مرّ على ظهور هذا الكتاب زمن طويل، أي حوالي المائتي عام. وقد يرى البعض أن مضمونه أصبح متقادما إلى حدّ ما. ومع ذلك، فإن قراءته اليوم بشيء من التأمّل توفّر صورة عن ماضٍ ما تزال بعض ملامحه حيّة وماثلة للعيان.
عنوان الكتاب "حكايات من الحمراء". ومؤلّفه هو الرحّالة والمؤرّخ والأديب الأمريكي واشنطن ايرفنغ ، الذي عاش في نهاية القرن الثامن عشر وبداية التاسع عشر.
كان ايرفنغ مفتونا بالعرب وبالثقافة العربية التي رأى بعضا من شواهدها أثناء زيارته للأندلس. وقد بلغ من شغفه بالعرب وبحضارتهم انه شيّد له منزلا على الطراز الأندلسي وأقام في وسطه تمثالا لأبي عبدالله الصغير آخر ملوك غرناطة. البيت الجميل الذي بناه ايرفنغ في نهايات حياته على ضفاف نهر هدسون يمكن اعتباره امتدادا لشخصيّته الفريدة وتعبيرا عن حبّه وتقديره للثقافة الأندلسية.
كان ايرفنغ أيضا مشبعا، كرحّالة، بالتوق إلى التاريخ والشعر والأساطير والتقاليد والأغاني والقصائد العربية الكثيرة عن الحبّ والحرب والفروسية. وفي "حكايات من الحمراء" يصف الكاتب، بإسهاب، القصر والقلاع والأسوار والأبراج التي تحيط بالتلّ والجبال الثلجية التي تطلّ على غرناطة والجمال الذي تختزنه. ويشير إلى انه حتى بعد أن سقطت المملكة في أيدي المسيحيين، استمرّت في كونها حاضرة لملوك قشتالة. وعندما اعتلى فيليب الخامس وزوجته اليزابيتا الحكم تمّ ترميم المكان والحدائق والقصر على أيدي فنّانين جُلبوا من ايطاليا.
يقول ايرفنغ واصفا شعوره وهو يتنقّل من بلدة لأخرى: خلافا لتوقّعاتي، كان كلّ شيء يحمل نبلا. البلاد، العادات، ملامح الناس نفسها فيها شيء من الشخصية العربية. الملوك المسلمون كانوا يكتسبون ثناءً قويّا، فهم الأوصياء على رؤية نبيلة، وهم مصدر الفكرة الجذّابة عن الرجولة، بالإضافة إلى أنهم ادخلوا مفاهيم العدالة الأساسية في تعاملهم مع الشعوب الأخرى".
ويضيف: الرومانسيون وجدوا في العرب رمزا يمكن مقارنته بالنماذج الأوربّية الأخرى مثل الكلت والقوط، أي أسلاف الأوربّيين المعاصرين الذين كانوا ميّالين للحروب والمتّصفين بالشهامة وعشق الحرّية. لقد كان لعرب الأندلس نكهة حارّة وعالية وشرقية لا يمكن العثور عليها في أيّ مكان آخر".
ويصف ايرفنغ إسبانيا بأنها البلد الذي يقف وحيدا معزولا في وسط أوروبّا، بحيث أن عاداتها وسلوكيّاتها وأنماط تفكيرها مختلفة تماما عن كلّ جيرانها في القارّة الأوربّية. "إسبانيا بلاد رومانسية، ولكن ليس في رومانسيّتها شيء من عواطف الرومانسية الأوربّية الحديثة. فهي مستمدّة أساسا من المناطق الرائعة في الشرق. لقد جلب الفتح العربيّ إلى إسبانيا القوطية حضارة أسمى وأنماطا من التفكير أكثر رُقيّا ونبلا".
ويمضي ايرفنغ في حديثه عن العرب فيقول: كان العرب شعبا سريع البديهة ومتّصفا بالحكمة. لكنهم أيضا كانوا شاعريين وذوي أرواح فخورة، ثمّ إنهم كانوا متشرّبين بالعلوم والآداب المشرقية. وأينما أقاموا دولة، فإنها سرعان ما أصبحت منارة للعلم والمعرفة، كما أنهم نعّموا وصقلوا الشعوب التي فتحوها. ويضيف: إن احتلال العرب منحهم حقّا وراثيا لأن يكون لهم موطئ قدم في الأرض، فلم يعد يُنظر إليهم على أنهم غزاة، بل جيران منافسون".
