لا بد وأن الكثيرين منّا راودتهم ذات يوم فكرة كتابة رواية، على أساس أن لديهم من القصص ومن تجارب الحياة ما يستحقّ أن يُكتب ويطّلع عليه الناس. ومنذ عامين عبرت هذه الفكرة الطفولية رأسي على حين غرّة. وقلت في نفسي: يجب قبل أن اشرع في الكتابة أن اقرأ، بالإضافة إلى ما كنت قرأته من قبل، عشرين رواية على الأقلّ وأن أركّز بشكل خاصّ على أساليب وتقنيّات السرد وأوازن وأقارن في ما بينها وصولا إلى اختيار شكل الكتابة الذي سأعتمده.
ولأنّني من المعجبين بالفانتازيا التاريخية أو ما يُسمّى أحيانا بالواقعية السحرية، فقد رسمت في ذهني بعض القصص والأمكنة والشخصيات، واخترت بطلا للرواية المتصوَّرة شابّا في الأربعين من عمره اسمه غالب، وهو شخصية متخيّلة وسليل عائلة عريقة تعيش في نيودلهي بالهند، لكن أصولها تعود إلى منطقة القوقاز في آسيا الصغرى.
وقائع الرواية المفترضة تبدأ بمشهد لغالب وهو يقف متأمّلا قصرا اثريّا على طريق الحرير في إحدى بلدات ما يُعرف اليوم بـ اوزبكستان. القصر مبنيّ على الطراز المغربيّ ويضمّ حديقة واسعة مزروعة بالنباتات الغريبة تتخلّلها تماثيل لأسود ونوافير تغذّيها جداول صغيرة تنساب من الجبال القريبة. هذا المكان يُفترض انه نقطة الانطلاق التي يبدأ منها البطل رواية تاريخ عائلته البعيد وترحال أفرادها من بلد لآخر والصراعات والأدوار والحروب المختلفة التي صنعت أقدار الناس هناك وشكّلت تاريخ تلك المناطق عبر العصور المتعاقبة.
الشخصيات والقصص التي يُفترض أن تملأ فراغات السرد بعضها متخيّل وبعضها الآخر حقيقيّ، مثل رسّام المنمنمات الفارسيّ نادر الزمان والسلطان بهادور شاه آخر سلالة ملوك المغول الذين حكموا الهند، بالإضافة إلى الأمير غِيراي خان الذي كان حاكما على إحدى خانيّات القرم في القرن السادس عشر.
مضت على تلك الفكرة فترة ليست بالقصيرة وكنت انتظر توفّر الوقت الذي يسمح بدراسة كلّ ما له علاقة بتاريخ وآداب وثقافة وجغرافيا تلك المناطق قبل الشروع في الكتابة. لكن نظرا للمشاغل والارتباطات الكثيرة، فقد توارت الفكرة من ذهني بعد أن حلّ مكانها اهتمامات أخرى ومع مرور الأيّام نسيتها نهائيّا تقريبا.
وقبل أيّام، اتّصل بي صديق قديم محيّيا واقترح عليّ أن نلتقي في احد المقاهي كي نشرب القهوة معا ونتحادث في بعض الأمور، فوافقت. وفي الموعد المحدّد التقينا. وبعد السلام والسؤال عن الأحوال قال: أعرف صديقا من الوجهاء. هذا الشخص عاش حياة حافلة بالانجازات والأحداث، وقد عرك الحياة وعركته كما يقال. وهو يفكّر في تسجيل ما تختزنه ذاكرته من أحداث مثيرة وقصص مشوّقة في كتاب على هيئة رواية، لأنه يعتقد أن ما مرّ به في الحياة من تجارب ودروس يستحقّ أن يُدوّن وأن يقرأه ويستفيد منه الناس. وقد سلّمني الرجل شيكا مفتوحا وطلب منّي أن أبحث عن شخص مناسب للقيام بهذه المهمّة، فتذكّرتك وأحببت أن اسمع رأيك في الموضوع.
قلت: أوّلا أريد أن أشكرك على حسن ظنّك. وثانيا لا اعتقد أنني الشخص المناسب لكتابة رواية. صحيح أنني أحبّ الكتابة، ولكنّني كنت وسأظلّ مجرّد كاتب هاوٍ. ثمّ قلت وأنا أتذكّر مشروع تلك الرواية التي لم يُقدّر لها أن ترى النور: كتابة رواية مسألة في غاية الصعوبة وتتطلّب الموهبة والكثير من الوقت والبحث والجهد.
