:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الأربعاء، ديسمبر 22، 2010

ميغرين: مزوّر اللوحات الأشهر

وُلد هان فان ميغرين في هولندا عام 1889 وكان مفتونا بالرسم منذ طفولته. كان من عادته أن ينفق كلّ ما في جيبه من نقود على شراء مستلزمات وعدّة الرسم. وقد كوفيء وهو صبيّ على موهبته الفنّية بمنحه ميدالية ذهبية بعد انتهائه من رسم ديكور إحدى الكنائس.
وفي احد الأيّام رأته زوجته وهو يستنسخ لوحة كي يبيعها على أساس أنها أصلية. وقد ثنته الزوجة عن ذلك العمل. لكن تلك الحادثة كانت أوّل مؤشّر على اهتمام ميغرين الجدّي بالتزوير.
وانتقل ميغرين وزوجته بعد ذلك إلى لاهاي حيث درس فيها ونال درجة البكالوريوس في الفنّ عام 1914م. وخلال العشر سنوات التالية كان يرسم ويبيع لوحاته بأثمان معقولة. وكانت رسوماته وقتها عبارة عن مناظر داخلية ولوحات دينية وأحيانا بورتريهات.
وكان اتجاهه السياسي كاثوليكيا ومعاديا لليهود ومتحفّظا إلى درجة الفاشيّة. كما كان معارضا لكافّة الاتجاهات الحديثة في الفنّ. ورغم انه لم يكن غير ناجح كفنّان، إلا أن النقّاد كانوا سلبيين تجاه أعماله. لذا نفر منهم وأصبح يشعر بالمرارة تجاههم وتجاه مروّجي الرسم الحديث.
وبعد فترة أدرك ميغرين انه لن يحقّق كرسّام ما كان يصبو إليه من نجاح ومجد. لذا قرّر أن يحترف تزوير اللوحات الفنّية. والغريب أن مهنته الجديدة جلبت له قدرا كبيرا من الثروة والشهرة.
واليوم يقترن اسمه بشكل وثيق باسم يوهانس فيرمير الرسّام الهولندي الذي كان ميغرين يقلّد لوحاته.
لكن لماذا فيرمير بالذات؟ السبب هو انه لم يكن يُعرف الكثير عن حياة فيرمير. فتاريخ مولده ووفاته على وجه الدقّة ما يزال مجهولا. ثم إن فيرمير لم يحصل في زمانه على التقدير الذي كان يستحقّه. وهناك سبب آخر وهو أن الناس مختلفون حول عدد مجموعته الكاملة من اللوحات. وظلّ العدد يتغيّر باستمرار إلى أن استقرّ في مطلع القرن الماضي عند خمس وثلاثين لوحة.
كان ميغرين يدرك أن الناس في شوق لرؤية المزيد من لوحات فيرمير المجهولة. وكانت جميع لوحاته لا تحمل تواريخ. وهذا بالضبط هو حلم أيّ مزور. وصور فيرمير المشهورة والتي رسمها في ستّينات القرن السابع عشر، مثل الفتاة ذات القرط اللؤلؤي وصانعة الدانتيل وامرأة تمسك بميزان، كانت تتضمّن علامة فيرمير الفارقة وأسلوبه المميّز والذي يحمل بصمة معلّم قديم.
كانت مهمّة ميغرين فعّالة دون شك. وقد أخذ دروسا ساعدته على أن ينجح في أولى لوحاته المزوّرة والمنسوبة لـ فيرمير بعنوان سيّدة ورجل أمام ارغن. وتلقّى على اللوحة ثناءً فوريّا من مؤرّخ الفنّ البروفيسور ابراهام بريديوس الذي قال عن اللوحة أنها عمل أصيل من أعمال فيرمير.
في السنوات الأربع التالية، كان ميغرين يعيل نفسه من خلال رسم البورتريهات. لكنه كان أيضا يدرس تقنيّات الطلاء الذي كان مستخدما في فنّ القرن السابع عشر وأنماط التشقّقات التي عادة ما تظهر بشكل طبيعي على أسطح اللوحات التي تعود لتلك الفترة. وقد تمكّن من إتقان التكنيك الذي وظّفه في عمليات التزوير الكبرى التي أجراها على فيرمير.

