في سنة 1010م، أي قبل حوالي ألف عام، أكمل الشاعر الفارسي الفردوسي ملحمته "الشاهنامة" أو كتاب الملوك. هذه التحفة الأدبية التي تتكوّن من خمسين ألف بيت مقفّى هي من بين أطول الأعمال الشعرية في العالم.
ومثل إلياذة وأوديسّا هوميروس، تتحدّث ملحمة الفردوسي عن أحداث كبيرة من العالم الكلاسيكي. وقد ساعدت هذه الملحمة في الحفاظ على الحضارة واللغة الفارسيتين بعد الفتح العربي لبلاد فارس في القرن السابع الميلادي. وقبل عامين أحيت بعض المنظّمات الثقافية، مثل اليونيسكو، ذكرى مرور ألف عام على وفاة الفردوسي.
يُعتبر الفردوسي احد أشهر خمسة أسماء في الشعر الفارسي في جميع العصور. وفي طهران، عاصمة إيران، يمكن رؤية ساحة الفردوسي التي ينتصب فيها تمثال ابيض للشاعر وهو يمسك بكتابه الشهير.
وقد أقيم التمثال عام 1976 مكان تمثال آخر للفردوسي كان قد تبرّع به الزارادشتيون الهنود لمدينة طهران قبل أربعة عقود.
هذا التمثال ليس سوى معلم واحد من بين العديد من المعالم التي تحمل اسم الفردوسي، ومنها شوارع ومكتبات وكلّيات داخل إيران وخارجها.
الجامعة الرئيسية في مدينة مشهد شمالي شرق إيران، والمكتبة الوطنية في طاجيكستان وأحد شوارع العاصمة دوشانبي، ومكتبة كلّية وادهام في أوكسفورد بـ انغلترا، ومكتبة مدينة بيرات الألبانية، كلّها تحمل اسم الفردوسي. وهذا يُظهر الأهميّة الثقافية لهذا الشاعر، ليس فقط بالنسبة للشعوب الناطقة بالفارسية في إيران وأفغانستان وطاجيكستان "والتي يبلغ مجموع سكّانها حوالي 120 مليونا"، وإنما أيضا في تاريخ الأدب العالمي.
ولتقدير عمل الفردوسي وإسهاماته، لا بدّ من وضعه في سياق أوسع، تاريخيّا وجغرافيّا.
قبل دخول العرب إلى بلاد فارس، أو إيران كما تُسمّى اليوم، كانت روما والصين أكبر امبراطوريّتين في العالم في ذلك الوقت. وفي القرن السابع، أثناء زمن الخليفة الثاني عمر بن الخطّاب، كان العرب المسلّحون بدين الإسلام يغزون الدول المجاورة.
وكانت قرون من الحروب بين الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية قد استنفدت قوّة الجانبين. وأدّى هذا، بالإضافة إلى المشاكل الداخلية في بلاد فارس، إلى ازدياد حماسة المجتمع العربي الجديد لإسقاط السلالة الساسانية التي حكمت فارس لأكثر من أربعة قرون.
وعلى الرغم من مرور ما يقرب من قرنين على اعتناق الإيرانيين للإسلام بعد الفتح العربي، إلا أنهم كانوا ما يزالون راغبين في الحفاظ على ثقافتهم ومكانتهم التاريخية. وقد تجلّى طموحهم هذا في مجالي السياسة والأدب على وجه الخصوص.
كانت هناك انتفاضات عسكرية ضدّ الحكّام العرب من وقت لآخر في أنحاء مختلفة من إيران، بعضها تمّ قمعها بعنف، لكن البعض الآخر كانت ناجحة بما فيه الكفاية للدخول في علاقات سياسية جديدة مع الخلفاء العرب.
خراسان الواقعة شمالي شرق إيران لعبت، بشكل خاصّ، دورا هامّا في تلك الاحتجاجات. وفي الواقع، فإن اللغة الفارسية الحديثة هي ثمرة لهجة يتحدّث بها الناس في خراسان. وهي اليوم اللغة الوطنية في كلّ من إيران وأفغانستان وطاجيكستان.
جاء الأمويون العرب إلى السلطة في دمشق بعد وفاة عليّ، الخليفة الرابع بعد النبيّ والإمام الأوّل للمسلمين الشيعة. كان بنو أميّة داعمين كثيرا للعنصر العربي، ولم يكونوا يتعاملون مع الشعوب والثقافات الأخرى سوى بالقليل من الاحترام.
وفي عام 750م، حلّ العباسيون محلّ بني أميّة بدعم من المتمرّدين الفرس في خراسان. وقد أنشأ الخلفاء العبّاسيّون عاصمة جديدة لملكهم في بغداد على مقربة من المدائن التي كانت عاصمة ملوك الساسانيين. كما اختاروا لبلاطهم وزراء من عائلات النخبة في إيران واتخذوا من الحكم الساساني نموذجا لحكمهم.
الخليفة المأمون، الذي كانت أمّه فارسية، أظهر اهتماما كبيرا بالثقافات الأخرى وأسّس مكتبة كبيرة ومركزا للعلوم والترجمة سُمّي "بيت الحكمة". وقد تمّ تدمير بيت الحكمة والبلاط العباسي على أيدي المغول عندما غزوا أوّلا بلاد فارس ثم بغداد في نهاية المطاف، أي في العام 1258م.
العلماء والفنّانون الإيرانيون لعبوا دورا رئيسيا في انتشار العلم والفلسفة والأدب والهندسة المعمارية والفنون في جميع أنحاء العالم الإسلامي. وقد أطلق على الفترة من القرن التاسع إلى القرن الثاني عشر الميلادي العصر الذهبي للحضارة الإسلامية.