ولأنّني من المعجبين بالفانتازيا التاريخية أو ما يُسمّى أحيانا بالواقعية السحرية، فقد رسمت في ذهني بعض القصص والأمكنة والشخصيات، واخترت بطلا للرواية المتصوَّرة شابّا في الأربعين من عمره اسمه غالب، وهو شخصية متخيّلة وسليل عائلة عريقة تعيش في نيودلهي بالهند، لكن أصولها تعود إلى منطقة القوقاز في آسيا الصغرى.
وقائع الرواية المفترضة تبدأ بمشهد لغالب وهو يقف متأمّلا قصرا اثريّا على طريق الحرير في إحدى بلدات ما يُعرف اليوم بـ اوزبكستان. القصر مبنيّ على الطراز المغربيّ ويضمّ حديقة واسعة مزروعة بالنباتات الغريبة تتخلّلها تماثيل لأسود ونوافير تغذّيها جداول صغيرة تنساب من الجبال القريبة. هذا المكان يُفترض انه نقطة الانطلاق التي يبدأ منها البطل رواية تاريخ عائلته البعيد وترحال أفرادها من بلد لآخر والصراعات والأدوار والحروب المختلفة التي صنعت أقدار الناس هناك وشكّلت تاريخ تلك المناطق عبر العصور المتعاقبة.
الشخصيات والقصص التي يُفترض أن تملأ فراغات السرد بعضها متخيّل وبعضها الآخر حقيقيّ، مثل رسّام المنمنمات الفارسيّ نادر الزمان والسلطان بهادور شاه آخر سلالة ملوك المغول الذين حكموا الهند، بالإضافة إلى الأمير غِيراي خان الذي كان حاكما على إحدى خانيّات القرم في القرن السادس عشر.
مضت على تلك الفكرة فترة ليست بالقصيرة وكنت انتظر توفّر الوقت الذي يسمح بدراسة كلّ ما له علاقة بتاريخ وآداب وثقافة وجغرافيا تلك المناطق قبل الشروع في الكتابة. لكن نظرا للمشاغل والارتباطات الكثيرة، فقد توارت الفكرة من ذهني بعد أن حلّ مكانها اهتمامات أخرى ومع مرور الأيّام نسيتها نهائيّا تقريبا.
وقبل أيّام، اتّصل بي صديق قديم محيّيا واقترح عليّ أن نلتقي في احد المقاهي كي نشرب القهوة معا ونتحادث في بعض الأمور، فوافقت. وفي الموعد المحدّد التقينا. وبعد السلام والسؤال عن الأحوال قال: أعرف صديقا من الوجهاء. هذا الشخص عاش حياة حافلة بالانجازات والأحداث، وقد عرك الحياة وعركته كما يقال. وهو يفكّر في تسجيل ما تختزنه ذاكرته من أحداث مثيرة وقصص مشوّقة في كتاب على هيئة رواية، لأنه يعتقد أن ما مرّ به في الحياة من تجارب ودروس يستحقّ أن يُدوّن وأن يقرأه ويستفيد منه الناس. وقد سلّمني الرجل شيكا مفتوحا وطلب منّي أن أبحث عن شخص مناسب للقيام بهذه المهمّة، فتذكّرتك وأحببت أن اسمع رأيك في الموضوع.
قلت: أوّلا أريد أن أشكرك على حسن ظنّك. وثانيا لا اعتقد أنني الشخص المناسب لكتابة رواية. صحيح أنني أحبّ الكتابة، ولكنّني كنت وسأظلّ مجرّد كاتب هاوٍ. ثمّ قلت وأنا أتذكّر مشروع تلك الرواية التي لم يُقدّر لها أن ترى النور: كتابة رواية مسألة في غاية الصعوبة وتتطلّب الموهبة والكثير من الوقت والبحث والجهد.
قال: هذا صحيح لو انك تريد أن تكتب رواية من لا شيء أو من نقطة الصفر. لكنّ مادّة الكتابة متوفّرة، وأنت لن تخترع أحداثا وقصصا وشخصيّات من عندك، لأنها موجودة بالفعل، وكلّ ما عليك فعله هو أن تصوغ هذه الأحداث والحكايات وترتّبها وتربط في ما بينها كي تأخذ شكل رواية.
المهم، استمرّ الحديث بيننا حوالي الساعة، وفي النهاية عبّرت له عن أسفي لأنني، بصدق، لا املك الأدوات ولا الامكانيّات التي تؤهّلني للقيام بتلك المهمّة التي طلبها.
