدة بنفس الوضع. غير أنها تظهر في الأولى بكامل لباسها وفي الثانية عارية. وهناك اعتقاد بأن اللوحتين هما لـ كاياتانا. إذ تبدو المرأة فيهما بملامح قريبة الشبه من ملامح الدوقة.
وقد عاش غويا في منزل كاياتانا في الريف الأندلسي احد عشر شهرا بعد وفاة زوجها. كان في الخمسين من عمره وكانت هي في الرابعة والثلاثين. وخلال تلك الفترة رسم لها عددا من البورتريهات.
كانت كاياتانا أغنى امرأة في اسبانيا. وكانت دائما ذات شخصية صِدامية تهوى المشاكسة والإبحار ضدّ التيار.
ويقال إن التنافس بلغ أشدّه بين الدوقة والملكة ماريا لويزا. كانت المرأتان متنافرتين ومتخاصمتين على الدوام.
وقد بلغ من عناد كاياتانا وحدّة طبعها أنها عندما سمعت ذات مرّة أن الملكة أمرت خيّاط القصر بتفصيل فستان خاص كي ترتديه في إحدى الحفلات العامّة، أمرت هي بخياطة عدّة فستانين من نفس الطراز ثم ألبستها خادماتها وأمرتهن بالظهور على الملأ إمعانا في تحدّي المالكة وإثارة غضبها.
هنا أخذت القصّة منحى آخر.
فقد ماتت الدوقة فجأة في ظروف غامضة. كان ذلك في يوليو من العام 1802 وعمرها لا يتجاوز الأربعين عاما. ورغم أن هناك روايات كثيرة تؤكّد موتها بالسلّ، فإن هناك سيناريوهات أخرى تقول بأن المرأة ماتت مسمومة على يد احد أعدائها الكثيرين.
موت كاياتانا بتلك الطريقة المأساوية أضفى لمسة إضافية من الغموض على شخصيتها. وقد تلقى غويا خبر موتها المفاجئ بالصدمة والذهول. وبعد فترة أصيب بمرض في أذنيه ذهب بسمعه. وأصبح يراقب العالم من حوله بصمت ووجوم. وكان قد تعرّض قبل ذلك لمأساة موت أبنائه السبعة تباعا ثم موت زوجته الأمر الذي تركه محطّما مشوّش الفكر حائرا. وفي الأشهر التالية ازدادت حالته الصحية والعقلية سوءا مع تنامي أعراض الانهيار العصبي. واليوم يفسّر الطبّ الحديث ما حدث لغويا بأنه أعراض مرض مينيير الذي يصيب مراكز الإحساس المركزية في المخ وينتهي بالمريض إلى ما يعرف بالعته الدماغي.
غير أن هناك من يتحدّث عن احتمال إصابة الفنّان بالتسمّم جرّاء استخدامه المفرط للرصاص الأبيض عالي السُميّة في لوحاته.
لقد أحبّ غويا كاياتانا أكثر من أيّ امرأة أخرى وكانت تتويجا استثنائيا لفتوحاته النسائية الكثيرة. ومن النظريات الكثيرة التي تردّدت حول ملابسات مصرعها نظرية تقول إن كاياتانا كانت جزءا من مؤامرة لاغتيال الملكة التي ارتبط اسمها بمحاكم التفتيش. وقد قرّرت الملكة أخيرا تصفية الدوقة بمساعدة من سكرتيرها الشخصي دي غودوي الذي يقال انه كانت تربطه بالملكة أحوال عشق.
كانت حياة غويا موضوعا للعديد من الأعمال الموسيقية والدرامية، منها سويت للبيانو ألفه انريكو غراندوس وأوبرا بعنوان "غويا" بطولة بلاسيدو دومينغو وفيلم اسمه أشباح غويا وفيلم آخر بعنوان "غويا في بوردو".
في أحد مشاهد أوبرا "غويا" لـ جيان كارلو مينوتي تظهر كاياتانا، التي أصابها مرض غامض، وهي على فراش الموت. لكنها ما تزال ترتدي مجوهراتها المشهورة. وتتوسّل إلى خادمها لأن يرسل في طلب غويا كي تعطيه خاتمها المفضّل. ثم تدخل الملكة ماريا وتجيل نظرها في الغرفة قبل أن تنظر إلى كاياتانا وتتمتم قائلة إنها تتلقى جزاءها العادل.
وتردّ كاياتانا أنها تعرف من دسّ لها السمّ وتعلن أن ثروتها كلها ستؤول إلى خدَمِها والى ابنها بالتبنّي.
وبعد أن تموت الدوقة تجرّدها الملكة من قلادتها وخاتمها وتختصّهما لنفسها. ثم يندفع غويا إلى داخل الغرفة ويلمح خاتم كاياتانا في يد الملكة. وبعد أن يترك لوحده في الغرفة، يبدأ في تعنيف نفسه وكيل اللعنات والسباب لشخصه على فشله وجبنه في إنقاذ كاياتانا.
وفي مشهد آخر يظهر غويا في محترفه بعد سنوات من وفاة كاياتانا. هو الآن أصمّ وأعمى وفي سنواته الأخيرة.
وبينما ينام متكوّما في كرسيّه تزوره رؤى وهواجس مؤرّقة تعنفه على افتقاره للشجاعة أثناء الحرب وتشعره بالذنب لأنه تخلى عن حبيبته. وهنا ينادي طالبا العون فتظهر له كاياتانا الجميلة التي تخبره انه لا يجب أن يحسّ بالذنب وألا يمعن في اتهام نفسه بالجبن فقد قاتل، من خلال لوحاته، بشجاعة كما لم يقاتل محارب آخر. وأحبّ بصدق أكثر من أيّ عاشق. وكان عطوفا أكثر من أيّ كاهن أو رجل دين. وأنه لكلّ هذا يستحق السلام السماوي الذي سيجلبه له الموت أخيرا.
المعروف أن غويا قضى سنواته الأخيرة في مدينة بوردو الفرنسية التي كان قد لجأ إليها هربا من الحرب الأهلية ومحاكم التفتيش في بلده.
في نهاية فيلم "غويا في بوردو" للمخرج كارلوس سورا نرى غويا ممدّدا في سريره وهو في حالة احتضار وقد لوّحت وجهه زرقة باهتة. وفجأة تطلّ ظلال كاياتانا من إحدى لوحاته التي كان قد رسمها لها من قبل فيتابعها بعينيه، وترمقه بنظرة حانية وتغطّيه في لحظات موته الأخيرة، قبل أن يغلق الستار ويغرق هو في لجّة الصمت الأبدي.
:تنويه
تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .