تنظر إلى لوحات هذا الرسّام فيدهشك أن لا ترى فيها غير صورٍ لحوريّات وعذراوات يتنزّهن في مناظر بهيّة ومشذّبة، وأمّهات يداعبن أطفالهنّ بحنوّ ومحبّة، وأطفال يشبهون الملائكة يحتضن بعضهم بعضها ببراءة وألفة.
تلك هي نظرة وليام بوغرو السامية للجنس البشري. وهي نظرة مشحونة بالجمال والطلاوة والمثالية والخيال، إلى الحدّ الذي يجعلنا نتوق إلى رؤية الواقع وملامسة الأرض مرّة أخرى. كان بوغرو ينظر إلى الفنّ على انه ضرب من الجمال المثالي. وكان يبدي انزعاجه من كلّ محاولات التجريب والخروج عن المألوف. وبذا حبس الرسّام نفسه في قفص ذهبي عندما اعتقد أن الرسم يجب أن يكون عن الجمال والفرح في مقابل الواقع.
وبحلول نهاية الحرب العالمية الأولى، كانت لوحاته، مع لوحات معاصريه الأكاديميين مثل جان ليون جيروم ولورانس الما تاديما والكسندر كابانيل، قد انصرفت عنها أذواق الناس واهتمام النقّاد واستقرّ بها المقام أخيرا في أقبية المتاحف.
لكن الجنود القدامى لا يموتون إلى الأبد. فمؤخّرا، ومع تجدّد الاهتمام بالأعمال الفنّية الكلاسيكية، انتعشت واقعية بوغرو ورفاقه الاكاديميين من جديد.
تلك هي نظرة وليام بوغرو السامية للجنس البشري. وهي نظرة مشحونة بالجمال والطلاوة والمثالية والخيال، إلى الحدّ الذي يجعلنا نتوق إلى رؤية الواقع وملامسة الأرض مرّة أخرى. كان بوغرو ينظر إلى الفنّ على انه ضرب من الجمال المثالي. وكان يبدي انزعاجه من كلّ محاولات التجريب والخروج عن المألوف. وبذا حبس الرسّام نفسه في قفص ذهبي عندما اعتقد أن الرسم يجب أن يكون عن الجمال والفرح في مقابل الواقع.
وبحلول نهاية الحرب العالمية الأولى، كانت لوحاته، مع لوحات معاصريه الأكاديميين مثل جان ليون جيروم ولورانس الما تاديما والكسندر كابانيل، قد انصرفت عنها أذواق الناس واهتمام النقّاد واستقرّ بها المقام أخيرا في أقبية المتاحف.
لكن الجنود القدامى لا يموتون إلى الأبد. فمؤخّرا، ومع تجدّد الاهتمام بالأعمال الفنّية الكلاسيكية، انتعشت واقعية بوغرو ورفاقه الاكاديميين من جديد.
من الصعب تصوّر الشعبية الكبيرة التي كان يتمتّع بها بوغرو في فرنسا القرن التاسع عشر وفي الولايات المتحدة. كانت لوحاته التاريخية والأسطورية والدينية تحصد ارفع الجوائز والأوسمة وتُباع بأعلى الأسعار أثناء حياته.
ومع ذلك، كانت أعمال بوغرو موضع تندّر وسخرية من قبل الرسّامين الطليعيين في ذلك الوقت مثل ديغا وأصدقائه. فقد كان هؤلاء يشيرون إلى اسمه محرّفا في محاولة للحطّ من قيمة اللوحات ذات الأسطح الناعمة والمصقولة بشكل مفرط. وفان جوخ كان يصفه بأنه "صانع جيّد يتقاضى أجرا عاليا مقابل أشياء جميلة وناعمة".
ولم يكن مستغربا أن بوغرو كان يستخفّ بقدرة الرسّام الشاب هنري ماتيس. كان الأخير احد تلاميذه. وقد طرده في النهاية من مرسمه.
ولأنه كان محكّما في الصالون السنوي الذي كانت ترعاه الأكاديمية القويّة، فقد لعب بوغرو دورا مهمّا في رفض أعمال الانطباعيين المبتكرة.
''على المرء أن يسعى وراء الجمال والحقيقة". هكذا قال بوغرو في مقابلة معه عام 1895م. وأضاف: 'لا يوجد سوى نوع واحد من الرسم. انه الرسم الذي يقدّم الكمال للعين. وهذا ما كان يفعله فيرونيزي وتيشيان".
كان آخر عمل "جادّ" لـ بوغرو في سلسلة أعماله الكلاسيكية المستوحاة من العصور القديمة هو لوحته الميناديات يطاردن اوريستيس. واللوحة تصوّر اوريستيس وهو يخفي عورته بقطعة قماش بينما تطارده ثلاث ميناديات يحملن معهنّ جثمان أمّه القتيلة. كان بوغرو يحاول من خلال هذه اللوحة استكشاف الألوان بعمق اكبر. لكن اللوحة لم ترق لزبائنه الرئيسيين. فطلبوا منه العودة إلى رسم المواضيع التي تثير السرور والبهجة، ما يجعلها أكثر قابلية للبيع.
