اعتاد المؤرّخون على أن يتعاملوا مع هيرودوت بشيء من التعالي، لأنه كان ميّالا لأن يسلّي قرّاءه بحكايات عن بشر لهم رؤوس كالكلاب وعن نمل يحفر بحثا عن الذهب وعن ثعابين تطير في الهواء. شيشرون، المؤرّخ الروماني، أطلق عليه لقب "أبو التاريخ"، لكن بلوتارك وصفه في وقت لاحق بـ "أبو الأكاذيب".
في هذا الكتاب بعنوان "طريق هيرودوت: رحلات مع الرجل الذي ابتكر التاريخ"، يتتبّع الكاتب والرحّالة البريطاني جستين ماروتزي خطى هيرودوت عبر الشرق الأوسط والبحر المتوسّط، ويدرس ملاحظاته التي كتبها قبل ألفين وخمسمائة عام عن الثقافات والأماكن التي زارها.
قبل أكثر من ألفي عام، كانت المدن اليونانية تتناثر على سواحل تخوم آسيا. ولم يكن اختيار أيّ من تلك المدن كنقطة انطلاق أمرا صعبا بالنسبة لرجل مثل هيرودوت كان يعشق السفر والترحال. كانت مصر تبعد أقلّ من أربعمائة ميل إلى الجنوب. وكانت جزر بحر إيجه ومدنها تقع على بعد أمتار من عتبة منزله. وعبر الماء، كانت أثينا العظيمة تتلألأ مثل منارة. وإلى الشرق، يقع مركز الإمبراطورية الفارسية وبابل وما وراءها.
ومثل مستكشف من القرن التاسع عشر ينفض الغبار الأفريقيّ عن حذائه بينما يحاضر في قاعات الجمعية الجغرافية الملكية عن قبيلة غامضة، فإن هيرودوت يأخذنا إلى العالم الغامض لليبيين والفرس والمصريين والإثيوبيين والبابليين والهنود. وهو يتساءل: من هم هؤلاء الناس، ومن أين جاءوا، وما هي عاداتهم وبماذا يختلفون عنّا من حيث أحوالهم السياسية والاجتماعية والمعمارية والدينية والتجارية، وماذا يمكننا أن نتعلّم منهم؟
يقول ماروتزي في مقدّمة الكتاب: قد يكون هيرودوت عاش قبل أربعة وعشرين قرنا، لكنه ينتمي إلى عالمنا المعاصر، عالم القرن الحادي والعشرين. انه ليس أبا للتاريخ فحسب، بل كان أيضا أوّل كاتب رحلات في العالم، وكان عالم جغرافيا وعالم أنثروبولوجيا ومستكشفا وفيلسوفا وأخلاقيا ومحقّقا صحفيا دءوبا وداعية متنوّرا لتعدّد الثقافات حتى قبل أن توجد الكلمة. وبالإضافة إلى ذلك، كان هيرودوت حكواتيا رائعا ورحّالة لا يعرف الكلل ومراقبا بارعا لأحوال البشر".
ماروتزي نفسه رحّالة مخضرم وصحفيّ مقدام وعابر للحدود الثقافية. وهو يعامل بطله بكثير من الإنصاف في هذا الكتاب المسلّي والمثير للفكر.
وهو يرى أن هيرودوت أكثر انتماءً إلى عصرنا من كثير من الكتّاب. فقد كان يكتب نثرا سهلا ورائعا، كما كان يحبّ السرد الجيّد الذي تتخلّله تعليقات جانبية محبّبة وطريفة. في كتابه "التواريخ" قصص مسهبة عن رجال برؤوس كلاب وثعابين تطير كما لو أنها تبحث عن فضاء داخل سرد هيرودوت الفتّان عن الحروب الفارسية التي خرجت منها اليونان منتصرة في العام الخامس قبل الميلاد مفسحة المجال أمام ولادة الحضارة الغربية.
وماروتزي ينسب الفضل لهيرودوت في اختراع مصطلح "الغرب" كمفهوم سياسيّ ويأسف لأنه لا بوش ولا بلير رأيا انه من المناسب أن يقرءا كتاب "التواريخ" قبل غزوهما للعراق.
