بالإضافة إلى ما يتميّز به شهر رمضان من أجواء روحانية وطقوس تعبّدية، فإنّه يوفّر فرصة للقراءة ومشاهدة التلفزيون وحتى سماع بعض الموسيقى التراثية التي تشحذ الوجدان وتصفّي الذهن.
ومنذ مطلع الشهر الكريم سعدت بصحبة بعض الكتب التي كنت في ما مضى اكتفي بالنظر إليها ومعاينتها عن بعد بسبب ضيق الوقت. بعض هذه الكتب خفيف في مادّته ومضمونه. وبعضها الآخر لا تجدي معه القراءة السريعة، بل لا بدّ من قراءته بشيء من التركيز والتمعّن.
وتعميما للفائدة، رأيت أن أضع هنا قائمة بالكتب التي تسنّى لي قراءتها خلال الأيّام الماضية مع بعض الانطباعات الشخصيّة التي كوّنتها عن كلّ كتاب.
الكتاب الأوّل: التفكير العلمي، تأليف الدكتور فؤاد زكريا:
في هذا الكتاب يتحدّث المفكّر والفيلسوف المصري الراحل الدكتور فؤاد زكريّا عن سمات التفكير العلمي والعقبات التي تحول دون انتشاره وعن الأبعاد الاجتماعية للعلم في عصرنا الحديث.
أهمّ ما لفت نظري في هذا الكتاب المهم هو تحليل المؤلّف لظاهرة التعصّب التي ابتُليت بها المجتمعات العربية.
يقول مثلا: إن جوهر التعصّب لا يكمن في اتخاذ الإنسان موقفا شخصيا من قضيّة ما، بل في توحيد الفرد لنفسه مع رأي الجماعة التي ينتمي إليها وإعلائه هذا الرأي فوق آراء أيّ جماعة أخرى. فالمتعصّب في واقع الأمر يمحو شخصيّته وفرديّته ويذيب عقله ووجدانه في الجماعة التي ينتمي إليها بحيث لا يحسّ بنفسه إلا من حيث هو جزء من هذه الجماعة. ولو كان يؤكّد نفسه بوصفه فردا له شخصيّته المميّزة لما أصبح متعصّبا.
إن التعصّب يلغي التفكير الحرّ والقدرة على التساؤل والنقد ويشجّع قيم الخضوع والطاعة والاندماج. التعصّب ليس موقفا تختاره بنفسك، بل موقف "تجد نفسك فيه".
ويضيف الدكتور زكريّا: التعصّب بكافّة أشكاله يشترك في سمات واحدة: الانحياز إلى موقف الجماعة التي ننتمي إليها دون اختيار ودون تفكير، والاستعلاء على الآخرين والاعتقاد أنهم أحطّ منّا، وإغلاق أبواب عقلك ونوافذه حتى لا تنفذ إليه نسمة من نسمات الحرّية".
وشبيه بكلام الدكتور زكريّا عن التعصّب والتفكير الأحادي قول قرأته للمفكّر السعودي إبراهيم البليهي إذ يقول: إن الإنسان المطموس الفردية لا يفكّر ككائن مستقل، وإنما هو مبرمج على نمط من التفكير لا يخرج عنه. لذلك يبقى تفكيره دائريا واجتراريا. ويظلّ مغتبطا بهذا الاجترار، يتباهى به ويستميت دفاعا عنه ولا يقبل أن يوضع موضع التساؤل أو التحليل أو المراجعة".
الكتاب الثاني: فلسفة الفينغ شوي الصينية:
يمكن القول أن الفينغ شوي عبارة عن منظومة من النصائح والإرشادات التي توصّل إليها الصينيون القدامى والتي تهدف إلى تمكين الإنسان من العيش مع نفسه ومع بيئته المكانية بتناغم وانسجام.
هذه الفلسفة تتحدّث، ضمن أمور أخرى، عن الألوان وصفاتها وتأثيرها على حياة ومزاج الإنسان. وقد لفت انتباهي ما ورد من حديث عن اللون الأزرق. يقول الكتاب: الأزرق هو لون التناغم والسلام والتفاني والإخلاص. هو لون هادئ إجمالا، وتدرّجاته الخفيفة تضفي رحابة على مساحة المنزل وآفاقا أوسع للتفكير. الأزرق لا يتمتّع بجلاء انعكاسي كبير، لذا يبدّد أشعّة الشمس ويخفّف من وهجها في غرف المنزل ويترك لمسة منعشة تبعث الهدوء في النفس والصفاء في التفكير. الأزرق المائل إلى الخضرة لون محفّز جدّا، فهو يبعث على النشاط والحيوية ويوحي بالغرابة في الوقت نفسه. كما انه يرتبط بالأحجار الثمينة النادرة كالفيروز واللازورد. ورؤية الأزرق في المنزل تساعد على الحدّ من التوتّر وارتفاع ضغط الدم. كما انه يساعد على التخلّص من التشنّج والأرق.
