هناك من العبارات ما يستدعي للذهن عوالم كاملة من صور ورحلات وذكريات، سواءً كانت حقيقية أو متخيّلة. وطريق الحرير هو إحدى هذه العبارات. مجرّد ذكر اسمه يستحضر مناظر لقوافل تمرّ عبر صحارٍ وواحات خالدة، وجِمالٍ محمّلة بنفائس الحرير، ورجالٍ وسيمي الوجوه، تشعّ أعينهم بالبريق يرتدون العمائم ويحملون الياقوت واللآليء والتمور والزعفران والفستق من بلاد فارس، والزجاج من مصر، والصِبر وخشب الصندل وشتّى أنواع العطور من الجزيرة العربية.
طريق الحرير، أيضا، ما أن يُذكر اسمه حتى تتوارد إلى الذهن إيحاءات وأفكار عن التسامح وامتزاج الحضارات. أصبحت هاتان المفردتان نوعا من مصطلحات العصر الجديد وباتت دلالتهما تخترق كلّ شيء، من الموسيقى العالمية إلى كتب الطبخ النباتي.
صورتنا الذهنية عن طريق الحرير قد تكون تشكّلت، إلى حدّ كبير، من خلال مكتشفين جغرافيين من أمثال اوريل ستين وسفن هيدين اللذين أعادا اكتشاف كنوز المنطقة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. تلك القصص المثيرة ألهمت في ما بعد سلسلة المغامرات التي يقوم ببطولتها علماء آثار أسطوريون من قبيل ما عرضه فيلم انديانا جونز لـ ستيفن سبيلبيرغ.
الرومانسية المرتبطة بطريق الحرير يمكن عزوها إلى ماركوبولو. فالمكتشف الايطالي كان عمره سبعة عشر عاما فقط عندما بدأ رحلاته إلى الصين عبر طريق الحرير القديم. وما رآه كان عصيّا على الوصف أو التخيّل. وقد عاد إلى بلاده بمجموعة من الكنوز كان أكثرها إدهاشا قصصه التي سجّلها في كتبه.
يصف ماركوبولو الطريق من بغداد إلى الصين موصلا إحساسا بالدهشة والإثارة. فالعالم الجديد الذي رآه كان كلّ شيء فيه يبدو غريبا ومختلفا.
كان لـ ماركوبولو روح شاعر. تأمّل هذه الكلمات التي كتبها واصفا الترحال في الصحراء. "عندما يكون الإنسان مسافرا في هذه الصحراء ليلا ويباغته النوم لسبب ما وينفصل عن رفاقه، فإنه يسمع أصواتا لأرواح تتحدّث بألسنة رفاقه وأحيانا تناديه باسمه. وكثيرا ما تستدرجه هذه الأصوات بعيدا عن الطريق الذي قد لا يهتدي إليه أبدا بعد ذلك. والكثير من المسافرين ضاعوا وماتوا لهذا السبب. وفي الليل قد يسمع المسافر ضوضاء من بعيد وربّما يخيّل إليه أنها أصوات رفاقه الذين أضاعهم. وعندما يتوجّه إلى مصدر الأصوات لا يتبيّن له فداحة خطئه إلا عندما يبزغ نور الصباح. وبعض الذين كانوا يعبرون الصحراء ليلا، رأوا جماعة من الرجال يأتون باتجاههم. وبدافع الخوف من أن يكونوا لصوصا، هربوا ليجدوا أنفسهم وقد ابتعدوا عن الطريق وتاهوا. وحتى في ضوء النهار قد تسمع أصوات الأرواح ويُخيّل إليك كما لو انك تستمع إلى أصوات آلات موسيقية أو إلى قعقعة سلاح".
في كتابه "ظلال طريق الحرير" يسجّل كولين ثوبرون وقائع رحلته على طول أعظم طريق برّي على الأرض. من قلب الصين إلى جبال آسيا الوسطى، وعبر شمال أفغانستان وسهول إيران إلى تركيا الكردية، يغطّي ثوبرون حوالي سبعة آلاف ميل في ثمانية أشهر. وهو يستخدم في ترحاله أنواعا شتّى من وسائل المواصلات من الحافلات والشاحنات إلى السيّارات والعربات التي تجرّها الجمال والبغال. ويسافر من قبر الإمبراطور الأصفر، الأب الأسطوري للشعب الصيني، إلى ميناء أنطاكيا القديم في رحلة ربّما تكون أصعب أسفاره التي دامت أربعين عاما.