خلال حكم خلفاء بني العبّاس، ظهرت عدّة سلالات إيرانية قوّية مثل الطاهريين والسافاريين والسامانيين الذين حوّلوا البلاط والإدارة إلى اللغة الفارسية الحديثة ودعموا أعمال الشعراء والكتّاب الإيرانيين.
الملوك السامانيون (819-999) الذين حكموا الأجزاء الشرقية من إيران اشتهروا بشكل خاص ببعثهم للثقافة والأدب الفارسيين. وفي عهد تلك السلالة، ولد وترعرع الفردوسي.
بناء السيرة الذاتية لشعراء الفرس الكلاسيكيين، اعتمادا على المعلومات المتناثرة في مصادر مختلفة وأحيانا متضاربة، مهمّة تثير دائما تحدّيا هائلا للباحثين. وسيرة الفردوسي لا تُعتبر استثناءً. ومع ذلك، فقد كشفت عقود من الدراسات الحديثة بعض المعلومات المهمّة عنه وعن حياته.
إسم الفردوسي هو أبو القاسم حسن، أو أبو القاسم منصور طبقاً لمصادر أخرى. واسمه القلمي، أي الفردوسي، يعني حرفيا "رجل من الجنّة أو الفردوس". وبالمناسبة، فإن كلمة "بارادايس" الإنجليزية التي تعني الجنّة مشتقّة من الكلمة الفارسية القديمة "بيريدازا" التي تعني الحديقة المسوّرة.
وليس من الواضح لماذا اختار الفردوسي هذا الاسم. لكن يقال انه كان يملك حديقة كبيرة تُسمّى فردوس. وهناك رواية أخرى تقول إن محمود الغزنوى هو من منحه الاسم خلال زيارة الشاعر إلى بلاط السلطان.
ومثل إلياذة وأوديسّا هوميروس، تتحدّث ملحمة الفردوسي عن أحداث كبيرة من العالم الكلاسيكي. وقد ساعدت هذه الملحمة في الحفاظ على الحضارة واللغة الفارسيتين بعد الفتح العربي لبلاد فارس في القرن السابع الميلادي. وقبل عامين أحيت بعض المنظّمات الثقافية، مثل اليونيسكو، ذكرى مرور ألف عام على وفاة الفردوسي.
يُعتبر الفردوسي احد أشهر خمسة أسماء في الشعر الفارسي في جميع العصور. وفي طهران، عاصمة إيران، يمكن رؤية ساحة الفردوسي التي ينتصب فيها تمثال ابيض للشاعر وهو يمسك بكتابه الشهير.
وقد أقيم التمثال عام 1976 مكان تمثال آخر للفردوسي كان قد تبرّع به الزارادشتيون الهنود لمدينة طهران قبل أربعة عقود.
هذا التمثال ليس سوى معلم واحد من بين العديد من المعالم التي تحمل اسم الفردوسي، ومنها شوارع ومكتبات وكلّيات داخل إيران وخارجها.
الجامعة الرئيسية في مدينة مشهد شمالي شرق إيران، والمكتبة الوطنية في طاجيكستان وأحد شوارع العاصمة دوشانبي، ومكتبة كلّية وادهام في أوكسفورد بـ انغلترا، ومكتبة مدينة بيرات الألبانية، كلّها تحمل اسم الفردوسي. وهذا يُظهر الأهميّة الثقافية لهذا الشاعر، ليس فقط بالنسبة للشعوب الناطقة بالفارسية في إيران وأفغانستان وطاجيكستان "والتي يبلغ مجموع سكّانها حوالي 120 مليونا"، وإنما أيضا في تاريخ الأدب العالمي.
ولتقدير عمل الفردوسي وإسهاماته، لا بدّ من وضعه في سياق أوسع، تاريخيّا وجغرافيّا.
قبل دخول العرب إلى بلاد فارس، أو إيران كما تُسمّى اليوم، كانت روما والصين أكبر امبراطوريّتين في العالم في ذلك الوقت. وفي القرن السابع، أثناء زمن الخليفة الثاني عمر بن الخطّاب، كان العرب المسلّحون بدين الإسلام يغزون الدول المجاورة.
وكانت قرون من الحروب بين الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية قد استنفدت قوّة الجانبين. وأدّى هذا، بالإضافة إلى المشاكل الداخلية في بلاد فارس، إلى ازدياد حماسة المجتمع العربي الجديد لإسقاط السلالة الساسانية التي حكمت فارس لأكثر من أربعة قرون.
وعلى الرغم من مرور ما يقرب من قرنين على اعتناق الإيرانيين للإسلام بعد الفتح العربي، إلا أنهم كانوا ما يزالون راغبين في الحفاظ على ثقافتهم ومكانتهم التاريخية. وقد تجلّى طموحهم هذا في مجالي السياسة والأدب على وجه الخصوص.
كانت هناك انتفاضات عسكرية ضدّ الحكّام العرب من وقت لآخر في أنحاء مختلفة من إيران، بعضها تمّ قمعها بعنف، لكن البعض الآخر كانت ناجحة بما فيه الكفاية للدخول في علاقات سياسية جديدة مع الخلفاء العرب.
خراسان الواقعة شمالي شرق إيران لعبت، بشكل خاصّ، دورا هامّا في تلك الاحتجاجات. وفي الواقع، فإن اللغة الفارسية الحديثة هي ثمرة لهجة يتحدّث بها الناس في خراسان. وهي اليوم اللغة الوطنية في كلّ من إيران وأفغانستان وطاجيكستان.
جاء الأمويون العرب إلى السلطة في دمشق بعد وفاة عليّ، الخليفة الرابع بعد النبيّ والإمام الأوّل للمسلمين الشيعة. كان بنو أميّة داعمين كثيرا للعنصر العربي، ولم يكونوا يتعاملون مع الشعوب والثقافات الأخرى سوى بالقليل من الاحترام.