هذا ما يقوله الفينغ شوي عن الأزرق. لكن ماذا عن الأحمر؟ اللون الذي لاحظت أن الصينيين يميلون لاستخدامه كثيرا وفي بعض الأحيان يمزجونه إمّا بالأصفر أو الذهبي خاصّة في معابدهم وفنادقهم ومطاعمهم.
الأحمر، يقول الكتاب، من أكثر الألوان حرارة ودفئاً. فهو يرتبط بالحيوية والنشاط والمغامرة .كما انه يرمز إلى الخطر، وهذا هو السبب في انه يُستخدم في أضواء سيّارات الإسعاف وإشارات المرور.
ويضيف: الآثار المنبّهة والمحفّزة للأحمر تستوجب الاقتصاد في استخدامه. صحيح انه يضفي حميمية وراحة على الغرف، إلا انه بنفس الوقت يبعث على الإحساس بالضيق ويوحي بصغر الحيّز أو المكان. وقد ثبت أن الأحمر يفتح الشهيّة، فمن منّا لا يسيل لعابه عند رؤية حبّات الفراولة أو الكرز الحمراء؟! لهذا السبب تعمد المطاعم إلى اختيار الأحمر لديكوراتها الداخلية كي يقبل الزبائن على الأكل والاستمتاع به. كما أن اختيار الأحمر لغرف الطعام دليل على رحابة صدر ربّ المنزل وكرمه وحسن ضيافته، شرط أن لا يكون هذا اللون طاغياً أو ثقيلا. ويُفضّل أن يُمزج بالأبيض كي يصبح أكثر هدوءاً وأقلّ حدّة.
الكتاب الثالث: عالم تسكنه الشياطين: الفكر العلمي في مواجهة الدجل والخرافة، تأليف كارل ساغان:
تُرجم هذا الكتاب إلى العربية بتوصية من العالم المصري الراحل الدكتور احمد مستجير، وتولّى ترجمته إبراهيم محمد إبراهيم.
يتحدّث عالم الفلك والفضاء الأمريكي الراحل كارل ساغان في هذا الكتاب عن ما يسمّيه بالعلم الزائف. ويتّخذ موقفا مناوئا من كلّ ما له علاقة بالأفكار غير العقلانية التي تنشأ على هامش الدين، من قبيل الدجل والخرافة والسحر والتنجيم والحسد وتحضير الأرواح وما إلى ذلك.
الكتاب غني جدّا بالمعلومات والأفكار، كما انه مكتوب بلغة سلسة وجذّابة. لكنّ ما يلفت الانتباه على وجه الخصوص، وهو أمر يُحسب لمن أوصى بترجمة الكتاب، هو أن هذا المؤلّف الضخم نُقل إلى العربية بأمانة تامّة ودون أن يُحذف منه حرف واحد. وقد خُصّص في نهاية كلّ صفحة بيان بالملاحظات التي رأى المشرفون على الترجمة أنها تتنافى مع موقف الأديان من بعض المسائل التي أثارها المؤلّف. هذا الكتاب يقدّم نموذجا ممتازا في ترجمة الكتب العلمية بعيدا عن أسلوب المصادرة والمنع، استنادا إلى الحجّة الواهية القائلة بأن مثل هذه النوعية من الكتب يمكن أن تبلبل أفكار الناس أو تفتنهم في عقائدهم.
يقول المترجم في مقدّمة الكتاب: لو قدّمنا للقارئ حلو هذا الكتاب دون مُرّه، فكأننا نقول للقارئ العربيّ إن كلّ ما يجيء من الغرب رائع ومثاليّ وعليك أن تأخذه وأنت مغمض العينين. إذن لا بدّ وأن نعوّد العقل العربي، لا على الخمول والتراخي والتلقّي السهل البسيط، بل على تنمية ملكاته النقدية وقدرته على التمييز بين ما هو ضارّ ونافع.