سافر واشنطن ايرفنغ في ربوع الأندلس بصحبة دبلوماسي روسيّ. وبدأ رحلته من مدريد عبر سهل قشتالة، ومنها إلى اشبيلية قبل أن يصل إلى الأندلس. وبعد إقامته التي دامت أشهرا في غرناطة والحمراء، وقف الكاتب على مكان يقال له "تلّ الدموع" ليلقي نظرة أخيرة على المدينة وعلى الجبال المحيطة بها. على هذا التلّ وقف آخر ملوك غرناطة العرب أبو عبدالله الصغير حزينا باكيا قبل أن يغادر مملكته إلى الأبد بعد حرب عام 1491 التي استعاد الإسبان في نهايتها غرناطة.
يقول ايرفنغ: عندما احتلّ الفرنسيون غرناطة في زمن تالٍ، اتخذوا من الحمراء مقرّا لزعيمهم. ويمكن القول إن الإسبان مدينون لغزاتهم الفرنسيين بالكثير، فقد باشر هؤلاء عملية إنقاذ للمكان من الإهمال، فرمّموا الأسقف وأعادوا زراعة الحدائق وقنوات الماء والنوافير، وبذا حافظوا على أجمل وأهمّ معالم إسبانيا التاريخية.
في أرجاء الحمراء سمع ايرفنغ أسطورة قديمة يردّدها الكثيرون. إذ يقال إن الملك العربيّ الذي بنى الحمراء كان ساحرا عظيما "باع روحه للشيطان" عندما وضع تحت جميع القلاع تعاويذ سحرية، وبذا بقي القصر صامدا لمئات السنين في وجه العواصف والزلازل، بينما سقطت جميع صروح العرب الأخرى وتحوّلت إلى أطلال. ويقال أيضا أن هناك كنوزا لا تُقدّر بثمن دفنها العرب تحت القصر وسيأتي اليوم الذي تُكشف فيه.
عنوان الكتاب "حكايات من الحمراء". ومؤلّفه هو الرحّالة والمؤرّخ والأديب الأمريكي واشنطن ايرفنغ ، الذي عاش في نهاية القرن الثامن عشر وبداية التاسع عشر.
كان ايرفنغ مفتونا بالعرب وبالثقافة العربية التي رأى بعضا من شواهدها أثناء زيارته للأندلس. وقد بلغ من شغفه بالعرب وبحضارتهم انه شيّد له منزلا على الطراز الأندلسي وأقام في وسطه تمثالا لأبي عبدالله الصغير آخر ملوك غرناطة. البيت الجميل الذي بناه ايرفنغ في نهايات حياته على ضفاف نهر هدسون يمكن اعتباره امتدادا لشخصيّته الفريدة وتعبيرا عن حبّه وتقديره للثقافة الأندلسية.
كان ايرفنغ أيضا مشبعا، كرحّالة، بالتوق إلى التاريخ والشعر والأساطير والتقاليد والأغاني والقصائد العربية الكثيرة عن الحبّ والحرب والفروسية. وفي "حكايات من الحمراء" يصف الكاتب، بإسهاب، القصر والقلاع والأسوار والأبراج التي تحيط بالتلّ والجبال الثلجية التي تطلّ على غرناطة والجمال الذي تختزنه. ويشير إلى انه حتى بعد أن سقطت المملكة في أيدي المسيحيين، استمرّت في كونها حاضرة لملوك قشتالة. وعندما اعتلى فيليب الخامس وزوجته اليزابيتا الحكم تمّ ترميم المكان والحدائق والقصر على أيدي فنّانين جُلبوا من ايطاليا.
يقول ايرفنغ واصفا شعوره وهو يتنقّل من بلدة لأخرى: خلافا لتوقّعاتي، كان كلّ شيء يحمل نبلا. البلاد، العادات، ملامح الناس نفسها فيها شيء من الشخصية العربية. الملوك المسلمون كانوا يكتسبون ثناءً قويّا، فهم الأوصياء على رؤية نبيلة، وهم مصدر الفكرة الجذّابة عن الرجولة، بالإضافة إلى أنهم ادخلوا مفاهيم العدالة الأساسية في تعاملهم مع الشعوب الأخرى".