وفي عام 750م، حلّ العباسيون محلّ بني أميّة بدعم من المتمرّدين الفرس في خراسان. وقد أنشأ الخلفاء العبّاسيّون عاصمة جديدة لملكهم في بغداد على مقربة من المدائن التي كانت عاصمة ملوك الساسانيين. كما اختاروا لبلاطهم وزراء من عائلات النخبة في إيران واتخذوا من الحكم الساساني نموذجا لحكمهم.
الخليفة المأمون، الذي كانت أمّه فارسية، أظهر اهتماما كبيرا بالثقافات الأخرى وأسّس مكتبة كبيرة ومركزا للعلوم والترجمة سُمّي "بيت الحكمة". وقد تمّ تدمير بيت الحكمة والبلاط العباسي على أيدي المغول عندما غزوا أوّلا بلاد فارس ثم بغداد في نهاية المطاف، أي في العام 1258م.
العلماء والفنّانون الإيرانيون لعبوا دورا رئيسيا في انتشار العلم والفلسفة والأدب والهندسة المعمارية والفنون في جميع أنحاء العالم الإسلامي. وقد أطلق على الفترة من القرن التاسع إلى القرن الثاني عشر الميلادي العصر الذهبي للحضارة الإسلامية.
خلال حكم خلفاء بني العبّاس، ظهرت عدّة سلالات إيرانية قوّية مثل الطاهريين والسافاريين والسامانيين الذين حوّلوا البلاط والإدارة إلى اللغة الفارسية الحديثة ودعموا أعمال الشعراء والكتّاب الإيرانيين.
الملوك السامانيون (819-999) الذين حكموا الأجزاء الشرقية من إيران اشتهروا بشكل خاص ببعثهم للثقافة والأدب الفارسيين. وفي عهد تلك السلالة، ولد وترعرع الفردوسي.
بناء السيرة الذاتية لشعراء الفرس الكلاسيكيين، اعتمادا على المعلومات المتناثرة في مصادر مختلفة وأحيانا متضاربة، مهمّة تثير دائما تحدّيا هائلا للباحثين. وسيرة الفردوسي لا تُعتبر استثناءً. ومع ذلك، فقد كشفت عقود من الدراسات الحديثة بعض المعلومات المهمّة عنه وعن حياته.
إسم الفردوسي هو أبو القاسم حسن، أو أبو القاسم منصور طبقاً لمصادر أخرى. واسمه القلمي، أي الفردوسي، يعني حرفيا "رجل من الجنّة أو الفردوس". وبالمناسبة، فإن كلمة "بارادايس" الإنجليزية التي تعني الجنّة مشتقّة من الكلمة الفارسية القديمة "بيريدازا" التي تعني الحديقة المسوّرة.
وليس من الواضح لماذا اختار الفردوسي هذا الاسم. لكن يقال انه كان يملك حديقة كبيرة تُسمّى فردوس. وهناك رواية أخرى تقول إن محمود الغزنوى هو من منحه الاسم خلال زيارة الشاعر إلى بلاط السلطان.
وعلى الأرجح، ولد الفردوسي في العام 329 بقرية فاز بالقرب من بلدة تباران في إقليم طوس بخراسان. وهو ينحدر من عائلة من مُلاك الأراضي الأثرياء. ولم تكن الطبقة التي ينتمي إليها، وتسمّى الدهاقنة، تملك الأراضي الزراعية فحسب، بل كانت أيضا وصيّة على الثقافة وعلى العادات الإيرانية.
ويبدو أن الفردوسي كان يتوفّر على قدر جيّد من التعليم، بالإضافة إلى اطلاعه على الأدب الفارسي المعاصر آنذاك. ومن الواضح انه كان يتقن اللغتين البهلوية والعربية.
وليست هناك معلومات وافية عن والدَي الفردوسي وعائلته. لكن المعروف انه تزوّج في سنّ السابعة والعشرين وأنه قضى معظم، إن لم يكن كلّ حياته في مدينة طوس حيث كان يتدبّر شئون أرضه ويعكف على كتابة الشاهنامة.
تاريخ وفاة الفردوسي غير معروف تماما، وكان دائما موضعا للأخذ والردّ. لكنه، في نهاية كتاب الشاهنامة، يشير إلى انه كان قد بلغ من العمر ثمانين عاما. والمصادر الكلاسيكية تذكر انه توفّي في العام 1025م عن عمر يناهز الحادية والثمانين.
وتشير بعض المصادر إلى انه أثناء تشييع جنازة الفردوسي في مدينة طوس، لم يسمح أحد رجال الدين المتعصّبين بدفن جثمانه في مقبرة المسلمين، على أساس أن الشاعر كان شيعيا مواليا لإيران ولم يكن مسلما سنّياً. وتصادف أن الفردوسي كان يملك حديقة كبيرة في طوس. لذا دُفن جثمانه فيها.
وقد بنى حاكم طوس وقتها، ارسلان جاد الحقّ، قبّة على هذا القبر. وسرعان ما أصبح ضريح الشاعر مزارا وطنيّا. لكن ضريحا حديثا بُني له في العام 1934م، وهو عبارة عن هرم من الرخام صُمّم على نسق ضريح كورش الكبير في باسارجاد جنوبي إيران.
وما يزال قبر الفردوسي في طوس واحدا من المعالم السياحية والثقافية المهمّة التي يقصدها الزوّار والدارسون من داخل البلاد وخارجها.
لم يكن الفردوسي أوّل شخص يؤلّف الشاهنامة. وقد اعترف هو نفسه بهذه الحقيقة بقوله: "كلّ حكاياتي هذه قالها آخرون قبلي".