طريق الحرير هو شبكة ضخمة من الشرايين التي تتقاطع وتتلاقى عبر اتساع القارة الأسيوية. ولكي تسافر عبر هذا الطريق، يلزمك أن تتذكّر أنه لم يكن طريقا للتجارة والجيوش فقط، وإنما للأفكار والاختراعات والأديان أيضا. لكن إلى جانب استعراض هذا الماضي الثريّ والمدهش، فإن الكتاب يحكي أيضا عن آسيا اليوم وما تشهده هذه القارّة الكبيرة من مشاكل واضطرابات.
إحدى أهم السمات التي تميّز كتب كولين ثوبرون عن الأسفار هي جمال نثره. والسمة الأخرى هي موهبته في الحديث إلى الناس وحملهم على التحدّث إليه. وكتابه هذا يتحدّث عن البلدان الإسلامية من نواح كثيرة. كما يتناول التغييرات في الصين وما شهدته من تحوّلات منذ الثورة الثقافية. أيضا يتطرّق الكاتب إلى القوميات المزيّفة والمهمّشين والساخطين في العالم، حيث الحدود الحقيقية ليست حدود الجغرافيا والسياسة، وإنما تلك التي ترسمها القبيلة والعرق واللغة والدين.
طبقا للفيلسوف الانجليزي من القرن السابع عشر فرانسيس بيكون، هناك ثلاثة أشياء يمكن القول إنها هي التي خلقت عصر النهضة الأوربّية: الطباعة، والبارود والبوصلة المغناطيسية. وكلّ هذه الاختراعات الثلاثة ظهرت أوّل ما ظهرت في الصين. ثم أخذت طريقها إلى أوربّا عبر طريق الحرير، جنبا إلى جنب مع عجلات الغزْل ونبات الراوند والرِكاب المعدني، وبطبيعة الحال، الحرير.
وسارت في نفس الاتجاه أيضا العربات والأواني الزجاجية والذهب والتوابل والأقمشة الصوفية والعبيد وطيور الطاووس والكحل والعنبر، وكذلك البوذية والإسلام والمسيحية النستورية.
وقد انتظم النستوريون الصينيون على طول طريق الحرير متّجهين إلى أوربّا على أمل أن يحوّلوا البابا وملك انجلترا إلى ديانتهم.
والشيء المدهش في أمر كلّ هذه الحركة التي استغرقت ألفي عام هو انه لم يكن هناك شيء اسمه طريق الحرير. فهو مصطلح ابتكره جغرافيّ ألماني في القرن التاسع عشر ليصف به شبكة واسعة من الطرق ومسارات الإبل ودروب تتفرّع في كلّ اتجاه بين تشانغان في الصين والبحر المتوسط.
ومنذ أيّام الدولة الرومانية في الغرب وسلالة هان الصينية في الشرق وحتى ما قبل خمسمائة عام فقط، أي عندما أغلقت سلالة مينغ الصينية حدودها، فإن نصف سكّان الأرض كانوا يتبادلون السلع والأفكار والأديان وحتى البشر على طول هذه الشبكة الكبيرة والمعقّدة من الطرق.
كان طريق الحرير والحضارة شيئا واحدا من الناحية العملية. وبعد أن أسّس المغول امبراطوريّتهم على طول الطريق في القرن الثالث عشر، قيل إنه لمائة عام كان بوسع أيّ امرأة تحمل الذهب والجواهر أن تمشي لوحدها من الصين إلى تركيا دون أن تتعرّض لأيّ أذى. ومعظم طريق الحرير يقع اليوم ضمن دار الإسلام. لكن المؤسف، بحسب المؤلف، انه لا يمكن لأيّ امرأة اليوم أن تذهب بعيدا على هذا الطريق دون أن تتعرّض للمشاكل، سواءً كانت تحمل أو لا تحمل ذهبا".
القصص التي يحكيها كولين ثوبرون في كتابه تحمل شهادة كئيبة عن العنف والبؤس والفقر الذي كان يلفّ الجميع تقريبا، عدا حكام الإمبراطورية، على طول الطريق بل وعلى مرّ التاريخ كلّه. ويصف الكاتب المذابح وعمليات الاضطهاد وحروب الإبادة والإخفاء عن وجه الأرض التي لم تتوقّف أبدا.
أوزبكستان الحديثة، مثلا، قامت للتوّ بإعادة تيمورلنك إلى الحياة باعتباره بطلا قوميا، على الرغم من انه لم يكن اوزبكيا أصلا.