مضمون هذا الكتاب لا يختلف عن مضمون كتاب ساغان الآخر "الكون". وأتصوّر أن كلّ من يتطلّع لمعرفة شيء عن الظواهر والقوانين الفيزيائية الأساسية أو عن بدايات تشكّل الكون والحياة على الأرض لا بدّ وأن يقرأ هذين الكتابين.
ومنذ مطلع الشهر الكريم سعدت بصحبة بعض الكتب التي كنت في ما مضى اكتفي بالنظر إليها ومعاينتها عن بعد بسبب ضيق الوقت. بعض هذه الكتب خفيف في مادّته ومضمونه. وبعضها الآخر لا تجدي معه القراءة السريعة، بل لا بدّ من قراءته بشيء من التركيز والتمعّن.
وتعميما للفائدة، رأيت أن أضع هنا قائمة بالكتب التي تسنّى لي قراءتها خلال الأيّام الماضية مع بعض الانطباعات الشخصيّة التي كوّنتها عن كلّ كتاب.
في هذا الكتاب يتحدّث المفكّر والفيلسوف المصري الراحل الدكتور فؤاد زكريّا عن سمات التفكير العلمي والعقبات التي تحول دون انتشاره وعن الأبعاد الاجتماعية للعلم في عصرنا الحديث.
أهمّ ما لفت نظري في هذا الكتاب المهم هو تحليل المؤلّف لظاهرة التعصّب التي ابتُليت بها المجتمعات العربية.
يقول مثلا: إن جوهر التعصّب لا يكمن في اتخاذ الإنسان موقفا شخصيا من قضيّة ما، بل في توحيد الفرد لنفسه مع رأي الجماعة التي ينتمي إليها وإعلائه هذا الرأي فوق آراء أيّ جماعة أخرى. فالمتعصّب في واقع الأمر يمحو شخصيّته وفرديّته ويذيب عقله ووجدانه في الجماعة التي ينتمي إليها بحيث لا يحسّ بنفسه إلا من حيث هو جزء من هذه الجماعة. ولو كان يؤكّد نفسه بوصفه فردا له شخصيّته المميّزة لما أصبح متعصّبا.
إن التعصّب يلغي التفكير الحرّ والقدرة على التساؤل والنقد ويشجّع قيم الخضوع والطاعة والاندماج. التعصّب ليس موقفا تختاره بنفسك، بل موقف "تجد نفسك فيه".
ويضيف الدكتور زكريّا: التعصّب بكافّة أشكاله يشترك في سمات واحدة: الانحياز إلى موقف الجماعة التي ننتمي إليها دون اختيار ودون تفكير، والاستعلاء على الآخرين والاعتقاد أنهم أحطّ منّا، وإغلاق أبواب عقلك ونوافذه حتى لا تنفذ إليه نسمة من نسمات الحرّية".
وشبيه بكلام الدكتور زكريّا عن التعصّب والتفكير الأحادي قول قرأته للمفكّر السعودي إبراهيم البليهي إذ يقول: إن الإنسان المطموس الفردية لا يفكّر ككائن مستقل، وإنما هو مبرمج على نمط من التفكير لا يخرج عنه. لذلك يبقى تفكيره دائريا واجتراريا. ويظلّ مغتبطا بهذا الاجترار، يتباهى به ويستميت دفاعا عنه ولا يقبل أن يوضع موضع التساؤل أو التحليل أو المراجعة".
يمكن القول أن الفينغ شوي عبارة عن منظومة من النصائح والإرشادات التي توصّل إليها الصينيون القدامى والتي تهدف إلى تمكين الإنسان من العيش مع نفسه ومع بيئته المكانية بتناغم وانسجام.
هذه الفلسفة تتحدّث، ضمن أمور أخرى، عن الألوان وصفاتها وتأثيرها على حياة ومزاج الإنسان. وقد لفت انتباهي ما ورد من حديث عن اللون الأزرق. يقول الكتاب: الأزرق هو لون التناغم والسلام والتفاني والإخلاص. هو لون هادئ إجمالا، وتدرّجاته الخفيفة تضفي رحابة على مساحة المنزل وآفاقا أوسع للتفكير. الأزرق لا يتمتّع بجلاء انعكاسي كبير، لذا يبدّد أشعّة الشمس ويخفّف من وهجها في غرف المنزل ويترك لمسة منعشة تبعث الهدوء في النفس والصفاء في التفكير. الأزرق المائل إلى الخضرة لون محفّز جدّا، فهو يبعث على النشاط والحيوية ويوحي بالغرابة في الوقت نفسه. كما انه يرتبط بالأحجار الثمينة النادرة كالفيروز واللازورد. ورؤية الأزرق في المنزل تساعد على الحدّ من التوتّر وارتفاع ضغط الدم. كما انه يساعد على التخلّص من التشنّج والأرق.
