:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الأربعاء، يونيو 06، 2012

عن الكتُب والقراءة

يحدث أحيانا وأنت تقرأ نصّا أدبيّا لكاتب معيّن أن تثير القراءة سلسلة من الارتباطات الذهنية والشعورية، اعتمادا على موضوعات الكاتب وصوره. والأمر أشبه ما يكون بتزامن الحواسّ، إن جاز التشبيه.
مثلا، كنت عندما اقرأ دستويفسكي أتذكّر على الفور رسومات فروبيل الشيطانية وصور روبليف الأيقونية وتشكيلات كاندينسكي التجريدية وبحار وسفن ايفازوفسكي المضطربة والغارقة. وأحيانا أتذكّر بعض موسيقى الملحّنين الروس الأكثر حداثة مثل شوستاكوفيتش وموسوريسكي وبروكوفييف وسترافنسكي.
ومع أنني لا استسيغ موسيقى هؤلاء الأربعة لجفافها وطابعها الرياضي الصارم وخلوّها تقريبا من الأنغام السهلة التي تنجذب لها النفس وتنطبع سريعا في الذهن، إلا أنني أتصوّر أن موسيقاهم تتناغم كثيرا مع أجواء روايات دستويفسكي التي تتسم عادة بالتوتّر والعنف واليأس والخوف.
وعندما اقرأ شيئا لـ تولستوي أتذكّر لا إراديا مناظر كرامسكوي وريبين ونيستيروف وإيساك ليفيتان، وأحيانا أسمع من بين ثنايا بعض المقاطع أصداءً من موسيقى تشايكوفسكي وكورساكوف، وبدرجة اقلّ رحمانينوف. وأظنّ أن هذه الصور تنسجم كثيرا مع أجواء روايات تولستوي التي تثير مشاعر عن البراءة والتفاؤل والعاطفة والتوق والأمل.
وبمناسبة الحديث عن الكتب والكتابة، سألني صديق منذ أيّام سؤالا افتراضيا. قال: لو دخلتَ مكتبة ووجدت إلى يمينك كتبا لـ تولستوي وهمنغواي ودستويفسكي ونجيب محفوظ، وإلى يسارك كتبا لـ امبيرتو إيكو وميلان كونديرا وهاروكي موراكامي فأيّ النوعين من الكتب ستبادر لاقتنائه؟ قلت: الأمر يعتمد أوّلا على ما الذي أريده. قد اشتري كتابا أو اثنين من هنا وكتابين من هناك. لكن ما الذي تريد أن تقوله؟ أجاب: هناك الآن اتجاه يصنّف الناس بحسب الكاتب الذي يقرءونه. فمثلا، إن كنت تفضّل قراءة همنغواي أو إبسن أو ديكنز فأنت شخص كلاسيكي، أي موضة قديمة كما يقولون، وأنت تميل إلى القديم ولا تبدي استعدادا لتقبّل الأفكار الحديثة. وإن كنت تفضّل كونديرا أو ايتالو كالفينو أو إيكو فأنت إنسان عصري "شِيك وكوول" ومتفتّح وأفكارك مرنة تتقبّل التغيير ولا ترفض الأفكار والقيم الجديدة. انتهى كلام ذلك الصديق.
وعندما فكّرت في كلامه في ما بعد اتضح لي أن ذلك التصنيف غير دقيق ولا يعبّر بالضرورة عن الواقع. أين إذن نضع كتّابا مثل ثيرفانتيس الذي عاش قبل أكثر من أربعة قرون ومع ذلك يعتبر نقّاد كثيرون روايته "دون كيشوت" طليعة الأدب الحديث. وأين نضع غوستاف فلوبير وجين اوستن وغيرهما من الكتاب الذين تمتلئ كتاباتهم بالأفكار العالمية والرؤى السيكولوجية والفلسفية والسياسية التي تبدو أكثر جِدّةً وحداثة من كثير من الكتب التي يتداولها الناس هذه الأيّام.
قد تقرأ كتابا ظهر منذ مائة عام فتكتشف أن مضمونه وقيمته الجمالية ما يزال لهما صلة وثيقة بأحوال وظروف هذا العصر الذي نعيشه. وقد تقرأ رواية صدرت حديثا فتحتار كيف تصنّفها وفي أيّ سياق زماني يمكن أين تضعها. وطبعا أنا هنا أتحدّث حديثا عامّا وبمنأى عن النظريات والمفاهيم الأكاديمية عن خصائص وسمات المدارس والتيّارات الأدبية والفنّية.
وبعيدا عن هذه التصنيفات واللافتات، أشير إلى ظاهرة لا بدّ وأن الكثيرين خبِروها أثناء قراءاتهم في وقت ما. عندما أكون مستغرقا في قراءة كتاب، رواية غالبا، لكاتب مشهور، تصادفني أحيانا جملة أو فقرة أو صورة ما تبدو بلا معنى أو معزولة وخارجة تماما عن سياق السرد. فأتساءل: ترى كيف لكاتب عظيم أن يكتب مثل هذا الحشو الذي لا طائل منه ولا يخدم غرضا وظيفيا أو جماليا؟ التفسير الأكثر احتمالا لهذه الظاهرة هو أننا نميل عادة إلى النظر إلى الكاتب، خاصّة إن كان مشهورا، كنموذج للمثالية والكمال. وعليه فإننا نتوقّع منه أن تكون كتاباته على أعلى مستوى من الإبداع والدقّة والإحكام. وهذا أمر غير متيسّر من الناحية العملية. فالكاتب، مهما كان مبدعاً ولامعاً، هو في نهاية الأمر إنسان. ولأنه كذلك، فهو عرضة لحالات وأمزجة متباينة تنعكس في النهاية على مدى جودة ما يكتبه.
وأختم هذا الحديث بعبارة قرأتها منقولة عن مسلسل درامي. وهي تأتي على لسان امرأة تتحدّث عن زوجها المتهم بجريمة قتل. تقول الزوجة للمحقّق: اعتقد انه لو قرأ كتابا مختلفا لكاتب مختلف في الوقت المناسب من حياته لكان أصبح إنسانا مختلفا". وممّا لا شكّ فيه أن مضمون أيّ كتاب يقرأه الإنسان يترك عليه أثرا ما، قليلا أو كثيرا، سلبا أو إيجابا. لكن لا أميل إلى المبالغة كثيرا في تصوير تأثير القراءة على تفكير وسلوك الإنسان. أعتقد أن الخبرات والتجارب العملية التي يكتسبها الإنسان نتيجة تعامله مع الآخرين هي التي تلعب الدور الأهمّ في صوغ أفكاره وتشكيل قيمه وقناعاته وتصورّاته الخاصّة عن الناس وعن الحياة.