قبل الفردوسي، كان هناك على الأقلّ أربع مخطوطات لـ الشاهنامة. وكلّها مكتوبة باللغة الخراسانية أثناء حكم السلالة السامانية في القرن العاشر. وأوّل شاعر فارسي ألّف الملحمة كان المسعودي من مدينة مرو التي تقع اليوم في أفغانستان. كما ألّف أبو مؤيد البلخي عملا اكبر صاغه نثرا.
وعلى ما يبدو، فإن الفردوسي لم يستخدم أيّا من هذين العملين في كتابته لـ الشاهنامة. لكن في احد الأوقات، وكان الشاعر وقتها ما يزال في سنّ المراهقة، كلّف محافظ خراسان، أبو منصور محمّد، مجموعة من الكهنة الزارادشتيين من مدن نيشابور وطوس وهرات وسيستان بوضع شاهنامة كاملة في صيغة منثورة.
وقد سعى الفردوسي الشابّ جهده لأن يحصل على نسخة من ذلك الكتاب. وتحقّق له ذلك بمساعدة من صديقه حاكم طوس، اميراك منصور، الذي شجّع الشاعر على تحويل الملحمة إلى شعر.
وقبل أن يباشر الفردوسي عمله، درس كتابا مهمّا من العصر الساساني يُسمّى "خوداي نامة" أو كتاب الأرباب الذي كان مترجما إلى العربية والفارسية الحديثة. ويبدو أن الشاعر استفاد أيضا من الأساطير والمعتقدات الشعبية التي كان يسمعها من الناس في مسقط رأسه.
ما يميّز عمل الفردوسي عن جميع كتب الشاهنامة التي الّفت قبله هو أن كتابه عاش على مرّ القرون المتعاقبة، في الوقت الذي لا نكاد نعلم شيئا عن أعمال سابقيه. من هذه الناحية، قد يكون التاريخ وقف إلى جانب الفردوسي. لكن الأهمّية الحقيقية لكتابه تكمن في نوعية شعره وشمولية سرده والتزامه طوال حياته بعمله، ليس كشاعر بلاط بل كضمير لحضارة بلده.
كلمة "شاهنامة" لها معنيان: الأوّل كتاب الملوك أو الكتاب الملكي. والثاني كتاب العَظَمة أو كتاب الإتقان. وهذان المعنيان لهما علاقة بحقيقة أن الكتاب يتحدّث عن الصفات السامية للبشر وعن النظام الاجتماعي وأساليب الحكم التي يحتاج الملوك والنبلاء لمعرفتها.
بدأ الفردوسي العمل جدّيا على الشاهنامة في الفترة ما بين عامي 978 و 980م، أي في ذروة صعود السلالة السامانية. وأنهى الطبعة الأولى من الكتاب خلال السنوات الأخيرة المضطربة من حكم تلك السلالة التي سرعان ما أفسحت المجال أمام تولّي السلالة الغزنوية للحكم.
الملك الجديد محمود الغزنوي كان، هو الآخر، حريصا على رعاية العلماء والفنّانين الفرس وجلبهم إلى بلاطه. وقد أبدى الفردوسي سروره، وهو في سنّ الثامنة والخمسين، على انه عاصر حكم ذلك السلطان القويّ.
بعد ذلك بعامين، كتب الفردوسي بضعة اسطر يشير فيها إلى أن حالته الصحّية أصبحت على غير ما يُرام. وعندما بلغ الخامسة والستّين، قرّر الشاعر أن يهدي تحفته الأدبية للسلطان محمود في وقت كان أحوج ما يكون للمال والاعتراف الملكي بعمله.
كان يتوقّع مكافأة ضخمة من السلطان على كتابه. وقد بعث نسخة منه في سبعة مجلّدات إلى البلاط الملكي في غزنة. وهنا نصل إلى ذروة قصّة حياة الفردوسي. والمؤسف أن المصادر المتوفّرة تعطي روايات مختلفة عمّا حدث. لكن من الواضح أن السلطان محمود لم يقدّر عمل الفردوسي كما ينبغي. والسبب أن السلطان كان قد تحوّل في ذلك الوقت إلى محارب متعصّب في خدمة الخلفاء العبّاسيين في بغداد. وما زاد الأحوال سوءا، أن رئيس وزراء الملك المعيّن حديثا، احمد بن الحسن، اسرّ إلى الملك بملاحظات لئيمة ومزاعم عن مشاعر الفردوسي المؤيّدة للشيعة والفرس. ويبدو أن هذا الحديث كان له تأثيره السلبي والمقصود على الملك.
ووفقا لإحدى الروايات المشهورة، كان الفردوسي يطمح لأن ينال خمسين ألف دينار ذهبي، أي بعدد أبيات الملحمة، مكافأة له على عمله. لكن الملك قرّر في النهاية منحه عشرين ألف درهم من الفضّة.
ويبدو أن الفردوسي كان يتوفّر على قدر جيّد من التعليم، بالإضافة إلى اطلاعه على الأدب الفارسي المعاصر آنذاك. ومن الواضح انه كان يتقن اللغتين البهلوية والعربية.
وليست هناك معلومات وافية عن والدَي الفردوسي وعائلته. لكن المعروف انه تزوّج في سنّ السابعة والعشرين وأنه قضى معظم، إن لم يكن كلّ حياته في مدينة طوس حيث كان يتدبّر شئون أرضه ويعكف على كتابة الشاهنامة.
تاريخ وفاة الفردوسي غير معروف تماما، وكان دائما موضعا للأخذ والردّ. لكنه، في نهاية كتاب الشاهنامة، يشير إلى انه كان قد بلغ من العمر ثمانين عاما. والمصادر الكلاسيكية تذكر انه توفّي في العام 1025م عن عمر يناهز الحادية والثمانين.