هذا ما يقوله الفينغ شوي عن الأزرق. لكن ماذا عن الأحمر؟ اللون الذي لاحظت أن الصينيين يميلون لاستخدامه كثيرا وفي بعض الأحيان يمزجونه إمّا بالأصفر أو الذهبي خاصّة في معابدهم وفنادقهم ومطاعمهم.
الأحمر، يقول الكتاب، من أكثر الألوان حرارة ودفئاً. فهو يرتبط بالحيوية والنشاط والمغامرة .كما انه يرمز إلى الخطر، وهذا هو السبب في انه يُستخدم في أضواء سيّارات الإسعاف وإشارات المرور.
ويضيف: الآثار المنبّهة والمحفّزة للأحمر تستوجب الاقتصاد في استخدامه. صحيح انه يضفي حميمية وراحة على الغرف، إلا انه بنفس الوقت يبعث على الإحساس بالضيق ويوحي بصغر الحيّز أو المكان. وقد ثبت أن الأحمر يفتح الشهيّة، فمن منّا لا يسيل لعابه عند رؤية حبّات الفراولة أو الكرز الحمراء؟! لهذا السبب تعمد المطاعم إلى اختيار الأحمر لديكوراتها الداخلية كي يقبل الزبائن على الأكل والاستمتاع به. كما أن اختيار الأحمر لغرف الطعام دليل على رحابة صدر ربّ المنزل وكرمه وحسن ضيافته، شرط أن لا يكون هذا اللون طاغياً أو ثقيلا. ويُفضّل أن يُمزج بالأبيض كي يصبح أكثر هدوءاً وأقلّ حدّة.
تُرجم هذا الكتاب إلى العربية بتوصية من العالم المصري الراحل الدكتور احمد مستجير، وتولّى ترجمته إبراهيم محمد إبراهيم.
يتحدّث عالم الفلك والفضاء الأمريكي الراحل كارل ساغان في هذا الكتاب عن ما يسمّيه بالعلم الزائف. ويتّخذ موقفا مناوئا من كلّ ما له علاقة بالأفكار غير العقلانية التي تنشأ على هامش الدين، من قبيل الدجل والخرافة والسحر والتنجيم والحسد وتحضير الأرواح وما إلى ذلك.
الكتاب غني جدّا بالمعلومات والأفكار، كما انه مكتوب بلغة سلسة وجذّابة. لكنّ ما يلفت الانتباه على وجه الخصوص، وهو أمر يُحسب لمن أوصى بترجمة الكتاب، هو أن هذا المؤلّف الضخم نُقل إلى العربية بأمانة تامّة ودون أن يُحذف منه حرف واحد. وقد خُصّص في نهاية كلّ صفحة بيان بالملاحظات التي رأى المشرفون على الترجمة أنها تتنافى مع موقف الأديان من بعض المسائل التي أثارها المؤلّف. هذا الكتاب يقدّم نموذجا ممتازا في ترجمة الكتب العلمية بعيدا عن أسلوب المصادرة والمنع، استنادا إلى الحجّة الواهية القائلة بأن مثل هذه النوعية من الكتب يمكن أن تبلبل أفكار الناس أو تفتنهم في عقائدهم.
يقول المترجم في مقدّمة الكتاب: لو قدّمنا للقارئ حلو هذا الكتاب دون مُرّه، فكأننا نقول للقارئ العربيّ إن كلّ ما يجيء من الغرب رائع ومثاليّ وعليك أن تأخذه وأنت مغمض العينين. إذن لا بدّ وأن نعوّد العقل العربي، لا على الخمول والتراخي والتلقّي السهل البسيط، بل على تنمية ملكاته النقدية وقدرته على التمييز بين ما هو ضارّ ونافع.
مضمون هذا الكتاب لا يختلف عن مضمون كتاب ساغان الآخر "الكون". وأتصوّر أن كلّ من يتطلّع لمعرفة شيء عن الظواهر والقوانين الفيزيائية الأساسية أو عن بدايات تشكّل الكون والحياة على الأرض لا بدّ وأن يقرأ هذين الكتابين.