ويتوقّف المؤلّف عند كتاب بلوتارك بعنوان عن خبث هيرودوت والذي تحوّل فيه هيرودوت إلى أبي الأكاذيب. وماروتزي يرفض هذا الوصف ويرى بأنه وصف خياليّ ومؤسف ولا يختلف كثيرا عن الذين سخروا من هيرودوت في وقت لاحق باعتباره ناشرا ومروّجا للخرافات. "أيّا ما كانت عيوب هيرودوت كمؤرّخ، وهو عادة ما يُتّهم وبطريقة غير منصفة أحيانا باختلاق بعض القصص، إلا انه يظلّ أكثر قابلية للقراءة من معظم من أتوا بعده من الرحّالة".
أحد مصادر المتعة في هذا الكتاب هو أن المؤلّف يسافر بصحبة القارئ إلى الأماكن والبلدان التي ذهب إليها هيرودوت أو عاش فيها، ويقرن ذلك بالأوصاف الجميلة والملاحظات الذكيّة والممتعة. ويبدأ رحلة الاكتشاف تلك بزيارة لبلدة بودروم مسقط رأس هيرودوت؛ تلك المدينة القديمة الواقعة على ساحل بحر إيجه والتي كانت تُسمّى في زمن هيرودوت بـ هاليكارناسوس.
ثمّ يذهب المؤلّف إلى بغداد التي لم تكن موجودة على أيّام هيرودوت، وإلى بابل وهي مكان لحضارات سبقت هيرودوت بأكثر من ألف وثلاثمائة عام. ثمّ يحلّ في مصر قبل أن يعود إدراجه إلى سالونيك وأثينا والأرخبيل اليونانيّ. وبين كلّ مكان وآخر، يورد ماروتزي تلميحات ثمينة ذكرها هيرودوت في "التواريخ" عن أسفاره وتنقّلاته.
في مصر، كان هيرودوت أكثر اهتماما بنهر النيل وتقنيات التحنيط من اهتمامه بالأهرام مثلا. ولا ينسى المؤلّف أن يزور أعجوبة العالم الثامنة، أي نفق يوبيلينوس في جزيرة ساموس. ويقول معلّقا: من الصعب أن يتحمّس الناس من اجل نفق. لكنّه يتحدّى الخفافيش والفئران". وبمساعدة مجموعة من خرائط الرسم، يحاول الكاتب بناء قضيّة لإدراج هذا النفق الأسطوري ضمن عجائب الدنيا القديمة.
وماروتزي ملاحظ دقيق للتفاصيل وهو يستخدم كتاب "التواريخ"، ليس كمصدر للمعلومات فحسب، وإنما كأداة للمقارنة والقياس والترفيه أيضا. وبالنسبة له، فإن الأرض والناس هما جزء لا يتجزّأ من بحثه عن هيرودوت، تماما كما كان هذا العنصران مهمّين بالنسبة للمؤرّخ.
أحد الأشياء التي يعلّمنا إيّاها هذا الكتاب هو أن التاريخ القديم ليس بالضرورة منقطع الصلة بعالم اليوم. فالعداء العرقي والجغرافي ما يزالان موجودين في هذا العالم ويتدثّران بحجج وأغراض وذرائع كثيرة ومختلفة.
وعلى الرغم من أن نظرة هيرودوت للعالم مضى عليها أكثر من ألفين وخمسمائة عام، إلا أنها ما تزال حديثة بشكل مدهش: احترموا العادات والثقافات الغريبة، وابقوا ضمن الحدود الطبيعية الخاصّة بكم، واحترسوا من التوسّع الإمبراطوري المفرط، وحذار من الغطرسة التي قد تقودكم إلى الانتقام، ولا تركنوا إلى أمجادكم القديمة وتذكّروا نصيحة الحكيم سولون إلى ملك ليديا الثريّ كرويسوس: أحيانا يمنح الله إنسانا لمحة من السعادة ثم لا يلبث أن يدمّره بعد ذلك".
كتاب "الرجل الذي ابتكر التاريخ" هو مزيج فاتن من الرحلات والتاريخ والقصص المسلّية التي وضعها كاتب موهوب وذو أسلوب مرهف، خاصّة عندما يصف الأماكن التي تشرّبت على مدى قرون طويلة بالكثير من الدم والشمس والعرق والبؤس البشري. وإذا أعجبك موضوع هذا الكتاب فاحرص على أن تقرأ كتابا آخر لا يقلّ أهمية وشهرة هو رحلات مع هيرودوت للصحفيّ البولندي ريشارد كابوشتنسكي.