وتشير بعض المصادر إلى انه أثناء تشييع جنازة الفردوسي في مدينة طوس، لم يسمح أحد رجال الدين المتعصّبين بدفن جثمانه في مقبرة المسلمين، على أساس أن الشاعر كان شيعيا مواليا لإيران ولم يكن مسلما سنّياً. وتصادف أن الفردوسي كان يملك حديقة كبيرة في طوس. لذا دُفن جثمانه فيها.
وقد بنى حاكم طوس وقتها، ارسلان جاد الحقّ، قبّة على هذا القبر. وسرعان ما أصبح ضريح الشاعر مزارا وطنيّا. لكن ضريحا حديثا بُني له في العام 1934م، وهو عبارة عن هرم من الرخام صُمّم على نسق ضريح كورش الكبير في باسارجاد جنوبي إيران.
وما يزال قبر الفردوسي في طوس واحدا من المعالم السياحية والثقافية المهمّة التي يقصدها الزوّار والدارسون من داخل البلاد وخارجها.
لم يكن الفردوسي أوّل شخص يؤلّف الشاهنامة. وقد اعترف هو نفسه بهذه الحقيقة بقوله: "كلّ حكاياتي هذه قالها آخرون قبلي".
قبل الفردوسي، كان هناك على الأقلّ أربع مخطوطات لـ الشاهنامة. وكلّها مكتوبة باللغة الخراسانية أثناء حكم السلالة السامانية في القرن العاشر. وأوّل شاعر فارسي ألّف الملحمة كان المسعودي من مدينة مرو التي تقع اليوم في أفغانستان. كما ألّف أبو مؤيد البلخي عملا اكبر صاغه نثرا.
وعلى ما يبدو، فإن الفردوسي لم يستخدم أيّا من هذين العملين في كتابته لـ الشاهنامة. لكن في احد الأوقات، وكان الشاعر وقتها ما يزال في سنّ المراهقة، كلّف محافظ خراسان، أبو منصور محمّد، مجموعة من الكهنة الزارادشتيين من مدن نيشابور وطوس وهرات وسيستان بوضع شاهنامة كاملة في صيغة منثورة.
وقد سعى الفردوسي الشابّ جهده لأن يحصل على نسخة من ذلك الكتاب. وتحقّق له ذلك بمساعدة من صديقه حاكم طوس، اميراك منصور، الذي شجّع الشاعر على تحويل الملحمة إلى شعر.
وقبل أن يباشر الفردوسي عمله، درس كتابا مهمّا من العصر الساساني يُسمّى "خوداي نامة" أو كتاب الأرباب الذي كان مترجما إلى العربية والفارسية الحديثة. ويبدو أن الشاعر استفاد أيضا من الأساطير والمعتقدات الشعبية التي كان يسمعها من الناس في مسقط رأسه.
ما يميّز عمل الفردوسي عن جميع كتب الشاهنامة التي الّفت قبله هو أن كتابه عاش على مرّ القرون المتعاقبة، في الوقت الذي لا نكاد نعلم شيئا عن أعمال سابقيه. من هذه الناحية، قد يكون التاريخ وقف إلى جانب الفردوسي. لكن الأهمّية الحقيقية لكتابه تكمن في نوعية شعره وشمولية سرده والتزامه طوال حياته بعمله، ليس كشاعر بلاط بل كضمير لحضارة بلده.
كلمة "شاهنامة" لها معنيان: الأوّل كتاب الملوك أو الكتاب الملكي. والثاني كتاب العَظَمة أو كتاب الإتقان. وهذان المعنيان لهما علاقة بحقيقة أن الكتاب يتحدّث عن الصفات السامية للبشر وعن النظام الاجتماعي وأساليب الحكم التي يحتاج الملوك والنبلاء لمعرفتها.
بدأ الفردوسي العمل جدّيا على الشاهنامة في الفترة ما بين عامي 978 و 980م، أي في ذروة صعود السلالة السامانية. وأنهى الطبعة الأولى من الكتاب خلال السنوات الأخيرة المضطربة من حكم تلك السلالة التي سرعان ما أفسحت المجال أمام تولّي السلالة الغزنوية للحكم.
الملك الجديد محمود الغزنوي كان، هو الآخر، حريصا على رعاية العلماء والفنّانين الفرس وجلبهم إلى بلاطه. وقد أبدى الفردوسي سروره، وهو في سنّ الثامنة والخمسين، على انه عاصر حكم ذلك السلطان القويّ.
بعد ذلك بعامين، كتب الفردوسي بضعة اسطر يشير فيها إلى أن حالته الصحّية أصبحت على غير ما يُرام. وعندما بلغ الخامسة والستّين، قرّر الشاعر أن يهدي تحفته الأدبية للسلطان محمود في وقت كان أحوج ما يكون للمال والاعتراف الملكي بعمله.
كان يتوقّع مكافأة ضخمة من السلطان على كتابه. وقد بعث نسخة منه في سبعة مجلّدات إلى البلاط الملكي في غزنة. وهنا نصل إلى ذروة قصّة حياة الفردوسي. والمؤسف أن المصادر المتوفّرة تعطي روايات مختلفة عمّا حدث. لكن من الواضح أن السلطان محمود لم يقدّر عمل الفردوسي كما ينبغي. والسبب أن السلطان كان قد تحوّل في ذلك الوقت إلى محارب متعصّب في خدمة الخلفاء العبّاسيين في بغداد. وما زاد الأحوال سوءا، أن رئيس وزراء الملك المعيّن حديثا، احمد بن الحسن، اسرّ إلى الملك بملاحظات لئيمة ومزاعم عن مشاعر الفردوسي المؤيّدة للشيعة والفرس. ويبدو أن هذا الحديث كان له تأثيره السلبي والمقصود على الملك.