ويضيف: الرومانسيون وجدوا في العرب رمزا يمكن مقارنته بالنماذج الأوربّية الأخرى مثل الكلت والقوط، أي أسلاف الأوربّيين المعاصرين الذين كانوا ميّالين للحروب والمتّصفين بالشهامة وعشق الحرّية. لقد كان لعرب الأندلس نكهة حارّة وعالية وشرقية لا يمكن العثور عليها في أيّ مكان آخر".
ويصف ايرفنغ إسبانيا بأنها البلد الذي يقف وحيدا معزولا في وسط أوروبّا، بحيث أن عاداتها وسلوكيّاتها وأنماط تفكيرها مختلفة تماما عن كلّ جيرانها في القارّة الأوربّية. "إسبانيا بلاد رومانسية، ولكن ليس في رومانسيّتها شيء من عواطف الرومانسية الأوربّية الحديثة. فهي مستمدّة أساسا من المناطق الرائعة في الشرق. لقد جلب الفتح العربيّ إلى إسبانيا القوطية حضارة أسمى وأنماطا من التفكير أكثر رُقيّا ونبلا".
ويمضي ايرفنغ في حديثه عن العرب فيقول: كان العرب شعبا سريع البديهة ومتّصفا بالحكمة. لكنهم أيضا كانوا شاعريين وذوي أرواح فخورة، ثمّ إنهم كانوا متشرّبين بالعلوم والآداب المشرقية. وأينما أقاموا دولة، فإنها سرعان ما أصبحت منارة للعلم والمعرفة، كما أنهم نعّموا وصقلوا الشعوب التي فتحوها. ويضيف: إن احتلال العرب منحهم حقّا وراثيا لأن يكون لهم موطئ قدم في الأرض، فلم يعد يُنظر إليهم على أنهم غزاة، بل جيران منافسون".
سافر واشنطن ايرفنغ في ربوع الأندلس بصحبة دبلوماسي روسيّ. وبدأ رحلته من مدريد عبر سهل قشتالة، ومنها إلى اشبيلية قبل أن يصل إلى الأندلس. وبعد إقامته التي دامت أشهرا في غرناطة والحمراء، وقف الكاتب على مكان يقال له "تلّ الدموع" ليلقي نظرة أخيرة على المدينة وعلى الجبال المحيطة بها. على هذا التلّ وقف آخر ملوك غرناطة العرب أبو عبدالله الصغير حزينا باكيا قبل أن يغادر مملكته إلى الأبد بعد حرب عام 1491 التي استعاد الإسبان في نهايتها غرناطة.
يقول ايرفنغ: عندما احتلّ الفرنسيون غرناطة في زمن تالٍ، اتخذوا من الحمراء مقرّا لزعيمهم. ويمكن القول إن الإسبان مدينون لغزاتهم الفرنسيين بالكثير، فقد باشر هؤلاء عملية إنقاذ للمكان من الإهمال، فرمّموا الأسقف وأعادوا زراعة الحدائق وقنوات الماء والنوافير، وبذا حافظوا على أجمل وأهمّ معالم إسبانيا التاريخية.
في أرجاء الحمراء سمع ايرفنغ أسطورة قديمة يردّدها الكثيرون. إذ يقال إن الملك العربيّ الذي بنى الحمراء كان ساحرا عظيما "باع روحه للشيطان" عندما وضع تحت جميع القلاع تعاويذ سحرية، وبذا بقي القصر صامدا لمئات السنين في وجه العواصف والزلازل، بينما سقطت جميع صروح العرب الأخرى وتحوّلت إلى أطلال. ويقال أيضا أن هناك كنوزا لا تُقدّر بثمن دفنها العرب تحت القصر وسيأتي اليوم الذي تُكشف فيه.
في زمن ايرفنغ كان القصر الملكيّ موضوعا في عهدة سيّدة تُدعى دونا انطونيا. كانت مهمّة هذه المرأة العناية بالقاعات والحدائق كي تريها للغرباء. وكانت للمرأة ابنة أخت تُدعى دولوريس وهي التي ستقود الكاتب عبر ردهات القصر. "عبرنا العتبة إلى داخل أزمنة أخرى وعوالم شرقية. الأناقة والفخامة تشيان بذوق شائك وحسّاس. كلّ شيء ظلّ على حاله منذ مئات السنين، ما يعطي مصداقية للأسطورة الشعبية التي تقول إن القصر محروس من الجنّ: الديكورات الداخلية الفخمة، والرخام البديع، والخطوط العربية المنقوشة على الجدران، والأقواس، والنافورة المشهورة في الأغاني والحكايات، والأسود الإثنا عشر التي تنفث قطرات الماء البلّلوري من أفواهها.