في هذا الكتاب بعنوان "طريق هيرودوت: رحلات مع الرجل الذي ابتكر التاريخ"، يتتبّع الكاتب والرحّالة البريطاني جستين ماروتزي خطى هيرودوت عبر الشرق الأوسط والبحر المتوسّط، ويدرس ملاحظاته التي كتبها قبل ألفين وخمسمائة عام عن الثقافات والأماكن التي زارها.
قبل أكثر من ألفي عام، كانت المدن اليونانية تتناثر على سواحل تخوم آسيا. ولم يكن اختيار أيّ من تلك المدن كنقطة انطلاق أمرا صعبا بالنسبة لرجل مثل هيرودوت كان يعشق السفر والترحال. كانت مصر تبعد أقلّ من أربعمائة ميل إلى الجنوب. وكانت جزر بحر إيجه ومدنها تقع على بعد أمتار من عتبة منزله. وعبر الماء، كانت أثينا العظيمة تتلألأ مثل منارة. وإلى الشرق، يقع مركز الإمبراطورية الفارسية وبابل وما وراءها.
ومثل مستكشف من القرن التاسع عشر ينفض الغبار الأفريقيّ عن حذائه بينما يحاضر في قاعات الجمعية الجغرافية الملكية عن قبيلة غامضة، فإن هيرودوت يأخذنا إلى العالم الغامض لليبيين والفرس والمصريين والإثيوبيين والبابليين والهنود. وهو يتساءل: من هم هؤلاء الناس، ومن أين جاءوا، وما هي عاداتهم وبماذا يختلفون عنّا من حيث أحوالهم السياسية والاجتماعية والمعمارية والدينية والتجارية، وماذا يمكننا أن نتعلّم منهم؟
يقول ماروتزي في مقدّمة الكتاب: قد يكون هيرودوت عاش قبل أربعة وعشرين قرنا، لكنه ينتمي إلى عالمنا المعاصر، عالم القرن الحادي والعشرين. انه ليس أبا للتاريخ فحسب، بل كان أيضا أوّل كاتب رحلات في العالم، وكان عالم جغرافيا وعالم أنثروبولوجيا ومستكشفا وفيلسوفا وأخلاقيا ومحقّقا صحفيا دءوبا وداعية متنوّرا لتعدّد الثقافات حتى قبل أن توجد الكلمة. وبالإضافة إلى ذلك، كان هيرودوت حكواتيا رائعا ورحّالة لا يعرف الكلل ومراقبا بارعا لأحوال البشر".
ماروتزي نفسه رحّالة مخضرم وصحفيّ مقدام وعابر للحدود الثقافية. وهو يعامل بطله بكثير من الإنصاف في هذا الكتاب المسلّي والمثير للفكر.
وهو يرى أن هيرودوت أكثر انتماءً إلى عصرنا من كثير من الكتّاب. فقد كان يكتب نثرا سهلا ورائعا، كما كان يحبّ السرد الجيّد الذي تتخلّله تعليقات جانبية محبّبة وطريفة. في كتابه "التواريخ" قصص مسهبة عن رجال برؤوس كلاب وثعابين تطير كما لو أنها تبحث عن فضاء داخل سرد هيرودوت الفتّان عن الحروب الفارسية التي خرجت منها اليونان منتصرة في العام الخامس قبل الميلاد مفسحة المجال أمام ولادة الحضارة الغربية.
وماروتزي ينسب الفضل لهيرودوت في اختراع مصطلح "الغرب" كمفهوم سياسيّ ويأسف لأنه لا بوش ولا بلير رأيا انه من المناسب أن يقرءا كتاب "التواريخ" قبل غزوهما للعراق.
ويتوقّف المؤلّف عند كتاب بلوتارك بعنوان عن خبث هيرودوت والذي تحوّل فيه هيرودوت إلى أبي الأكاذيب. وماروتزي يرفض هذا الوصف ويرى بأنه وصف خياليّ ومؤسف ولا يختلف كثيرا عن الذين سخروا من هيرودوت في وقت لاحق باعتباره ناشرا ومروّجا للخرافات. "أيّا ما كانت عيوب هيرودوت كمؤرّخ، وهو عادة ما يُتّهم وبطريقة غير منصفة أحيانا باختلاق بعض القصص، إلا انه يظلّ أكثر قابلية للقراءة من معظم من أتوا بعده من الرحّالة".