في ما بعد رسم لوحته الضخمة إغراء. وهي منظر في الهواء الطلق تظهر فيه امرأة تجلس على الأعشاب تحت ظلّ شجرة وتمسك بتفّاحة، بينما تنظر بحبّ إلى ملاك بريء يجلس إلى جوارها. هذه اللوحة بألوانها المتناغمة وبساطة موضوعها يمكن اعتبارها تعبيرا حقيقيا عن الحبّ والمشاعر الصادقة والعفوية.
وبنفس هذا الأسلوب الفخم، رسم بوغرو عددا من اللوحات الدينية لصالح الكنيسة. بعض تلك الأعمال ربّما كانت تصوّر ردّ فعله على المحن الشخصية التي واجهها، ومن بينها وفاة زوجته واثنين من أبنائه في العام 1877. هذه المأساة المزدوجة ألهمته أيضا لوحة أخرى اسمها روح تُحمل إلى السماء رسمها عام 1878م. وفيها نرى جثمان فتاة صغيرة يحمله ملاكان عبر غيوم كثيفة ونحو مكان مرتفع. بالنسبة للعقل الحديث، قد يبدو الأمر مثيرا للسخرية وأنت ترى جسد إنسان مجنّح وهو يطير بتثاقل في الجوّ. لكن مثل هذه الرحلات كانت مقبولة وممكنة في زمن بوغرو.
استمرّ الفنّان في رسم المواضيع الأسطورية ولكنْ في سياق مختلف تماما عن جهوده الطموحة في أيّامه المبكّرة. في مشهد آخر بعنوان اختطاف سايكي، يضيف الرسّام تلميحا دقيقا عن الرغبات الجسدية. فهو يصوّر ايروس في مظهر من النبل والجمال وعيناه مغلقتان بنشوة، بينما ينقل سايكي النصف عارية عبر الهواء إلى طبيعة جبلية.
منذ سنوات سُئل احد النقّاد عن السبب في أن بوغرو أصبح اليوم رسّاما بلا طعم ولا نكهة من منظور الفنّ الحديث. فأشار إلى دور الفنّان السلبي في إعاقة أعمال الحركات والأساليب الجديدة في الصالون. لكنّه يعزو سمعة بوغرو الفاترة اليوم إلى سببين رئيسيين، الأوّل له علاقة بالجمهور والآخر يعود إلى الرسّام نفسه.
كان بوغرو حِرَفيا بمعنى الكلمة. وهذه الحِرَفية هي التي أعمت بعض الجمهور عن تفكيك الجمال المطلق في مناظره لاستكشاف قوّة العاطفة. فتلك الأيدي الطاهرة والأقدام النظيفة في لوحاته، ولون البشرة الرقيقة، بالإضافة إلى التفاصيل الدقيقة الأخرى تجعل العين غير راغبة في التحديق أكثر والتحقّق ممّا تراه.
كان لدى بوغرو الكثير مما يقدّمه لمتعة العين: الأوردة البارزة من الأيدي والأذرع، والألوان الزهرية الدافئة على ملامح الوجوه، والوضوح التامّ لتفاصيل الجسد من خلال إتقان نسب الضوء والظلال.
الناظر إلى بعض لوحاته، لا بدّ وأن يحسّ بالسُكر فورا وهو يلمس كلّ هذا القدر من الكفاءة والفاعلية. لكنه لن يكلّف نفسه عناء النظر إلى ما هو ابعد.
بدأت شهرة بوغرو في التلاشي قبيل وفاته بوقت قصير، أي عندما كان إدوارد مونك يرسم لوحته "رقصة الحياة"، وعندما انتهى غوستاف ماهلر للتوّ من تأليف سيمفونيّته السادسة بطريقة مأساوية.
في ذلك الوقت بالتحديد، أصبحت الأفكار المثالية ضربا من السذاجة. وكانت الأكاديمية الفرنسية تُعتبر "مؤسّسة قديمة" بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية. وفي فترة ما بعد الحرب، صارت درجة إتقان تنفيذ العمل الفنّي اقلّ أهمية من المفاهيم التي يعكسها.
شاعرية بوغرو وتناغم مناظره يشبهان ظاهريا ذلك الإحساس الذي ينتابك وأنت تستمع إلى موسيقى موزارت: فوران مفاجئ وشعور غامر بالسعادة والاسترخاء، ثم ينتهي كلّ شيء.
غير أن أكثر الذين يستمتعون بـ موزارت نادرا ما يدرسونه. النسيج المصقول يبدو فهمه سهلا. لكن الأمر يتطلّب الكثير من الطاقة والوقت لاستيعاب المعاني العميقة الكامنة تحت طبقات الإيقاعات والأنغام.
تضاؤل شعبية الموسيقى الكلاسيكية مع صعود موسيقى البوب والروك أدّى إلى عزلة ونفور غالبية الجمهور، بنفس الطريقة التي فعلتها الدعاية للفنّ الحديث على حساب مدارس وأساليب الروّاد الأوائل.
