:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الأحد، ديسمبر 19، 2010

سرب يمام

"سبحان الله الذي أبدع كلّ شيء صنعا". قلت مردّدا بيني وبين نفسي وأنا أتطلّع عبر نافذة الطائرة إلى المنظر تحتنا.
كنّا قد اقلعنا وقت السحر. وها نحن نقترب من اللحظة التي ستشرق فيها الشمس. الأرض التي نعرفها لم نعد نراها. كلّ ما يمكن رؤيته كان عبارة عن تشكيلات غريبة من الغيوم في الأسفل.
كان هناك منظران يعلو كلّ منهما الآخر. المنظر السفلي بدا شديد الشبه بالصحراء مع مرتفعات هنا وهناك تشبه إلى حدّ كبير جبال الملح الضخمة.
والمنظر الذي تحتنا مباشرة كان يشبه بحرا عظيما تتوزّع وسط مياهه الزرقاء جزر أشبه ما تكون بجبال الجليد الهائلة. وأحيانا تتحوّل الصورة لتأخذ شكل أكوام ضخمة من القطن الناصع البياض. وبين كلّ كومة وأخرى انتشرت بقع متوهّجة كأنها حبّات ضوء في مغارات صامتة.
مرأى الغيوم من هذا الارتفاع يدفعك إلى النظر بعمق في ما وراء الطبقات. كلّ طبقة تخفي خلفها ما يشبه الجبل أو النهر أو الشجرة أو البحر. وكلّ واحد من هذه العناصر يبعد عن الآخر بما يكفي لأن يعطي المنظر عمقاً اكبر.
خامرني في تلك اللحظة شعور ساذج. تمنّيت لو أن قوانين الفيزياء تتعطّل بضع دقائق كي اخرج إلى هذا الفضاء الرحيب فأتنفّس بعض الهواء وألامس الغيم بيديّ العاريتين وأغرس قدميّ عند ابعد نقطة في الأفق.
بعد دقائق، لاحت على البعد بقعة أرجوانية صغيرة. ووراءها ارتفع حاجز أشبه ما يكون بالحائط العملاق وقد اصطبغ بلون برتقالي. اللون الأرجواني لم يلبث أن ارتفع عن خطّ الأفق، ثم بدأ يتّسع ويكبر إلى أن غمر المكان ضوء ساطع ومبهر.
منظر الشمس وهي تشرق من السماء منظر ساحر ويحبس الأنفاس. تذكّرت لحظتها حقول فان غوخ وسماواته الزرقاء والبقع الحمراء والبرتقالية والذهبية في خلفيّتها.
نظرت إلى الراكب الجالس بجواري وأشرت بيدي إلى المنظر خارج الطائرة. قال: الشمس؟ سبحان الله. منظر عجيب فعلا". واصلنا معا تأمّل المنظر بصمت لم يقطعه سوى وصول المضيفة. طلبت عصير برتقال. بينما امتنع جاري عن طلب شيء.
عدت إلى النافذة متأمّلا المنظر الذي أمامي.
وبعد دقائق التفت جاري نحوي فجأة وقال: هذا العصير بكم؟ قلت: ماذا تقصد؟ قال: عصير البرتقال الذي طلبته. كم دفعت مقابله؟ قلت: لم ادفع شيئا. هو من ضمن قيمة التذكرة. يبدو انك تركب الطائرة لأوّل مرّة". بدت على الشابّ ملامح الإحراج والارتباك وقال: صحيح. لم اركب الطائرة قبل الآن".
صمتّ قليلا وأنا أفكّر في مغزى سؤال الراكب الطيّب. قلت في نفسي: كلّنا، بشكل أو بآخر، نشبه هذا الشخص. ما أكثر ما نفرّط في أبسط حقوقنا ونتنازل عنها بسبب جهلنا بها. ولو أنّنا عرفنا حقوقنا جيّدا لسهُل علينا أن نتمسّك بها وندافع عنها في وجه كلّ من يحاول اغتصابها ومصادرتها. عدم وعي الإنسان بأبسط حقوقه هو في الواقع السبب الرئيسي في انه كثيرا ما يجري استغفاله وظلمه وتهميشه.
بعض هذه الحقوق أساسي ولا ينبغي التفريط بها بأيّ حال. حقّ الإنسان في الحياة والكرامة والعدالة والمساواة. حقّه في التنمية وفي اكتساب الوعي والقيم الايجابية. حقّه في رفض الفساد والاستبداد. وحقّه في التعبير عن رأيه بحرّية ودون وصاية من احد. حقّ التعبير حقّ مقدّس لأنه مرتبط بالحرّية. والحرّية هي أغلى ما وهبه الله للإنسان. وليس من حقّ احد أن يمنعها أو يصادرها تحت أيّ ظرف أو مبرّر.
عدت أحدّق من وراء النافذة. في ابعد نقطة من هذا الفراغ الواسع المهيب، خُيّل إليّ أنني أرى أجساما بيضاء تشبه في هيئتها وحركتها سربا من اليمام.
مرّت لحظات. كنت أراقب الشمس وهي ترتفع أكثر فأكثر، بينما كان السرب يتحرّك مبتعدا إلى أن اختفى تماما وراء الأفق.