يمكن اعتبار مادّة هذا الكتاب امتدادا لأفكار المؤلّف التي عبّر عنها في كتابه الآخر "وعّاظ السلاطين". فهو هنا أيضا ينقد بعض المقولات والأفكار القديمة ويبيّن مدى انسجامها مع واقع العرب والمسلمين المعاصر.
في بعض ثنايا الكتاب لاحظت أن الدكتور الوردي استخدم تعبير "الخليج الفارسي" أكثر من مرّة. التفسير المحتمل لهذه الجزئية هو أن هذا المصطلح كان متداولا في ذلك الوقت باعتباره مصطلحا جغرافيا فحسب، أي قبل أن تُضفى عليه حمولات قومية وسياسية على غرار ما هو حاصل هذا الأيّام. لكنّ هذه تظلّ ملاحظة هامشية.
في هذا الكتاب يقدّم المؤلّف تحليلا لنشأة بعض الظواهر الاجتماعية والسياسية كالاستبداد والتعصّب. يقول مثلا: إن كلّ إنسان ميّال إلى الاستبداد والظلم حين يُترك على دست الحكم منفردا يحكم كما يشاء. ولو جئنا بإنسان تقيّ فاضل وسلّمناه مقاليد الأمور وقلنا له "احكم بين الناس بالعدل" ثمّ رضخنا له واتفقنا على طاعته، فإننا سنراه بعد زمن قصير أو طويل قد صار مستبدّا يشتري الجواري ويبني القصور من أموال الأمّة وهو يعتقد انه عادل".
وفي جزء آخر من الكتاب يورد الكاتب مثالا طريفا يؤكّد القاعدة التي تقول إن الطبع يغلب التطبّع. يقول: حدث مرّة أن شخصا علّم القطط أن تحمل الشموع له على مائدة الطعام. فجاء احد ضيوفه وهو يحمل في احد جيوبه فأرا ثم أطلقه على المائدة. وسرعان ما انطلقت القطط وراءه ورمت بالشموع على المائدة لتحرقها وتحرق من كان يأكل منها".
ويضيف: إن الذي يريد أن يغيّر طبيعة الإنسان بواسطة المواعظ والكلام المجرّد لا يختلف عن هذا الذي علّم القطط حمل الشموع. فالناس يستمعون له ويتأدّبون أمامه ويسيرون بين يديه بوقار كأنهم أنبياء. لكن لا تكاد ترمي إليهم بشيء ثمين حتى ينطلقوا وراءه متكالبين، إذ ينسون ما قاله لهم الواعظ وبماذا أجابوه".
وفي جزء آخر يعلّق الوردي على آراء بعض الفلاسفة الذين ينسبون لأنفسهم الكمال والعصمة فيقول: يعتقد ابن رشد أن الفلاسفة إذا اختلفوا في شيء ردّوه حالا إلى دليل العقل وحجّة المنطق وخضعوا إلى الرأي الذين يرونه معقولا. إنهم، على زعم ابن رشد، يستنيرون بنور العقل والمنطق. وليس هناك سخافة أبشع من هذه التي يقول بها ابن رشد وأمثاله من المفكّرين الطوباويين. نسي ابن رشد أن الفلاسفة لا يختلفون عن غيرهم من الناس في طبيعتهم البشرية. فهم لو اجتمعوا لتنازعوا وتناحروا ولعن بعضهم بعضا كما يفعل العوامّ والسوقة تماما".
في هذا الكتاب يقدّم المؤلّف قراءة معاصرة للدولة والمجتمع ويشرح أنواع الاستبداد العقائدي والفكري والاجتماعي والمعرفي والاقتصادي والسياسي في المجتمعات العربية والإسلامية.
حديث الكاتب عن الاستبداد العقائدي مثير للاهتمام والتفكير بشكل خاص. يقول: الاستبداد العقائدي هو القناعة بأن أعمال الإنسان ورزقه وعمره مكتوبة عليه منذ الأزل، وهذا ما يجب أن نرفضه جذريا. ذلك لأن الله سبحانه لم يكتب على زيد منذ الأزل أن يكون غنيّا، وعلى عمرو أن يكون فقيرا. ولكن يوجد في علم الله منذ الأزل الغنى والفقر كضدّين. أمّا من هو الغنيّ ومن هو الفقير، فهذا غير مكتوب على احد. بل هي إرادة الإنسان التي تعمل ضمن قوانين ربّ العالمين والتي تجعل الغنيّ غنيّا والفقير فقيرا".