Meegeren paints Christ

استراتيجية ميغرين من وراء تلك العملية كانت ذكيّة. فقد سمع بعض النقّاد آنذاك يتحدّثون عن احتمال أن يكون فيرمير رسم لوحات دينية في بدايات حياته وأنها قد تظهر في المستقبل وأن فيرمير قد يكون ذهب إلى ايطاليا لدراسة هذا النوع من اللوحات.
وقد انتهز ميغرين الفرصة وحقّق للنقاد أحلامهم عندما رسم لوحة "المسيح في ايموس" التي يظهر فيها واضحا تأثير كارافاجيو، ومن ثمّ نسبَها إلى فيرمير.
وزيادة في الإقناع، اخترع ميغرين قصّة عائلة ايطالية فقيرة كانت تحتفظ بتلك اللوحة لأجيال. وزعم أن العائلة رفضت الكشف عن هويّتها. ثم قدّم اللوحة إلى احد متعهدّي الفنّ الهولنديين. وعندما رآها الناقد ابراهام بريديوس سقط في حبّها على الفور ونشر خبرا عن "هذه اللحظة الرائعة في حياة محبّ للفنّ"، كما كتب في إحدى المجلات. وأضاف: إن أمامنا لوحة تقول لنا بوضوح إن كل إنش فيها ينطق باسم فيرمير. إننا لا يمكن أن نجد في أيّ لوحة من لوحات المعلّم العظيم مثل هذه العاطفة والفهم العميق لقصّة الإنجيل التي لا يمكن أن يعبّر عنها سوى الفنّ الرفيع".
لكن كانت هناك شكوك حول اللوحة في بعض الأوساط. فقد وصفها احد متعهدّي الفنّ في نيويورك بأنها "تزوير متعفّن". لكن بفضل شهادة بريديوس عن أصالة اللوحة فقد بيعت إلى متحف بـ روتردام لقاء مبلغ مذهل قدره مليونا دولار أمريكي.
في تلك المرحلة، بدأ ميغرين يشعر بمعنى الثراء، فانغمس في تناول الكحول والمخدّرات وأصبح مدمنا على المورفين. ورغم انه كان يتوق للاعتراف بعمليات التزوير كي يذلّ النقّاد الذين تجاهلوه، إلا انه قرّر أن يزوّر لوحتين أخريين لـ فيرمير أثناء سنوات الحرب.
لكن لسوء حظّه، تمّ القبض عليه بعد أيّام من نهاية الحرب العالمية الثانية، لا بسبب كونه مزوّرا وإنما بتهمة اخطر هي بيع الكنوز الوطنية الهولندية إلى العدوّ. فقد أخذت إحدى لوحاته المنسوبة كذبا إلى فيرمير طريقها إلى المجموعة الشخصية للزعيم النازي هيرمان غورنغ.
ولكي ينقذ ميغرين نفسه من احتمال الحكم عليه بالتعامل مع العدوّ النازي، فقد اعترف انه مذنب بالجريمة الأقلّ خطرا، أي التزوير. كما اقرّ بأنه زوّر أربع لوحات حقيقية لـ فيرمير. لكنّ اعترافاته تلك ووجهت بعدم التصديق.
وقد شُكّلت لجنة للنظر في الأمر. بينما اقترح ميغرين نفسه القيام برسم لوحة جديدة لـ فيرمير وهو ما يزال في السجن بانتظار المحاكمة. واتضح بعد ذلك أن اللوحة رُسمت بنفس اليد التي رسمت اللوحات الأخرى المزوّرة.
وقد اجتذبت محاكمته وقتها تغطية عالمية واسعة. وصوّر ميغرين نفسه أثناءها كرجل محبّ للرسم، كما وضع اللوم على "النقّاد الخبثاء" الذين أرادوا تدمير مستقبله.
وفي النهاية حُكم عليه بالسجن سنة واحدة في نوفمبر 1947م. لكن نتيجة لانغماسه في حياة الترف والمجون ومعاناته من مرض القلب، تعرّض ميغرين إلى نوبة قلبية أودت بحياته في ديسمبر من نفس السنة.
عندما نتمعّن اليوم في اللوحات التي زوّرها ميغرين، فإننا لا يمكن أن نقارنها بلوحات فيرمير، ربّما باستثناء لوحة أو اثنتين. فنوعية الوجوه في هذه اللوحات تذكّر بالصور الفوتوغرافية . كما أن التشريح الدقيق فيها يذكّر أكثر بالتعبيريين الألمان في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي، وليس بعصر فيرمير.
إن قصّة ميغرين، بما تتضمّنه من عناصر الغرابة والجشع والتباهي والسذاجة والمهارة الفنّية والخبث وحتى الدعابة، تناولت بعض الإشكاليات التي ما تزال تؤرّق عالم الفنّ إلى اليوم.
ربّما لم يكن هان فان ميغرين رسّاما عظيما. لكنّه، من خلال ما فعل، جعل الناس يفكّرون بشكل أعمق في الأسئلة التي تتعلّق بماهيّة الفنّ والأسباب التي تدعو الناس إلى تقدير الأعمال الفنّية وتقييمها بشكل صحيح.

Credits
en.wikipedia.org