ويتجوّل المؤلف عبر الطبيعة المدمّرة ومناطق الحروب وبين المدن "التي هي أفضل قليلا من زرائب الخنازير". ويتذكّر الممالك الضائعة وقصورها الفخمة المتألقة والمحتشدة بالعلماء والفنّانين والموسيقيين. في واحة كوتان في تركستان الصينية، يخبرنا ثوبرون عن الأديرة القديمة وعن أسراب الطيور والطبيعة الخلابة. لكن اليوم لم يبق شيء من هذه الجنّة البوذية، وحلّ مكانها حزن مخيّم يعكسه سكون الرمال.
حتى اللغة المشتركة لطريق الحرير "السوغديانية" لم تعد موجودة إلا في بضع قرى من تاجيكستان. مع انه قبل بضع مئات من السنين فقط، كانت هذه اللغة تتردّد في مساحات واسعة من آسيا بحجم الإمبراطورية الرومانية.
يسافر كولين ثوبرون عبر سلاسل جبال شاهقة وصحارى ممتدّة وذات جمال وحشي. ويصبح نثره أثيريا تقريبا وهو يحاول إيصال الإحساس بهذا الجمال وسط كلّ تلك الخرائب التي تبدو بلا نهاية. وأثناء ذلك لا يكفّ عن البحث عن المعابد والأديرة والقبور وبقايا القصور من الأزمنة القديمة والتي يعرف الكثير من قصصها وحكاياتها الحميمة. غير أن البلسم الحقيقي وسط تلك الوحشة واليأس هي أحاديثه وحواراته مع الناس العاديين الذين يلتقيهم أو ينجذب إليهم.
وبفضل إجادته للانجليزية والروسية والصينية، ينسج الكاتب حيوات مجموعة مذهلة من أصدقائه القدامى وبعض من تعرّف عليهم مصادفة في رحلته هذه. من بين هؤلاء ناجون من الثورة الثقافية في الصين، وفلاحون من قرغيزستان، ومجموعة من الشباب الإيرانيين المتمرّدين، وقرويون شقر وذوو عيون عسلية من قرية في أقصى غرب الصين يعتقدون أنهم من نسل الجنود الرومان الذين بيعوا في سوق العبيد قبل ألفي عام. على طول طريق الحرير، يبدو من المستحيل الفصل بين ما يؤمن به الناس وما يعتقده المؤرّخون.
أسلوب المؤلف تأمّلي غالبا وقديم الطراز أحيانا. ولا يخلو سرده من رومانسية وشاعرية، خاصّة عندما يتحدّث عن أباطرة طريق الحرير القدماء.
ولا بدّ وأن ثوبرون كان يعرف أن كتب الرحلات لا تبيع كثيرا هذه الأيّام. وفي محاولة لإنعاش هذا النوع من الكتابة، ضمّن المؤلف كتابه حوارات تخيّلية بينه وبين بعض التجّار الذين سلكوا الطريق في الماضي.
لكن، خلف الأسلوب الجميل يكمن إحساس بالفقد والحنين. في مدينة القوافل "سمرقند"، يكتشف أن الحرير والذهب التتاري استُبدل بالأقراص الرقمية التي تحوي أفلاما إباحية مستوردة من الغرب. ويعلّق قائلا: بعد أن لوّثتهم قيم الرأسمالية، ترى ما الذي سيحلّ بأهل سمرقند"؟!
وبنفس الإحساس، يكتب عن مدينة الريّ التاريخية. "في العصور الخوالي، كانت الريّ مدينة القوافل الفارسية بقصورها الفارهة وتجارتها المزدهرة. كانت تقارن ببغداد في ذروة ازدهار طريق الحرير. هذه الأيّام، الريّ ليست أكثر من ضاحية صغيرة في جنوب طهران؛ المدينة الملوّثة التي يعيش فيها 14 مليون نسمة والتي تضاعف عدد سكّانها خلال العشرين عاما الماضية. الغريب انه في أوج شهرة الريّ، لم تكن طهران نفسها موجودة."
في بعض ثنايا الكتاب يقيم المؤلّف حوارا متخيّلا مع شريك له يظهر في أوقات معيّنة من الرحلة. والشريك تاجر ينتمي إلى قوم كانوا يعيشون في إحدى إمبراطوريات آسيا الوسطى التي استفادت كثيرا من موقعها الذي كان يتوسّط طريق الحرير القديم.
يسأل التاجر المؤلّف في احد حواراتهما: ما سبب هذا الافتتان بالأديان الغريبة؟ هل يعود السبب إلى انك فقدت دينك؟
"في البداية لم أجد إجابة. السبب قد يكون مرور الزمن. عندما تكون شابّا، قد لا تهتم. من الصعب أن تهتمّ بهذه الأمور. لكن الآن هناك الكثير ممّن ماتوا. الذين تحبّهم يأخذون عند موتهم جزءا منك. لذا يظلّ للأرض النقيّة جمالها الخاصّ كما لو أنها مكان عشنا فيه ذات مرّة، لكنه ضاع. ومع ذلك نتذكّره بشيء من الحنين".