ووفقا لإحدى الروايات المشهورة، كان الفردوسي يطمح لأن ينال خمسين ألف دينار ذهبي، أي بعدد أبيات الملحمة، مكافأة له على عمله. لكن الملك قرّر في النهاية منحه عشرين ألف درهم من الفضّة.
ولأن الفردوسي كان مستاءً من معاملة الملك له، فقد ذهب إلى إحدى الحانات واشترى له نبيذا ثم قام بتوزيع نقود الملك على عمّال الحانة.
وتمضي القصّة فتقول إن الشاعر بعد ذلك قصد حاكم إحدى حواضر تبارستان. وهناك ألّف قصيدة من مائة بيت يسخر فيها من السلطان محمود الغزنوي ويأخذ عليه انعدام حسّه الملوكي. وقد اشترى الحاكم القصيدة التهكّمية مقابل مائة ألف قطعة من الفضّة لكي يتلفها. وما تزال بضعة أبيات من هذه القصيدة موجودة إلى اليوم في نهاية مخطوطة الشاهنامة.
ويقال إن السلطان محمود عبّر في ما بعد عن أسفه من سلوكه القاسي تجاه الشاعر وقرّر تكريمه. ولهذا الغرض أرسل قافلة من الجمال تحمل الذهب إلى مسقط رأس الفردوسي في طوس. لكن بينما كانت قافلة السلطان تعبر إحدى بوّابات المدينة، كان جثمان الفردوسي يُحمل عبر بوّابة أخرى كي يوارى الثرى.
وما حدث بعد ذلك هو أن مبعوثي الملك عرضوا هدايا الذهب على ابنة الفردوسي، وكانت الوحيدة التي ظلّت على قيد الحياة من بين أبنائه. لكنها رفضتها من منطلق احترامها لذكرى والدها المتوفّى واعتزازها بمكانته. لذا أمر الملك بأن تُنفق تلك الأموال على بناء استراحة للقوافل على الطريق من وإلى مدينة طوس.
الشكل الشعري المستخدم في الشاهنامة يُسمّى المثنوي، أي أن كلّ سطر يتكوّن من شطرين وقافية. وقد أمضى الفردوسي خمسا وثلاثين سنة على تأليف كتابه. والقصائد التي تستهلّ الشاهنامة تخبرنا عن بعض معتقدات الفردوسي. فهو يثني على الله الواحد خالق الحياة والكون. ثم يتحدّث عن الطبيعة بكثير من الفرح واصفا ضوء الشمس ودورة النهار والليل والنجوم والكواكب والأشجار على الأرض والعناصر الأربعة، أي النار والماء والهواء والتربة.
كما يؤكّد الفردوسي في الكتاب على دور الحكمة والمعرفة في مسائل العالم الطبيعي وعلى أخلاقيات الحياة البشرية والسلوك الاجتماعي. وكلّ هذا يوضّح مدى تقديس الفردوسي لهذه الصفات والمزايا، ربّما بسبب تراثه وخلفيّته كفارسيّ نبيل.
من حِكَم الفردوسي المشهورة التي ضمّنها الشاهنامة قوله "إن القلوب المسنّة تصبح شابّة من خلال المعرفة"، وهي الجملة التي ظلّت تزيّن الكتب المدرسية في إيران على مرّ عقود وتذكّرنا بشعار الفيلسوف الانجليزي فرانسيس بيكون في القرن السادس عشر "المعرفة قوّة".
يقسّم الدارسون قصص الشاهنامة إلى ثلاث فئات: القصص الأسطورية، والقصص البطولية، وقصص العصور التاريخية. الجزء الأسطوري "ويمثل حوالي أربعة بالمائة من الكتاب" خصّصه المؤلّف للحكايات الزارادشتية التي تتحدّث عن الخلق وبداية العالم. وهذا الجزء يعتبر ذا قيمة عالية بالنسبة لخبراء الأساطير.
تبدأ الشاهنامة مع كيومارز، الإنسان الأوّل وساكن الجبل، الذي يصبح أوّل ملك ويعلّم الناس مختلف فنون الحياة. لكنه سرعان ما يتصادم مع شخصية شريرة هو اهيرمان الذي يقوم ابنه بقتل ابن كيومارز. هنا ينشأ صراع بين الرجلين ممهّدا الطريق لسلسلة من الحروب بين ذرّيتهما، وهذه هي الفكرة النموذجية عند الزارادشتيين عن الصراع ما بين الخير والشرّ.
من بين الملوك الطيّبين الذين تتحدّث عنهم الشاهنامة جمشيد الذي يحدّد الاعتدال الربيعي كبداية للنيروز أو السنة الإيرانية الجديدة. وهناك أيضا هوشانغ الذي يكتشف النار إذ يضرب سيفه بحجر. وفريدون الذي يقتل الحاكم الشرّير زاهاك ويقسّم العالم المأهول بين أبنائه الثلاثة. زاهاك يمنح تور وإيران إلى ابنه الأكبر إيراج. وهنا يشعر الشقيقان الآخران بالحسد تجاه أخيهما فيقرّران قتله للاستيلاء على مملكته.
حفيد ايراج، واسمه مانوشهر، يبادر بالانتقام من أحفاد قتلة والده ويعتلي العرش. وبتولّيه الحكم، تنتهي الفترة الأسطورية من حكم الملوك الأوائل.
الفترة البطولية من الشاهنامة تروي قصصا بطولية رائعة عن الحروب والحملات العسكرية التي تتخلّلها حكايات رومانسية عن الحبّ والزواج. وفي هذا الجزء تتحدّث الشاهنامة عن سلسلة من أبطال ملوك فارس خلال حكم السلالة الكيانية. وأكثر هؤلاء الأبطال احتفاءً هو رستم، الذي يمكن وصفه بأنه المعادل الفارسي لـ هرقل الإغريقي.