أحد مصادر المتعة في هذا الكتاب هو أن المؤلّف يسافر بصحبة القارئ إلى الأماكن والبلدان التي ذهب إليها هيرودوت أو عاش فيها، ويقرن ذلك بالأوصاف الجميلة والملاحظات الذكيّة والممتعة. ويبدأ رحلة الاكتشاف تلك بزيارة لبلدة بودروم مسقط رأس هيرودوت؛ تلك المدينة القديمة الواقعة على ساحل بحر إيجه والتي كانت تُسمّى في زمن هيرودوت بـ هاليكارناسوس.
ثمّ يذهب المؤلّف إلى بغداد التي لم تكن موجودة على أيّام هيرودوت، وإلى بابل وهي مكان لحضارات سبقت هيرودوت بأكثر من ألف وثلاثمائة عام. ثمّ يحلّ في مصر قبل أن يعود إدراجه إلى سالونيك وأثينا والأرخبيل اليونانيّ. وبين كلّ مكان وآخر، يورد ماروتزي تلميحات ثمينة ذكرها هيرودوت في "التواريخ" عن أسفاره وتنقّلاته.
في مصر، كان هيرودوت أكثر اهتماما بنهر النيل وتقنيات التحنيط من اهتمامه بالأهرام مثلا. ولا ينسى المؤلّف أن يزور أعجوبة العالم الثامنة، أي نفق يوبيلينوس في جزيرة ساموس. ويقول معلّقا: من الصعب أن يتحمّس الناس من اجل نفق. لكنّه يتحدّى الخفافيش والفئران". وبمساعدة مجموعة من خرائط الرسم، يحاول الكاتب بناء قضيّة لإدراج هذا النفق الأسطوري ضمن عجائب الدنيا القديمة.
وماروتزي ملاحظ دقيق للتفاصيل وهو يستخدم كتاب "التواريخ"، ليس كمصدر للمعلومات فحسب، وإنما كأداة للمقارنة والقياس والترفيه أيضا. وبالنسبة له، فإن الأرض والناس هما جزء لا يتجزّأ من بحثه عن هيرودوت، تماما كما كان هذا العنصران مهمّين بالنسبة للمؤرّخ.
أحد الأشياء التي يعلّمنا إيّاها هذا الكتاب هو أن التاريخ القديم ليس بالضرورة منقطع الصلة بعالم اليوم. فالعداء العرقي والجغرافي ما يزالان موجودين في هذا العالم ويتدثّران بحجج وأغراض وذرائع كثيرة ومختلفة.
وعلى الرغم من أن نظرة هيرودوت للعالم مضى عليها أكثر من ألفين وخمسمائة عام، إلا أنها ما تزال حديثة بشكل مدهش: احترموا العادات والثقافات الغريبة، وابقوا ضمن الحدود الطبيعية الخاصّة بكم، واحترسوا من التوسّع الإمبراطوري المفرط، وحذار من الغطرسة التي قد تقودكم إلى الانتقام، ولا تركنوا إلى أمجادكم القديمة وتذكّروا نصيحة الحكيم سولون إلى ملك ليديا الثريّ كرويسوس: أحيانا يمنح الله إنسانا لمحة من السعادة ثم لا يلبث أن يدمّره بعد ذلك".
كتاب "الرجل الذي ابتكر التاريخ" هو مزيج فاتن من الرحلات والتاريخ والقصص المسلّية التي وضعها كاتب موهوب وذو أسلوب مرهف، خاصّة عندما يصف الأماكن التي تشرّبت على مدى قرون طويلة بالكثير من الدم والشمس والعرق والبؤس البشري. وإذا أعجبك موضوع هذا الكتاب فاحرص على أن تقرأ كتابا آخر لا يقلّ أهمية وشهرة هو رحلات مع هيرودوت للصحفيّ البولندي ريشارد كابوشتنسكي.
Credits
atravelerslibrary.com
popmatters.com
atravelerslibrary.com
popmatters.com