ويضيف الكاتب قائلا: علينا أن نعلم أن الله لم يكتب الحكم لمعاوية منذ الأزل، ولم يكتب الهزيمة على عليّ منذ الأزل، ولم يكتب أن يحكم المماليك مصر ويذلّوا شعبها بالفقر حتى يأكل الجيف. فإذا وضعنا هذا في قناعاتنا، وأن هناك حسابا وأن ما يقع من ظلم واضطهاد ليس مكتوبا منذ الأزل، وأن الذي يضطهدنا ويستعمرنا قد فعل ذلك بإرادة شخصية منه، وأن الظلم والعدل متكافئان في علم الله تماما، نستطيع عندها أن نتغلّب على ما في أنفسنا من عقد وأن نحاسب الآخرين وأن لا ندع أحدا يقوم باضطهادنا وتجويعنا وإذلالنا".
ويختم المؤلّف حديثه عن الاستبداد العقائدي بالقول: لقد لعب هذا النوع من الاستبداد الذي تمّ ترسيخه ابتداءً من العصر الأموي دورا هامّا في تهميش الناس على صعيد الدولة والسلطة. وما زال يلعب الدور نفسه في العالمين العربي والإسلامي بترسيخ القناعات الجبرية في أذهان الناس وضمائرهم على أنها جزء من العقيدة الإسلامية وبتحويلهم إلى مطاوعين لكلّ سلطة مهما كانت مستبدّة وجعلهم يربطون كلّ ما يحدث بإرادة الله".
الذي يقرأ هذا الكتاب قد يتوه وهو يحاول معرفة الفرق بين ما يسمّيه المؤلّف الكتاب والتنزيل في معرض حديثه عن القرآن. لكن هذا لا يقلّل من أهمّية الكتاب ومن جرأة صاحبه في اقتحام العديد من القضايا المسكوت عنها أو المختلف عليها.
يناقش هذا الكتاب تطوّر الموسيقى عبر العصور المختلفة. كما يتناول بالشرح والتحليل جماليات الموسيقى وأعلامها الكبار وعناصر التذوّق الموسيقي. كلّ هذه الأمور وغيرها يناقشها الكاتب بأسلوب العارف والخبير وبلغة لا تخلو من جمال وشاعرية.
لكنّ المشكلة أن مضمون الكتاب مقتصر على الموسيقى الكلاسيكية الغربية، ويكاد يخلو تماما من أيّ إشارة إلى الموسيقى العربية أو الشرقية.
وقد قرأت في الكتاب بعض أجمل ما كُتب عن خصائص موسيقى تشايكوفسكي. يقول السيسي: أنغام تشايكوفسكي منبع نادر للخصوبة اللحنية والتعبير القويّ الأخّاذ والتشكيل الانفعالي، حتى أنه يضع المستمع في قبضته ويعتصره في ذروة الانفعال ثم يتركه منهكا مسترخي الأعصاب ومتفلسفا مع الحياة". ثمّ يتحدّث عن العلاقة العاطفية التي ربطت تشايكوفسكي بالسوبرانو البلجيكية ديزيريه آرتو التي كانت من أشهر مغنّيات الأوبرا في ذلك الوقت. يقول: كانت آرتو تكبره بخمس سنوات. وقد تعلّقت به وتعامل هو معها بخجل وحياء. ولم يكن هناك من يتصوّر رجلا أعزب لا يتعلّق بهذه المغنّية، خاصّة وقد أظهرت له الإعجاب الشديد. ولكن تشايكوفسكي تعلّل بأنه يخشى على حياته الموسيقية من الزواج، كما أنه لا يريد أن يكون زوجا لامرأة مشهورة. وقد تزوّجت بعد ذلك بعام فقدت خلاله كلّ أمل لها بالارتباط بـ تشايكوفسكي. إلا أن علاقتهما الأفلاطونية استمرّت بعد ذلك لسنوات طويلة".
وبما أن ختام الحديث كان عن الموسيقى، قد يكون من المستحسن إنهاء هذه الخواطر بشيء من الموسيقى، وبالتحديد موسيقى المقامات والموشّحات.
هنا مجموعة من القطع التراثية المختارة لسيّد درويش، وهي من عزف وأداء فرقة بيروت للموسيقى العربية. وكلّ عام والجميع بخير.
يا ترى بعد البعاد
يا عذيب المرشف
يا بهجة الروح
يا شادي الألحان
صحت وجدا
منيتي عز اصطباري
سالمة يا سلامة