الرسم مهنة فيها نبل وإبداع. وفي الواقع هناك قيمة في فعل الرسم. وأن ترسم معناه أن ترى الأشياء بعينين مختلفتين.
من بين الرسّامين الذين رأيت أعمالهم في مرحلة مبكّرة الفرنسيّ كلود لورين. عاش هذا الرسّام وعمل معظم حياته في ايطاليا. وعندما ترى لوحاته لا بدّ أن تتذكّر فورا مناظر مواطنه الفنّان نيكولا بُوسان.
هذا الأخير قضى، هو أيضا، الجزء الأكبر من حياته في ايطاليا. وقد أصبح الاثنان من الرسّامين الأكثر احترافا في القرن السابع عشر. كما أصبحت طبيعتهما الكلاسيكية ملمحا ثابتا في الرسم الغربيّ.
بُوسان كان يهتمّ في الأساس بتصوير مناظر من العهد القديم، بينما كان لورين منجذبا أكثر إلى الأساطير القديمة. وكلا الاثنين يشتركان في أن لمناظرهما لمسة نحتية لا تخطئها العين.
بالنسبة للورين، قد ترى بعض لوحاته ثم لا تلبث أن تنساها، لكنها سرعان ما تعود مرّة أخرى إلى مركز الذاكرة. الأشخاص فيها يتراجعون إلى الوراء مفسحين المجال للمضمون العاطفيّ والانفعالي.
كما أنها تكشف عن مزاج رائق يركّز على مجاورة الطبيعة. وأنت تتأمّل بعضها تشعر بأن الضوء في الحقول والتلال خاصّ بذلك الوقت من اليوم وبحالة الجوّ نفسها. أما البشر فيها فغالبا ما يلعبون أدوارا ثانوية.
الموضوعات الكلاسيكية والدينية زمن لورين كانت تُعتبر معايير للرسم الراقي. وكان المثقّفون آنذاك يعرفون هذه الأفكار جيّدا ويرون فيها مصدرا لإلهام المناظر العظيمة في الرسم التاريخيّ.
طبيعة لورين المثالية المستمدّة من الأفكار الرومانية والإغريقية شكّلت حافزا للرسّامين الذين أتوا في ما بعد وكذلك لخبراء تشييد الحدائق ومصمّمي المناظر الطبيعية.
كان يرسم عالما مثاليّا من الحقول والمراعي والأودية بجوار القلاع والبلدات. ويمكنك أن ترى في رسوماته أشخاصا في المقدّمة أو في الزوايا، غير أن مواضيعه الحقيقية هي الأرض والماء والسماء. ولا بدّ وأن يلفت انتباهك تناوله المفصّل لرسم الأشجار والأغصان والأوراق.
الأغنياء الذين يشترون لوحاته هذه الأيّام لكي يضمّوها إلى مجموعاتهم الفنّية يُعجَبون على وجه الخصوص بتصويره الفخم لتفاصيل الطبيعة الايطالية.
وهناك العديد من مهندسي ومصمّمي المناظر الطبيعية والحدائق ممّن استلهموا أساليبهم الخاصّة من وحي لوحات لورين عن الأطلال والأشجار في فنّ الإغريق والرومان.
بل إن هناك من يقول إن هذا الرسّام هو المبتكر الفعليّ لأسلوب الحدائق الطبيعية الباروكية. وعادة فإن الأشياء الرئيسية التي تتألّف منها الحدائق هي التماثيل والكهوف الصغيرة والمعابد والمياه والممرّات.. إلى آخره.
لوحته فوق هي احد أشهر أعماله، وفيها يصوّر اينياس، احد أبطال الأساطير الإغريقية، كما رواها فرجيل في "الانيادا" وأوفيد في "التحوّلات".
واللوحة تقدّم منظرا عريضا لميناء جزيرة ديلوس يظهر فيه معمار كلاسيكيّ وبضعة أشخاص. أثيرية وضوء المشهد يعزّزهما منظر السماء الشاسعة الممتدّة الزرقاء والساطعة في الجزء الأماميّ. وفي الوسط لا تظهر سوى بضعة أشجار.