تصوّر الملحمة رستم وهو يركب حصانه الاستثنائي قاصدا جبال منطقة بحر قزوين كي ينقذ الملك كاي كافوس ويخلّصه من سجن الشيطان. رحلة هذا البطل تتكوّن من سبع مراحل. وهي من بين أجمل قصص الشاهنامة وأكثرها تشويقا. وتنتهي المرحلة البطولية من الشاهنامة بنهاية حياة رستم الطويلة. هذا الجزء يستغرق حوالي ثلثي الكتاب. وطريقة الفردوسي في رواية أحداثه أسّست لتقاليد غنيّة في أسلوب السرد الذي يتناول قصص البطولة والحبّ في إيران على مرّ قرون.
الفترة التاريخية تبدأ بإشارات إلى السلالة الأخمينية. لكنها تكتفي بذكر اثنين من ملوكها: داريوس "دارا" الثاني وداريوس الثالث. المعروف تاريخيا أن هذه السلالة أسّسها كورش وأطاح بها الاسكندر المقدوني عندما غزا بلاد فارس في العام 334 قبل الميلاد.
الغريب أن الشاهنامة تصوّر الاسكندر بوصفه أميرا نصفه يوناني ونصفه الآخر فارسي. ومن الواضح أن الفردوسي اخذ هذه القصّة الملتوية عن حكاية رومانسية فارسية قديمة تتحدّث عن الاسكندر.
بعد أن يتحدّث المؤلّف مطوّلا عن غزو الاسكندر وحكمه لبلاد فارس، يحوّل اهتمام القارئ إلى الملوك الساسانيين، وعلى الأخصّ آخرهم يزدجرد الثالث الذي هزمه العرب في القرن السابع الميلادي. والفردوسي يروي قصّة سقوط حكم يزدجرد بطريقة تشي بالكثير من الحزن والأسى.
ما نعرفه عن حياة الفردوسي يأتي من مصادر متعدّدة، أهمّها الشاهنامة نفسها والتي يشير فيها الفردوسي إلى عمره والى الأحداث التي وقعت في حياته. والمصدر الثاني هو شعراء الفارسية الآخرون الذين كتبوا قصائد في مدح عمل الفردوسي، مثل الطوسي ونظامي والعطّار وغيرهم. ثم هناك السيرة الذاتية للشاعر والمسجّلة في المصادر الأدبية الفارسية الكلاسيكية ومن أهمّها كتابا "تاريخ سيستان" و"قلب القلوب وتذكرة الشعراء".
أوّل ترجمة للشاهنامة إلى اللغة العربية وضعها فتح بن علي أصفهاني في العام 1227م. السلاطين العثمانيون كانوا هم أيضا مغرمين بالشاهنامة. وأوّل ترجمة للكتاب إلى التركية أنجزها علي أفندي عام 1510م. كما تُرجم الكتاب إلى أكثر من ثلاثين لغة، منها الأردية والأرمينية والإنجليزية والدنماركية والفرنسية والألمانية واليابانية والإيطالية والروسية.
وتمضي القصّة فتقول إن الشاعر بعد ذلك قصد حاكم إحدى حواضر تبارستان. وهناك ألّف قصيدة من مائة بيت يسخر فيها من السلطان محمود الغزنوي ويأخذ عليه انعدام حسّه الملوكي. وقد اشترى الحاكم القصيدة التهكّمية مقابل مائة ألف قطعة من الفضّة لكي يتلفها. وما تزال بضعة أبيات من هذه القصيدة موجودة إلى اليوم في نهاية مخطوطة الشاهنامة.
ويقال إن السلطان محمود عبّر في ما بعد عن أسفه من سلوكه القاسي تجاه الشاعر وقرّر تكريمه. ولهذا الغرض أرسل قافلة من الجمال تحمل الذهب إلى مسقط رأس الفردوسي في طوس. لكن بينما كانت قافلة السلطان تعبر إحدى بوّابات المدينة، كان جثمان الفردوسي يُحمل عبر بوّابة أخرى كي يوارى الثرى.
وما حدث بعد ذلك هو أن مبعوثي الملك عرضوا هدايا الذهب على ابنة الفردوسي، وكانت الوحيدة التي ظلّت على قيد الحياة من بين أبنائه. لكنها رفضتها من منطلق احترامها لذكرى والدها المتوفّى واعتزازها بمكانته. لذا أمر الملك بأن تُنفق تلك الأموال على بناء استراحة للقوافل على الطريق من وإلى مدينة طوس.
الشكل الشعري المستخدم في الشاهنامة يُسمّى المثنوي، أي أن كلّ سطر يتكوّن من شطرين وقافية. وقد أمضى الفردوسي خمسا وثلاثين سنة على تأليف كتابه. والقصائد التي تستهلّ الشاهنامة تخبرنا عن بعض معتقدات الفردوسي. فهو يثني على الله الواحد خالق الحياة والكون. ثم يتحدّث عن الطبيعة بكثير من الفرح واصفا ضوء الشمس ودورة النهار والليل والنجوم والكواكب والأشجار على الأرض والعناصر الأربعة، أي النار والماء والهواء والتربة.
كما يؤكّد الفردوسي في الكتاب على دور الحكمة والمعرفة في مسائل العالم الطبيعي وعلى أخلاقيات الحياة البشرية والسلوك الاجتماعي. وكلّ هذا يوضّح مدى تقديس الفردوسي لهذه الصفات والمزايا، ربّما بسبب تراثه وخلفيّته كفارسيّ نبيل.