في القاعة الرئيسية للقصر، رأى ايرفنغ على كلّ جانب من القاعة أرائك محفورة في التجاويف. هنا كان يستلقي سادة الحمراء في أوقات راحتهم الحالمة. "كان هناك فانوس يرسل ضوءا خافتا من فوق، بينما تُسمع من احد الجوانب أصوات المياه المنعشة الآتية من نافورة الأسود، ومن الجانب الآخر أصوات تلاطم المياه الناعمة من حوض في الحديقة. من المستحيل أن تتأمّل هذا المشهد الشرقيّ بالكامل دون أن تشعر بالارتباطات المبكّرة لقصص الحبّ العربية، لدرجة انك تتوقّع أن ترى طرف ذراع بضّة لأميرة غامضة تبرز من خلف الباب أو عينين حوراوين تترصّدان من وراء النافذة".
ويضيف: وقفنا على أطراف قاعة تُسمّى قاعة بني سراج، على اسم مجموعة من الفرسان الشجعان من هذا النَسب اللامع يقال أنهم ذُبحوا هنا غدرا. والحقيقة أن هناك من يشكّك في القصّة كلّها. لكنّ مرافقتنا تشير إلى البوّابة التي اُدخل منها الرجال واحدا تلو الآخر إلى قاعة الأسود وإلى النافورة ذات الرخام الأبيض في وسط القاعة التي يقال أن الرجال قُطعت رؤوسهم بجانبها. وقد رأينا بعض البقع الوردية الواسعة على الممرّ وقيل لنا أنها آثار دمائهم والتي، طبقا للاعتقاد السائد، لا يمكن محوها أبدا".
كان ايرفنغ يستمع إلى هذه القصّة بشيء من التشكيك والتحفّظ. وعندما لاحظت مرافقته ذلك أشارت إلى انه في بعض الليالي يمكن سماع أصوات خافتة الرنين تشبه الغمغمة وأصوات أخرى مثل شحذ السيوف وقعقعة السلاسل. وأضافت إن هذه الأصوات مصدرها أرواح بني سراج التي تخيّم على المكان في ساعات الليل مطالبة بانتقام السماء ممّن قتلهم.
لكن الكاتب يخمّن بأن هذه الأصوات قد يكون مصدرها التيّارات المحتدمة وشلالات الماء التي تتدفّق تحت سطح القصر وعبر الأنابيب والقنوات التي تزوّد النوافير بالماء.
مرافق آخر اسمه ماتيو لاحظ تردّد ايرفنغ في تصديق القصّة، فسرد عليه الحكاية التالية باعتبارها حقيقة لا تقبل الشكّ والتي كان قد سمعها من جدّه. قال: ذات مرّة، كان هناك جنديّ عجوز في القصر، وكان قد عُيّن مسئولا عن الحمراء. وذات مساء، وقت الغروب تقريبا، كان الجنديّ مارّا بقاعة الأسود عندما سمع وقع خطى مصدرها قاعة بني سراج. في البداية، افترض الجنديّ أن بعض الزوّار الغرباء قد يكونون ضلّوا طريقهم داخل ردهات القصر، فتقدّم كي يتبيّن القصّة. ولفرط دهشته رأى أربعة من العرب يرتدون ملابس فارهة ودروعا مذهّبة وخناجر مرصّعة بالحجارة الثمينة. كانوا يسيرون جيئة وذهابا بوتيرة رسمية، لكنّهم توقفوا عندما لمحوا الحارس العجوز. وبعد أن شاعت القصّة، لم يُسمح للحارس بدخول الحمراء ثانية. وساد وقتها اعتقاد بأن هؤلاء العرب الأشباح كانوا ينوون الكشف له عن المكان الذي دُفنت فيه الكنوز داخل القصر.
كتاب واشنطن ايرفنغ عن الحمراء هو عمل أدبي وفنّي عن بقايا صرح معماريّ عظيم. وهو يستخدم المكان كنقطة انطلاق لاستكشافاته التي ينقل القارئ من خلالها من زمانه هو، أي عام 1829، إلى زمن تأسيس الحمراء. غير أن الكتاب يتضمّن بنفس الوقت العديد من التأمّلات الفنّية والفلسفية.