الشجرة الكبيرة في الوسط تقسم الفراغ عموديّا إلى نصفين. وبهذه الطريقة حقّق الفنان توازنا بين الصلابة والخفّة، خالقا انطباعا عن مكان هادئ وآمن. والناظر يرى المشهد من نقطة مرتفعة من فوق، وإلى يسار الرصيف الذي يقع عليه المعبد القريب.
وبهذه الكيفية يدعونا الرسّام لاكتشاف الفراغ الغامض للوحة في اتجاهات متعدّدة ومن خلال طرق وأسطح صورية مختلفة. وعينا المتلقّي تقودانه إلى التلال البعيدة وإلى ما وراء امتداد البحر.
المعبد الذي يظهر في الصورة يؤشّر إلى المهارة التي استخدم فيها لورين المنظور من اجل إيصال شعور بالمسافة وباتساع المنظر الطبيعيّ. وقد وظّف الألوان الباردة كي يخلق وهما بعمق الفراغ وبالحجم المتراجع للأشياء والأشخاص.
الألوان البيضاء والزرقاء والباردة توحي بالبعيد، مقارنة مع البنّي الأكثر دفئا والأخضر الداكن في المقدّمة. والأشجار بألوانها تبدو وكأنها مرتبطة ببرودة السماء ودفء الأرض.
لوحة كلود لورين هذه عن أحد أبطال حرب طروادة يقال أنها كانت اللوحة المفضّلة لملك فرنسا لويس السادس عشر، وربّما كان ذلك الملك يرى في نفسه شيئا من اينياس.
وفرجيل يقدّم هذا البطل وكأنه محميّ من قوّة إلهية. ومثل هذه الفكرة كانت مناسبة لتعزيز مجد ومكانة الملك الفرنسيّ كمندوب أو ممثّل للعناية الإلهية على الأرض.
درس لورين وعمل في روما أثناء عصر الباروك الذي امتدّ حوالي مائة وخمسين عاما. والمعروف أن الباروك نشأ كحركة إصلاح مضادّ مدعوم من الكنيسة. وفي ذلك العصر اتّجه الرسّامون إلى الموتيفات الكلاسيكية واهتمّوا برسم المناظر الطبيعية التي تشبه الحلم. وقد ضغطت عليهم الكنيسة وألزمتهم بأن يكون للوحاتهم سياق دينيّ وبأن تتحدّث إلى الجهّال والعوامّ وليس إلى المتعلّمين.
وبشكل عام، كان فنّ الباروك يركّز على القدّيسين والمادونات وغيرها من القصص الدينية المعروفة. لكن كان رسم الطبيعة وتفاصيل الحياة اليومية ما يزال يحظى ببعض الشعبية. ومن أهمّ السمات التي ميّزت رسم الباروك توظيف الألوان الغميقة والإضاءة المكثّفة والظلال الداكنة من اجل خلق إحساس بالدراما.
وفي حين كان عصر النهضة يُظهر اللحظة التي تسبق حدثا ما، كان فنّانو الباروك يختارون النقاط الأكثر دراماتيكية في الفعل أو الحدث. على سبيل المثال، رسم، أو على الأصحّ نحت ميكيل انجيلو تمثال ديفيد "أو داود" قبل أن يقاتل غولاياث "أو طالوت". وصفات داود، من قبيل قوّته ورغبته في القتال، هي هنا أهمّ من انتصاره.
وإجمالا يمكن القول بأن هدف فنّ الباروك كان استثارة الانفعالات والمشاعر بدلا من التفكير الرشيد والعقلانية الهادئة التي كانت قيما عالية ومرغوبة في عصر النهضة.
ولكي يغذّي رغبة العوامّ في رؤية أفكار نبيلة وسامية، رسم كلود لورين صورا تتضمّن أنصاف آلهة وأبطالا وقدّيسين، على الرغم من أن سنواته العديدة في الرسم تبرهن على انه كان مهتمّا أكثر بتصوير المناظر الطبيعية.