من حِكَم الفردوسي المشهورة التي ضمّنها الشاهنامة قوله "إن القلوب المسنّة تصبح شابّة من خلال المعرفة"، وهي الجملة التي ظلّت تزيّن الكتب المدرسية في إيران على مرّ عقود وتذكّرنا بشعار الفيلسوف الانجليزي فرانسيس بيكون في القرن السادس عشر "المعرفة قوّة".
يقسّم الدارسون قصص الشاهنامة إلى ثلاث فئات: القصص الأسطورية، والقصص البطولية، وقصص العصور التاريخية. الجزء الأسطوري "ويمثل حوالي أربعة بالمائة من الكتاب" خصّصه المؤلّف للحكايات الزارادشتية التي تتحدّث عن الخلق وبداية العالم. وهذا الجزء يعتبر ذا قيمة عالية بالنسبة لخبراء الأساطير.
تبدأ الشاهنامة مع كيومارز، الإنسان الأوّل وساكن الجبل، الذي يصبح أوّل ملك ويعلّم الناس مختلف فنون الحياة. لكنه سرعان ما يتصادم مع شخصية شريرة هو اهيرمان الذي يقوم ابنه بقتل ابن كيومارز. هنا ينشأ صراع بين الرجلين ممهّدا الطريق لسلسلة من الحروب بين ذرّيتهما، وهذه هي الفكرة النموذجية عند الزارادشتيين عن الصراع ما بين الخير والشرّ.
من بين الملوك الطيّبين الذين تتحدّث عنهم الشاهنامة جمشيد الذي يحدّد الاعتدال الربيعي كبداية للنيروز أو السنة الإيرانية الجديدة. وهناك أيضا هوشانغ الذي يكتشف النار إذ يضرب سيفه بحجر. وفريدون الذي يقتل الحاكم الشرّير زاهاك ويقسّم العالم المأهول بين أبنائه الثلاثة. زاهاك يمنح تور وإيران إلى ابنه الأكبر إيراج. وهنا يشعر الشقيقان الآخران بالحسد تجاه أخيهما فيقرّران قتله للاستيلاء على مملكته.
حفيد ايراج، واسمه مانوشهر، يبادر بالانتقام من أحفاد قتلة والده ويعتلي العرش. وبتولّيه الحكم، تنتهي الفترة الأسطورية من حكم الملوك الأوائل.
الفترة البطولية من الشاهنامة تروي قصصا بطولية رائعة عن الحروب والحملات العسكرية التي تتخلّلها حكايات رومانسية عن الحبّ والزواج. وفي هذا الجزء تتحدّث الشاهنامة عن سلسلة من أبطال ملوك فارس خلال حكم السلالة الكيانية. وأكثر هؤلاء الأبطال احتفاءً هو رستم، الذي يمكن وصفه بأنه المعادل الفارسي لـ هرقل الإغريقي.
تصوّر الملحمة رستم وهو يركب حصانه الاستثنائي قاصدا جبال منطقة بحر قزوين كي ينقذ الملك كاي كافوس ويخلّصه من سجن الشيطان. رحلة هذا البطل تتكوّن من سبع مراحل. وهي من بين أجمل قصص الشاهنامة وأكثرها تشويقا. وتنتهي المرحلة البطولية من الشاهنامة بنهاية حياة رستم الطويلة. هذا الجزء يستغرق حوالي ثلثي الكتاب. وطريقة الفردوسي في رواية أحداثه أسّست لتقاليد غنيّة في أسلوب السرد الذي يتناول قصص البطولة والحبّ في إيران على مرّ قرون.
الفترة التاريخية تبدأ بإشارات إلى السلالة الأخمينية. لكنها تكتفي بذكر اثنين من ملوكها: داريوس "دارا" الثاني وداريوس الثالث. المعروف تاريخيا أن هذه السلالة أسّسها كورش وأطاح بها الاسكندر المقدوني عندما غزا بلاد فارس في العام 334 قبل الميلاد.
الغريب أن الشاهنامة تصوّر الاسكندر بوصفه أميرا نصفه يوناني ونصفه الآخر فارسي. ومن الواضح أن الفردوسي اخذ هذه القصّة الملتوية عن حكاية رومانسية فارسية قديمة تتحدّث عن الاسكندر.
بعد أن يتحدّث المؤلّف مطوّلا عن غزو الاسكندر وحكمه لبلاد فارس، يحوّل اهتمام القارئ إلى الملوك الساسانيين، وعلى الأخصّ آخرهم يزدجرد الثالث الذي هزمه العرب في القرن السابع الميلادي. والفردوسي يروي قصّة سقوط حكم يزدجرد بطريقة تشي بالكثير من الحزن والأسى.
ما نعرفه عن حياة الفردوسي يأتي من مصادر متعدّدة، أهمّها الشاهنامة نفسها والتي يشير فيها الفردوسي إلى عمره والى الأحداث التي وقعت في حياته. والمصدر الثاني هو شعراء الفارسية الآخرون الذين كتبوا قصائد في مدح عمل الفردوسي، مثل الطوسي ونظامي والعطّار وغيرهم. ثم هناك السيرة الذاتية للشاعر والمسجّلة في المصادر الأدبية الفارسية الكلاسيكية ومن أهمّها كتابا "تاريخ سيستان" و"قلب القلوب وتذكرة الشعراء".
أوّل ترجمة للشاهنامة إلى اللغة العربية وضعها فتح بن علي أصفهاني في العام 1227م. السلاطين العثمانيون كانوا هم أيضا مغرمين بالشاهنامة. وأوّل ترجمة للكتاب إلى التركية أنجزها علي أفندي عام 1510م. كما تُرجم الكتاب إلى أكثر من ثلاثين لغة، منها الأردية والأرمينية والإنجليزية والدنماركية والفرنسية والألمانية واليابانية والإيطالية والروسية.
Credits
ancient-origins.net
tandfonline.com
ancient-origins.net
tandfonline.com