وأنا في طريق العودة إلى البيت، فكّرت في ما دار بيننا من حديث وفي الكيفية التي ينظر بها بعض الناس إلى العمل الروائي. لاحظت، مثلا، أن الكثيرين يستسهلون كتابة رواية ويظنّون، خطئا، انك لكي تكتب رواية فإن كلّ ما يلزمك هو أن تحشد فيها مجموعة من الحكايات والحواديث وانتهى الأمر. في حين أن الرواية تُعتبر من اعقد أشكال الأدب، والذين يجيدون كتابتها قليلون لأنها تتطلّب مستوى عاليا من المهارة والقدرة على الابتكار والتخيّل، مع إلمام بشيء من التاريخ والفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس وما إلى ذلك من معارف وعلوم.
ولكي تكون رواية ما ناجحة، يجب أن تكون أحداثها منطقية بحيث يمكن تصديقها، وأن تكون مثيرة وممتعة ومسليّة. كما يجب أن تكون للرواية "ثيمة" أو فكرة ما ترتكز عليها، كالصراع بين الخير والشر أو محاولة اكتشاف معنى للحياة.. إلى آخره.
ولا يقلّ عن هذا أهمية أن يكون من يتصدّى للكتابة شخصا خبيرا في رسم وبناء شخصيّات الرواية بحيث تنمو كلّ شخصية نموّا طبيعيا ومقنعا بما يتناغم مع البناء السرديّ العام للرواية. قبل أسابيع، استمعت إلى حوار مع الكاتبة التشيلية إيزابيل آيندي، وكانت تتحدّث عن روايتها المشهورة بيت الأرواح. ولفت انتباهي قولها أنها عندما فرغت من كتابة تلك الرواية دفعت بنسختها الأوليّة إلى زوجها، وهو مهندس معماريّ، كي يبدي رأيه فيها. فقال لها: الرواية جيّدة ومعقولة. لكنّي لاحظت أن الأشخاص فيها لا يكبرون أبدا، بل يبدون وكأنهم متجمّدون في لحظة ما من الزمن". ثم اخذ ورقة ورسم عليها عدّة خطوط بيانية ودوّن على كلّ خطّ تاريخا محدّدا. وبعد ذلك قام بتوزيع الشخصيات على تلك الخطوط بطريقة تكشف عن التطوّر الزمني لكلّ شخصية. الشاهد من هذا الكلام هو انه حتى الرسم البياني قد يجد من يكتب رواية، خاصّة إن كانت من النوع الذي يتضمّن أحداثا وشخصيّات كثيرة جدّا، حاجة لأن يلمّ به لأنه يساعده في تصوّر المسار الزمني الذي تسلكه كلّ شخصية وتعبر فيه من مرحلة لأخرى.
ومن الأمور الأخرى المهمّة في كتابة رواية ناجحة، أن يكون استهلالها، أي الأسطر الأربعة أو الخمسة الأولى منها، قويّة ومؤثّرة بحيث تشدّ انتباه القارئ وتحرّضه على متابعة القراءة. ويقال إن الاستهلال القويّ في رواية آنا كارينينا لـ تولستوي هو احد العناصر المهمّة التي دفعت النقّاد لاعتبار هذه الرواية أفضل رواية في العالم. ومن الروايات العالمية الأخرى ذات الاستهلال الرائع والقويّ رواية الكبرياء والهوى لـ جين اوستن.
قد تقرأ مثلا قصّة قصيرة أو خبرا أو حتى تحقيقا في صحيفة، وربّما تكون عايشت أو سمعت في احد الأيّام قصّة غريبة من صديق أو زميل، وقد تصحو ذات يوم وفي ذهنك بقايا من حلم رأيته في الليلة الفائتة، فتشعر أن ما قرأته أو سمعته أو رأيته فتح بداخلك دروبا وممرّات يمكن أن تقودك إلى شرارة الإلهام التي لطالما انتظرتها لكتابة رواية جميلة ومتميّزة. وبطبيعة الحال، كلّ إنسان يرى في نفسه القدرة والكفاءة يمكنه أن يكتب رواية. ومثل هذا الطموح أو الحلم يمكن تحقيقه وتحويله إلى واقع من خلال القراءة الدائبة والمستمرّة والاستفادة من تجارب الآخرين.