من بين الرسّامين الذين رأيت أعمالهم في مرحلة مبكّرة الفرنسيّ كلود لورين. عاش هذا الرسّام وعمل معظم حياته في ايطاليا. وعندما ترى لوحاته لا بدّ أن تتذكّر فورا مناظر مواطنه الفنّان نيكولا بُوسان.
هذا الأخير قضى، هو أيضا، الجزء الأكبر من حياته في ايطاليا. وقد أصبح الاثنان من الرسّامين الأكثر احترافا في القرن السابع عشر. كما أصبحت طبيعتهما الكلاسيكية ملمحا ثابتا في الرسم الغربيّ.
بُوسان كان يهتمّ في الأساس بتصوير مناظر من العهد القديم، بينما كان لورين منجذبا أكثر إلى الأساطير القديمة. وكلا الاثنين يشتركان في أن لمناظرهما لمسة نحتية لا تخطئها العين.
بالنسبة للورين، قد ترى بعض لوحاته ثم لا تلبث أن تنساها، لكنها سرعان ما تعود مرّة أخرى إلى مركز الذاكرة. الأشخاص فيها يتراجعون إلى الوراء مفسحين المجال للمضمون العاطفيّ والانفعالي.
كما أنها تكشف عن مزاج رائق يركّز على مجاورة الطبيعة. وأنت تتأمّل بعضها تشعر بأن الضوء في الحقول والتلال خاصّ بذلك الوقت من اليوم وبحالة الجوّ نفسها. أما البشر فيها فغالبا ما يلعبون أدوارا ثانوية.
الموضوعات الكلاسيكية والدينية زمن لورين كانت تُعتبر معايير للرسم الراقي. وكان المثقّفون آنذاك يعرفون هذه الأفكار جيّدا ويرون فيها مصدرا لإلهام المناظر العظيمة في الرسم التاريخيّ.
طبيعة لورين المثالية المستمدّة من الأفكار الرومانية والإغريقية شكّلت حافزا للرسّامين الذين أتوا في ما بعد وكذلك لخبراء تشييد الحدائق ومصمّمي المناظر الطبيعية.
كان يرسم عالما مثاليّا من الحقول والمراعي والأودية بجوار القلاع والبلدات. ويمكنك أن ترى في رسوماته أشخاصا في المقدّمة أو في الزوايا، غير أن مواضيعه الحقيقية هي الأرض والماء والسماء. ولا بدّ وأن يلفت انتباهك تناوله المفصّل لرسم الأشجار والأغصان والأوراق.
الأغنياء الذين يشترون لوحاته هذه الأيّام لكي يضمّوها إلى مجموعاتهم الفنّية يُعجَبون على وجه الخصوص بتصويره الفخم لتفاصيل الطبيعة الايطالية.
وهناك العديد من مهندسي ومصمّمي المناظر الطبيعية والحدائق ممّن استلهموا أساليبهم الخاصّة من وحي لوحات لورين عن الأطلال والأشجار في فنّ الإغريق والرومان.
بل إن هناك من يقول إن هذا الرسّام هو المبتكر الفعليّ لأسلوب الحدائق الطبيعية الباروكية. وعادة فإن الأشياء الرئيسية التي تتألّف منها الحدائق هي التماثيل والكهوف الصغيرة والمعابد والمياه والممرّات.. إلى آخره.
لوحته فوق هي احد أشهر أعماله، وفيها يصوّر اينياس، احد أبطال الأساطير الإغريقية، كما رواها فرجيل في "الانيادا" وأوفيد في "التحوّلات".
واللوحة تقدّم منظرا عريضا لميناء جزيرة ديلوس يظهر فيه معمار كلاسيكيّ وبضعة أشخاص. أثيرية وضوء المشهد يعزّزهما منظر السماء الشاسعة الممتدّة الزرقاء والساطعة في الجزء الأماميّ. وفي الوسط لا تظهر سوى بضعة أشجار.