كان بوغرو يركّز على إبراز مظاهر الجمال والسعادة والنقاء في لوحاته. لكن هذا أدّى في النهاية إلى أن أصبح أسلوبه وموضوعاته رتيبة ومكرّرة ومملّة.
كان دائما يقول أن لا شيء أكثر صعوبة من رسم الأطفال. وهم يظهرون في لوحاته وهم يتعانقون ويقبّلون بعضهم وينامون في براءة غير ملوّثة وفي مرح لانهائي.
ولأكثر من خمسة عقود، لم يتطوّر أسلوبه الفنّي، ولم تتغيّر موضوعاته التي بدا أنها أصبحت بالنسبة له متعة وضرورة.
صحيح أن أساليب العصور القديمة أو الكلاسيكية لم تسقط من تاريخ الفنّ تماما. لكن حساسيّتها ودقّتها وصلتها بروح العصر قد تكون اضمحلّت فعلا. كان بوغرو يقول إن على المرء أن يسعى وراء الجمال والحقيقة. ولكن عندما تتعارض الحقيقة مع الجمال في فنّه، فإنه كان يفضّل دائما اختيار الأخير.
في خمسينات وستّينات القرن قبل الماضي، حاول الرسّام استكشاف الظلام والعنف في المواضيع الأسطورية والدينية عندما رسم لوحته دانتي وفرجيل في الجحيم. لكنّه سرعان ما تخلّى عن هذه الجهود وعاد إلى لوحاته ذات المواضيع الأنيقة والألوان الشاحبة.
شخوص بوغرو دائما رائعون ومهذّبون ومتأنّقون وخالون من النقائص والعيوب، كما هو الحال في أركاديا. وأضواؤه الساطعة والليّنة تذوب في البشرة الناعمة، ما يؤدّي إلى فقدان أيّ توتّر محتمل.
خلال حياته الطويلة، رسم بوغرو أكثر من سبعمائة لوحة. وكان هو الرسّام المفضّل لدى جامعي الأعمال الفنّية الذين كانوا يجدون في مناظره ملاذا ومهربا من ضغوط ومشاكل الحياة اليومية.
في عام 1895، اشترى هنري فريك لوحة بوغرو المسمّاة فتاة شقيّة مقابل خمسة آلاف دولار. كان وجه الفتاة في اللوحة يذكّر الرجل بملامح ابنته المتوفّاة. وقد احتفظ باللوحة طوال حياته. ولا بدّ وأنه كان يرى فيها شيئا أعمق بكثير من الوجه الملائكي الذي تصوّره. كان الأمر اكبر من مجرّد عاطفة جيّاشة يكنّها أب حنون لذكرى ابنته الراحلة. وبعض الناس يحرّك مشاعرهم رؤية مثل هذه اللوحات لأطفال، بصرف النظر عن الأحلام والخيال أو الواقع.
أفول نجم بوغرو وغيره من أتباع الفنّ الكلاسيكي والأكاديمي ظاهرة لافتة. وهي كانت وما تزال مبعث حيرة بالنسبة للكثيرين. وقد راج في بعض الأوساط حديث عن "مؤامرة ما" قيل إنها حيكت على امتداد المائة عام الماضية واستهدفت تشويه وتحطيم رموز الفنّ الأكاديمي والكلاسيكي الذي كان سائدا حتى نهايات القرن التاسع عشر. وحسب هذه المؤامرة المتخيّلة، فقد أسهمت في هذا الجهد الصحافة والقوى المتحكّمة بالفنّ والثقافة التي أصبحت تفرض قبضتها الحديدية على المؤسّسة الفنّية العالمية. وكان هناك تنسيق محكم وناجح لإزاحة كل ما له صلة بالطرق والأساليب اللازمة لتدريب فنّانين مهرة وبارعين. ونتيجة لذلك، ألقي بتراث خمسة قرون من المعلومات الفنّية والنقدية في سلّة المهملات. كما يستغرب القائلون بنظرية المؤامرة كيف أن مدرسة الحداثة التي تدعمها شبكات مصالح واسعة ومعقّدة أصبحت تسيطر اليوم بشكل كامل ومطلق على آلاف المتاحف والجامعات والمؤسّسات الفنّية حول العالم وعلى حركة النقد في الصحافة ووسائل الإعلام المختلفة.
بنظر منتقديه، كان وليام بوغرو مجرّد رسّام فيكتوري كان يرسم الفتيات الصغيرات اللاتي تزيّن شعورهنّ الأزهار وتكتسي ملامحهنّ بالطيبة والبراءة. لكن هذا لا ينفي حقيقة انه كان رسّاما خاصّا ومتميّزا. أسلوبه الفنّي كان انعكاسا لأذواق الناس في زمانه. وهو كان يرسم بتلك الطريقة لأنه كان يريد أن يعيش ويكسب رزقه.
صحيح أن أعماله، وبقدر ما، لم تعد تجاري الذوق السائد الآن. لكن بعض اشدّ منتقديه يشهدون له بأنه كان أفضل من أيّ فنّان جاء قبله من حيث معرفته بأسرار الألوان وطرق مزجها وتوظيفها في الرسم.
Credits
bouguereau.org
artrenewal.org
bouguereau.org
artrenewal.org