وطبقا للكاتب، فإن الشخصية البطولية في تاريخ هذا القصر الساحر هو محمّد بن الأحمر الملقّب بالغالب بالله مؤسّس الحمراء، الذي ينقل عنه المؤلّف مرارا مصوّرا إيّاه كنموذج للحاكم المثاليّ.
ملحمة الحمراء لم تنته باستعادة الإسبان للأندلس. فبعد أن أخضعت تلك البلاد لسيطرة الإسبان مرّة أخرى، قام الملك فرديناند وزوجته إيزابيلا بطرد أكثر من ربع مليون مسلم من إسبانيا في ما يصفه المؤرّخون بأنه اكبر عملية تطهير دينيّ في تاريخ أوربّا. ولم ينج من قرار الطرد حتى بعض أهل البلاد الأصليين من الإسبان الذين كانوا قد تحوّلوا إلى الإسلام. والأسوأ من ذلك أن هؤلاء مُنعوا من حمل أيّ أشياء أو ممتلكات معهم قبل أن يلجئوا إلى شمال أفريقيا. كما أقام فرديناند وزوجته محاكم التفتيش وأمرا بتحويل جامع قرطبة إلى كاتدرائية كاثوليكية وبإحراق مئات آلاف الكتب العربية.
لكنّ الحكّام الجدد فعلوا في ما بعد شيئا لا يمكن تصديقه. فقبل وفاة كلّ من فرديناند وزوجته، أمرا بأن تُدفن رفاتهما في إحدى زوايا قصر الحمراء وتحت عامود منقوش عليه إحدى آيات القرآن الكريم. المؤرّخون احتاروا في تفسير هذا التصرّف الغريب. بعضهم قال إن فرديناند أراد من وراء ذلك تأكيد سلطته الكاثوليكية المطلقة والتي لا تقبل المساومة. والبعض الآخر اعتبر ذلك خيارا غريبا لمسيحيَّين كانا، برغم العلاقة المعقّدة بين الكاثوليك والمسلمين، ما يزالان مفتونين بكلّ يمتّ لمحتلّيهم المسلمين بِصِلة.
في القاعة الرئيسية للقصر، رأى ايرفنغ على كلّ جانب من القاعة أرائك محفورة في التجاويف. هنا كان يستلقي سادة الحمراء في أوقات راحتهم الحالمة. "كان هناك فانوس يرسل ضوءا خافتا من فوق، بينما تُسمع من احد الجوانب أصوات المياه المنعشة الآتية من نافورة الأسود، ومن الجانب الآخر أصوات تلاطم المياه الناعمة من حوض في الحديقة. من المستحيل أن تتأمّل هذا المشهد الشرقيّ بالكامل دون أن تشعر بالارتباطات المبكّرة لقصص الحبّ العربية، لدرجة انك تتوقّع أن ترى طرف ذراع بضّة لأميرة غامضة تبرز من خلف الباب أو عينين حوراوين تترصّدان من وراء النافذة".
ويضيف: وقفنا على أطراف قاعة تُسمّى قاعة بني سراج، على اسم مجموعة من الفرسان الشجعان من هذا النَسب اللامع يقال أنهم ذُبحوا هنا غدرا. والحقيقة أن هناك من يشكّك في القصّة كلّها. لكنّ مرافقتنا تشير إلى البوّابة التي اُدخل منها الرجال واحدا تلو الآخر إلى قاعة الأسود وإلى النافورة ذات الرخام الأبيض في وسط القاعة التي يقال أن الرجال قُطعت رؤوسهم بجانبها. وقد رأينا بعض البقع الوردية الواسعة على الممرّ وقيل لنا أنها آثار دمائهم والتي، طبقا للاعتقاد السائد، لا يمكن محوها أبدا".
كان ايرفنغ يستمع إلى هذه القصّة بشيء من التشكيك والتحفّظ. وعندما لاحظت مرافقته ذلك أشارت إلى انه في بعض الليالي يمكن سماع أصوات خافتة الرنين تشبه الغمغمة وأصوات أخرى مثل شحذ السيوف وقعقعة السلاسل. وأضافت إن هذه الأصوات مصدرها أرواح بني سراج التي تخيّم على المكان في ساعات الليل مطالبة بانتقام السماء ممّن قتلهم.