الشجرة الكبيرة في الوسط تقسم الفراغ عموديّا إلى نصفين. وبهذه الطريقة حقّق الفنان توازنا بين الصلابة والخفّة، خالقا انطباعا عن مكان هادئ وآمن. والناظر يرى المشهد من نقطة مرتفعة من فوق، وإلى يسار الرصيف الذي يقع عليه المعبد القريب.
وبهذه الكيفية يدعونا الرسّام لاكتشاف الفراغ الغامض للوحة في اتجاهات متعدّدة ومن خلال طرق وأسطح صورية مختلفة. وعينا المتلقّي تقودانه إلى التلال البعيدة وإلى ما وراء امتداد البحر.
المعبد الذي يظهر في الصورة يؤشّر إلى المهارة التي استخدم فيها لورين المنظور من اجل إيصال شعور بالمسافة وباتساع المنظر الطبيعيّ. وقد وظّف الألوان الباردة كي يخلق وهما بعمق الفراغ وبالحجم المتراجع للأشياء والأشخاص.
الألوان البيضاء والزرقاء والباردة توحي بالبعيد، مقارنة مع البنّي الأكثر دفئا والأخضر الداكن في المقدّمة. والأشجار بألوانها تبدو وكأنها مرتبطة ببرودة السماء ودفء الأرض.
لوحة كلود لورين هذه عن أحد أبطال حرب طروادة يقال أنها كانت اللوحة المفضّلة لملك فرنسا لويس السادس عشر، وربّما كان ذلك الملك يرى في نفسه شيئا من اينياس.
وفرجيل يقدّم هذا البطل وكأنه محميّ من قوّة إلهية. ومثل هذه الفكرة كانت مناسبة لتعزيز مجد ومكانة الملك الفرنسيّ كمندوب أو ممثّل للعناية الإلهية على الأرض.
درس لورين وعمل في روما أثناء عصر الباروك الذي امتدّ حوالي مائة وخمسين عاما. والمعروف أن الباروك نشأ كحركة إصلاح مضادّ مدعوم من الكنيسة. وفي ذلك العصر اتّجه الرسّامون إلى الموتيفات الكلاسيكية واهتمّوا برسم المناظر الطبيعية التي تشبه الحلم. وقد ضغطت عليهم الكنيسة وألزمتهم بأن يكون للوحاتهم سياق دينيّ وبأن تتحدّث إلى الجهّال والعوامّ وليس إلى المتعلّمين.
وبشكل عام، كان فنّ الباروك يركّز على القدّيسين والمادونات وغيرها من القصص الدينية المعروفة. لكن كان رسم الطبيعة وتفاصيل الحياة اليومية ما يزال يحظى ببعض الشعبية. ومن أهمّ السمات التي ميّزت رسم الباروك توظيف الألوان الغميقة والإضاءة المكثّفة والظلال الداكنة من اجل خلق إحساس بالدراما.
وفي حين كان عصر النهضة يُظهر اللحظة التي تسبق حدثا ما، كان فنّانو الباروك يختارون النقاط الأكثر دراماتيكية في الفعل أو الحدث. على سبيل المثال، رسم، أو على الأصحّ نحت ميكيل انجيلو تمثال ديفيد "أو داود" قبل أن يقاتل غولاياث "أو طالوت". وصفات داود، من قبيل قوّته ورغبته في القتال، هي هنا أهمّ من انتصاره.
وإجمالا يمكن القول بأن هدف فنّ الباروك كان استثارة الانفعالات والمشاعر بدلا من التفكير الرشيد والعقلانية الهادئة التي كانت قيما عالية ومرغوبة في عصر النهضة.
ولكي يغذّي رغبة العوامّ في رؤية أفكار نبيلة وسامية، رسم كلود لورين صورا تتضمّن أنصاف آلهة وأبطالا وقدّيسين، على الرغم من أن سنواته العديدة في الرسم تبرهن على انه كان مهتمّا أكثر بتصوير المناظر الطبيعية.
Credits
claudelorrain.org
nationalgallery.org.uk
claudelorrain.org
nationalgallery.org.uk