أثناء زيارته لكلّ من قيرغيزستان واوزبكستان يجد المزيد من المفارقات الحيّة، مثل الجدّة الاوزبكية التي تمجّد ستالين على الرغم من انه قتل والدها وزوجها.
الأمور البشعة لا تقتصر على الماضي القريب. فالمؤلّف يحكي قصصا عن الجزّارين الكبار في ماضي آسيا الوسطى؛ عن تيمورلنك وأهرامات الجماجم وتدمير المغول لـ بلخ وطوس ونيسابور والريّ. "لم يكن الضحايا يُدفنون في الخرائب بل كان يُقضى على كلّ اثر لهم. كان المغول يجمعون سكّان المدن خارج البوّابات، الرجال والنساء والأطفال، ثم يقومون بذبحهم جميعا. ولم يكونوا يوفّرون حتّى الكلاب والقطط . كانوا يعمدون إلى حرث الجثث وجرفها داخل الأرض لإخفاء كلّ اثر لها".
في احد أجزاء الكتاب يخبرنا المؤلّف أن نقطة بدء طريق الحرير هو جيان الصينية التي يقوم فيها سوبر ماركت يعلوه إعلانان عن البطاقات الائتمانية. "في كشغر أقيم حديثا فندق يؤمّه بعض التجّار الباكستانيين الذين يأتون عن طريق كاراكورم ليشتروا أجهزة التلفزيون والشاي. وهم يروحون ويجيئون في أيّام العطلات حيث يتحرّرون من أفكارهم الطُهرانية مؤقّتا كي يشربوا الخمر ويتعقّبوا النساء.
ترى هل يختلف الأمر عمّا كان عليه الحال هنا منذ آلاف السنين"؟
على أن بعض أجمل الحوارات في الكتاب هي تلك التي يجريها المؤلّف في إيران. الإيرانيون الذين قابلهم يتساءلون عن مكانهم في العالم، مؤكّدين على خصوصيّتهم الثقافية. لكنّهم يعبّرون عن إحباطهم وسخطهم من الإنهاك الذي أصابهم بسبب الايديولوجيا الحكومية. حميد، ذو التسعة عشر عاما، يتساءل عن طهر بلده الذي يخرّبه الغرب. نصف عدد النساء في جامعته ينمن مع الرجال، كما قال. ومثل معلّمه في تبريز، فإن حميد تؤرّقه مسألة عفّة المجتمع. هذا الوسواس جرّد كلّ شيء من حوله من لونه الخاصّ. وقد بدأ حميد يأسرني. هو يكره الغرب لكنه معجب به. "بريتني سبيرز هي مطربتي المفضّلة، إذهب إلى موقعها الاليكتروني واحصل على كلّ شيء. ثم جينيفر لوبيز، هل تعلم أنها أمّنت على مؤخّرتها بمبلغ مليوني دولار"؟
ويتمتم حميد بكلمات أغنية تقول: كيف يمكنني أن أبقى ليلة بدونك. أيّ نوع من الحياة تلك. احتاجك بين ذراعيّ"!
يمكن القول إن كولين ثوبرون كاتب جريء إلى درجة التهوّر، وهو لا يتردّد في اقتحام أكثر الأماكن حرمة وخطورة. من هذه الأمكنة مسجد إيراني مزدحم ومغلق أمام الكفّار، وأرض وعرة يسيطر عليها جماعة من قطّاع الطرق في أفغانستان.
طريقة الكاتب في سرد تفاصيل أسفاره ممتعة وفاتنة. لكن لغته أحيانا تكتسي بنوع من الحزن. ترى هل كان تعبه من العالم هو الذي دفعه للقيام بهذه الرحلة غير العادية؟
وأحيانا تحسّ أن الكتاب هو عن الناس الذين قابلهم الكاتب أكثر من الأمكنة التي زارها. وسواءً كان من التقاه رجل أعمال متفائلا من جيان، أو قوميا اويغورياً غاضبا من كشغر، أو مزارعا فقيرا من إحدى قرى غانسو، فإن حكاياتهم جميلة ودافئة وتدخل القلب.
الكتاب نفسه تشعر وأنت تقرؤه انك تطالع رواية مليئة بالأوصاف المدهشة والشخصيات الملوّنة. "في الخارج، كانت نتف الثلج ما تزال تتساقط. وفي السماء البيضاء، تركت الجبال وراءها آثارا من حجارتها مثل رقائق بيضاء معلّقة في الفراغ". "مترجم بتصرّف".