لكن الكاتب يخمّن بأن هذه الأصوات قد يكون مصدرها التيّارات المحتدمة وشلالات الماء التي تتدفّق تحت سطح القصر وعبر الأنابيب والقنوات التي تزوّد النوافير بالماء.
مرافق آخر اسمه ماتيو لاحظ تردّد ايرفنغ في تصديق القصّة، فسرد عليه الحكاية التالية باعتبارها حقيقة لا تقبل الشكّ والتي كان قد سمعها من جدّه. قال: ذات مرّة، كان هناك جنديّ عجوز في القصر، وكان قد عُيّن مسئولا عن الحمراء. وذات مساء، وقت الغروب تقريبا، كان الجنديّ مارّا بقاعة الأسود عندما سمع وقع خطى مصدرها قاعة بني سراج. في البداية، افترض الجنديّ أن بعض الزوّار الغرباء قد يكونون ضلّوا طريقهم داخل ردهات القصر، فتقدّم كي يتبيّن القصّة. ولفرط دهشته رأى أربعة من العرب يرتدون ملابس فارهة ودروعا مذهّبة وخناجر مرصّعة بالحجارة الثمينة. كانوا يسيرون جيئة وذهابا بوتيرة رسمية، لكنّهم توقفوا عندما لمحوا الحارس العجوز. وبعد أن شاعت القصّة، لم يُسمح للحارس بدخول الحمراء ثانية. وساد وقتها اعتقاد بأن هؤلاء العرب الأشباح كانوا ينوون الكشف له عن المكان الذي دُفنت فيه الكنوز داخل القصر.
كتاب واشنطن ايرفنغ عن الحمراء هو عمل أدبي وفنّي عن بقايا صرح معماريّ عظيم. وهو يستخدم المكان كنقطة انطلاق لاستكشافاته التي ينقل القارئ من خلالها من زمانه هو، أي عام 1829، إلى زمن تأسيس الحمراء. غير أن الكتاب يتضمّن بنفس الوقت العديد من التأمّلات الفنّية والفلسفية.
وطبقا للكاتب، فإن الشخصية البطولية في تاريخ هذا القصر الساحر هو محمّد بن الأحمر الملقّب بالغالب بالله مؤسّس الحمراء، الذي ينقل عنه المؤلّف مرارا مصوّرا إيّاه كنموذج للحاكم المثاليّ.
ملحمة الحمراء لم تنته باستعادة الإسبان للأندلس. فبعد أن أخضعت تلك البلاد لسيطرة الإسبان مرّة أخرى، قام الملك فرديناند وزوجته إيزابيلا بطرد أكثر من ربع مليون مسلم من إسبانيا في ما يصفه المؤرّخون بأنه اكبر عملية تطهير دينيّ في تاريخ أوربّا. ولم ينج من قرار الطرد حتى بعض أهل البلاد الأصليين من الإسبان الذين كانوا قد تحوّلوا إلى الإسلام. والأسوأ من ذلك أن هؤلاء مُنعوا من حمل أيّ أشياء أو ممتلكات معهم قبل أن يلجئوا إلى شمال أفريقيا. كما أقام فرديناند وزوجته محاكم التفتيش وأمرا بتحويل جامع قرطبة إلى كاتدرائية كاثوليكية وبإحراق مئات آلاف الكتب العربية.
لكنّ الحكّام الجدد فعلوا في ما بعد شيئا لا يمكن تصديقه. فقبل وفاة كلّ من فرديناند وزوجته، أمرا بأن تُدفن رفاتهما في إحدى زوايا قصر الحمراء وتحت عامود منقوش عليه إحدى آيات القرآن الكريم. المؤرّخون احتاروا في تفسير هذا التصرّف الغريب. بعضهم قال إن فرديناند أراد من وراء ذلك تأكيد سلطته الكاثوليكية المطلقة والتي لا تقبل المساومة. والبعض الآخر اعتبر ذلك خيارا غريبا لمسيحيَّين كانا، برغم العلاقة المعقّدة بين الكاثوليك والمسلمين، ما يزالان مفتونين بكلّ يمتّ لمحتلّيهم المسلمين بِصِلة.
Credits
gutenberg.org
gutenberg.org