المهم، استمرّ الحديث بيننا حوالي الساعة، وفي النهاية عبّرت له عن أسفي لأنني، بصدق، لا املك الأدوات ولا الامكانيّات التي تؤهّلني للقيام بتلك المهمّة التي طلبها.
وأنا في طريق العودة إلى البيت، فكّرت في ما دار بيننا من حديث وفي الكيفية التي ينظر بها بعض الناس إلى العمل الروائي. لاحظت، مثلا، أن الكثيرين يستسهلون كتابة رواية ويظنّون، خطئا، انك لكي تكتب رواية فإن كلّ ما يلزمك هو أن تحشد فيها مجموعة من الحكايات والحواديث وانتهى الأمر. في حين أن الرواية تُعتبر من اعقد أشكال الأدب، والذين يجيدون كتابتها قليلون لأنها تتطلّب مستوى عاليا من المهارة والقدرة على الابتكار والتخيّل، مع إلمام بشيء من التاريخ والفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس وما إلى ذلك من معارف وعلوم.
ولكي تكون رواية ما ناجحة، يجب أن تكون أحداثها منطقية بحيث يمكن تصديقها، وأن تكون مثيرة وممتعة ومسليّة. كما يجب أن تكون للرواية "ثيمة" أو فكرة ما ترتكز عليها، كالصراع بين الخير والشر أو محاولة اكتشاف معنى للحياة.. إلى آخره.
ولا يقلّ عن هذا أهمية أن يكون من يتصدّى للكتابة شخصا خبيرا في رسم وبناء شخصيّات الرواية بحيث تنمو كلّ شخصية نموّا طبيعيا ومقنعا بما يتناغم مع البناء السرديّ العام للرواية. قبل أسابيع، استمعت إلى حوار مع الكاتبة التشيلية إيزابيل آيندي، وكانت تتحدّث عن روايتها المشهورة بيت الأرواح. ولفت انتباهي قولها أنها عندما فرغت من كتابة تلك الرواية دفعت بنسختها الأوليّة إلى زوجها، وهو مهندس معماريّ، كي يبدي رأيه فيها. فقال لها: الرواية جيّدة ومعقولة. لكنّي لاحظت أن الأشخاص فيها لا يكبرون أبدا، بل يبدون وكأنهم متجمّدون في لحظة ما من الزمن". ثم اخذ ورقة ورسم عليها عدّة خطوط بيانية ودوّن على كلّ خطّ تاريخا محدّدا. وبعد ذلك قام بتوزيع الشخصيات على تلك الخطوط بطريقة تكشف عن التطوّر الزمني لكلّ شخصية. الشاهد من هذا الكلام هو انه حتى الرسم البياني قد يجد من يكتب رواية، خاصّة إن كانت من النوع الذي يتضمّن أحداثا وشخصيّات كثيرة جدّا، حاجة لأن يلمّ به لأنه يساعده في تصوّر المسار الزمني الذي تسلكه كلّ شخصية وتعبر فيه من مرحلة لأخرى.
ومن الأمور الأخرى المهمّة في كتابة رواية ناجحة، أن يكون استهلالها، أي الأسطر الأربعة أو الخمسة الأولى منها، قويّة ومؤثّرة بحيث تشدّ انتباه القارئ وتحرّضه على متابعة القراءة. ويقال إن الاستهلال القويّ في رواية آنا كارينينا لـ تولستوي هو احد العناصر المهمّة التي دفعت النقّاد لاعتبار هذه الرواية أفضل رواية في العالم. ومن الروايات العالمية الأخرى ذات الاستهلال الرائع والقويّ رواية الكبرياء والهوى لـ جين اوستن.
قد تقرأ مثلا قصّة قصيرة أو خبرا أو حتى تحقيقا في صحيفة، وربّما تكون عايشت أو سمعت في احد الأيّام قصّة غريبة من صديق أو زميل، وقد تصحو ذات يوم وفي ذهنك بقايا من حلم رأيته في الليلة الفائتة، فتشعر أن ما قرأته أو سمعته أو رأيته فتح بداخلك دروبا وممرّات يمكن أن تقودك إلى شرارة الإلهام التي لطالما انتظرتها لكتابة رواية جميلة ومتميّزة. وبطبيعة الحال، كلّ إنسان يرى في نفسه القدرة والكفاءة يمكنه أن يكتب رواية. ومثل هذا الطموح أو الحلم يمكن تحقيقه وتحويله إلى واقع من خلال القراءة الدائبة والمستمرّة والاستفادة من تجارب الآخرين.