:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الاثنين، يوليو 18، 2011

متاعب الطبقة الوسطى


كيف يمكن أن نعرّف الطبقة الوسطى في أيّ مجتمع؟
في الواقع لا يوجد تعريف شامل ودقيق لهذه الطبقة. لكن عافيتها تُقاس بنسبة ما يكسبه أفرادها من دخل ومدى الاستقرار الماليّ الذي يتمتّعون به. غير أن هذا رهن بتوفّر اقتصاد يحقّق نموّا معقولا ويولّد ثروة يستفيد منها أفراد هذه الطبقة بما يتناسب مع حجمها.
أما العوامل التي تؤثّر على أفراد هذه الطبقة سلباً فكثيرة. لكن أهمّها جشع قطاع الأعمال ووجود نظام تعليمي سيء وتضخّم البيروقراطية وتوزيع الدخل بطريقة غير عادلة.
منظّرو علم الاجتماع السياسي يقولون إن الطبقة الوسطى هي الحاضنة للفئات الحيّة في أيّ مجتمع، من ‏مثقفّين وتكنوقراط ومبدعين.‏
ويقولون أيضا إن اختفاء هذه الطبقة أو تلاشيها من شأنه أن يحكم على ‏أيّ مجتمع بالجمود، لأنها تختزن بداخلها كلّ الأفكار الحيّة التي تحفّز على التغيير والإصلاح والتجديد.‏
ويقال كذلك أن لا استقرار سياسيا أو اقتصاديا من دون طبقة وسطى ‏كبيرة ومنتجة ونشطة ومؤثّرة.‏
قبل فترة، شاهدت رسما كاريكاتيريّا شدّني لبلاغته ودقّة توصيفه ‏للواقع الاجتماعي. الفنّان رسم بناية ضخمة قسّمها إلى ثلاثة ‏طوابق:‏
العلوي: ومداه ضيّق جدّا ويمثّل الطبقة البورجوازية. ‏
والسفلي: وحجمه واسع، بل ويزداد اتّساعا، ويمثّل الطبقة الفقيرة ‏أو من يعيشون حياة الكفاف. ‏
وفي الوسط تستقرّ الطبقة الوسطى التي بدا أنها تضيق وتنكمش باطّراد.‏
أهمّ ما في ذلك الرسم البليغ هو منظر وسط البناية وأسفلها. إذ تبدو ‏الأعمدة والدعامات كما لو أنها تترنّح أو أنها في طريقها إلى الانهيار. ‏
البناء الآيل للسقوط هو رمز ليس فقط للمجتمع، وإنما للدولة أيضا. والمعنى المقصود هو أن تلاشي الطبقة الوسطى لا يصيب المجتمع في مقتل فحسب، بل يمكن أن يؤدّي إلى إضعاف كيان الدولة نفسها ومن ثمّ إلى احتمال اضمحلالها وسقوطها. فاتّساع دائرة الفقر بفعل تآكل الطبقة الوسطى وانتقال أفرادها إلى الطبقة المعدمة من شأنه أن يؤدّي إلى انتشار مشاعر الاستياء والسخط. وقد يمهّد لنشوء حالات من الصراع الطبقي والاضطراب السياسي، مع ما يعنيه ذلك من تهديد لكيان الدولة نفسها.
لا بدّ أن أقول هنا إن ذلك الرسم الكاريكاتيري لا يتحدّث عن بلد أو ‏مجتمع بعينه، وإنما يجسّد واقعا عالميا ماثلا للعيان يستمرّ فيه التفاوت الرهيب في الدخل بين من يملكون ومن لا يملكون. وفيه أيضا ‏يستمرّ انكماش الطبقة الوسطى وبالتالي فقدانها تدريجيا لدورها ‏ومكانتها.‏
ومؤخّرا قرأت أكثر من مقال لكتّاب أمريكيين يحذّرون من أن الطبقة الوسطى الأمريكية أصبحت هي أيضا على حافّة الانقراض. بل إن كاتبة مثل اريانا هافنغتون حذّرت في كتاب صدر لها حديثا بعنوان أمريكا الثالثية من أن الولايات المتحدة قد تتحوّل قريبا إلى دولة من دول العالم الثالث بسبب تخلّي ساستها عن الطبقة الوسطى وخيانتهم لمفهوم الحلم الأمريكي. وقد لاحظت الكاتبة أن الفجوة تتّسع ولا تضيق بين من يملكون ومن لا يملكون. فاثنان وثمانون بالمائة من شركات الأسهم الكبرى هي بيد واحد بالمائة من أفراد الشعب. بينما يعيش عشرون بالمائة من الأطفال تحت خطّ الفقر. كما أن عشرة بالمائة من الأمريكيين يحتكرون نصف الناتج القومي الإجمالي.
لكن هناك من يقول إن الولايات المتحدة قادرة على تصحيح هذا الاعتلال بفضل اقتصادها النشط وجامعاتها القويّة ونظامها المالي الديناميكي والمرن.
المجتمعات الرأسمالية الكبيرة تنجح غالبا في الانتباه للمشكلة ومعالجتها، لأنها تملك الآليات السياسية والاقتصادية والتشريعية التي تصحّح الخلل وتعيد توجيه الأمور إلى مسارها الصحيح.
في دول العالم الثالث، الأمر مختلف في ظلّ غياب الآليات والقوانين، وأحيانا الإرادة السياسية، التي تجرّم الفساد وتكبح التضخّم وتكافح البيروقراطية وتمنع تكدّس الثروة في يد فئة صغيرة من فئات المجتمع بينما البقيّة يعانون غائلة الفقر والبطالة والغلاء.
انكماش وتقلّص الطبقة الوسطى هو ظاهرة عالمية كما أسلفت. لكن آثارها وعواقبها اشدّ على الدول النامية وذات الاقتصاد الريعي. وهي نذير خطر قد لا تكون آثاره فورية وحاسمة، بل قد تستغرق وقتا كي تتّضح وتتبلور.