:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الجمعة، يونيو 10، 2005

الشعور الجمعي

أمس، كان هناك ريبورتاج مصوّر في إحدى الفضائيات عن مظاهر الحياة في أحد بلدان الشرق الأقصى.
في الطرق وفي أماكن العمل والنشاط العام، كانت وجوه الناس متهلّلة مستبشرة..
وفي الشوارع، كانت السيارات تتحرّك بسهولة وانسيابية بالرغم من حالة الازدحام في أعداد المركبات والناس.
النظافة والترتيب والنظام كانت ثلاث سمات أساسية تختصر، بحقّ، عنوان المشهد بأكمله.
انتقلت الكاميرا بعد ذلك لتسجّل منظرا معبّرا استرعى انتباهي..
كانت هناك خمس فتيات تتراوح أعمارهن ما بين الثانية عشرة والخامسة عشرة. وقد أخرجت إحداهن من متاعها رغيفا وشرعت بتقطيعه ثم وزّعته على رفيقاتها واحدة تلو الأخرى. وفي النهاية لم يبق من الرغيف سوى قطعة صغيرة.
في الحقيقة كانت تلك هي القطعة الأصغر. وقد احتفظت بها لنفسها.
ثم توالت مشاهد أخرى لأفراد ومجموعات من الرجال والنساء يعملون بطريقة سلسة ومنظمة داخل مكاتب وغرف بدت نظيفة وأنيقة ومرتّبة.
ومن خلال الأحاديث والتعليقات المتبادلة في ما بينهم، يلمس المرء كمّية الانسجام والسلام التي تسود علاقات الأفراد وتطبع مبادلاتهم.
دفعتني تلك المشاهد إلى عقد مقارنة بين حال ذلك المجتمع الذي توفّر على قدر كبير من أدوات الحضارة والتنمية الحديثة .. وحال مجتمعنا.
بالطبع لا أريد أن أبدو مبالغا في التشاؤم والسوداوية.
لكن المتمعّن في أحوالنا يرى بوضوح طغيان مظاهر الأنانية والطمع وحبّ الذات والأثرة على حساب قيم إنسانية سامية ونبيلة اختفت من حياتنا أو كادت، كالإيثار والتكافل واحترام الغير.
هذه القيم يمكن أن تُختصر في ما يسمّى بالشعور الجمعي.
في الشارع، مثلا، يمكن أن تفاجأ بأحدهم وقد "سقط" عليك بسيّارته من حيث لا تتوقّع، متخيّلا أن الشارع ملكه هو وحده غير آبه ولا مبال بسلامة الآخرين وأمنهم.
وفي العمل يتنافس الزملاء على الترقيات والعلاوات والمكافآت، وكلّ واحد يحاول الفوز بنصيب الأسد، متجاهلا أن بين الآخرين من قد يكون أكثر استحقاقا للتقدير والاعتراف والتشجيع.
وفي السوق، لا يتورّع بعض التجّار وأرباب العمل عن انتهاج أكثر الأساليب دناءة وحطّة، من اجل هزم منافسيهم والإضرار بهم وبمصالحهم.
بل انك قد تجد حتى بين أفراد الأسرة الواحدة من يختصّ نفسه بالنصيب الأوفر من مال أو متاع، متناسيا أن للأفراد الآخرين حقوقا ومصالح لا ينبغي مصادرتها أو التنكّر لها على مذبح الأنانية وحبّ التسلّط.
ثم هناك المتنفّذون الذين يضعون أيديهم على الممتلكات العامّة من أراض وعقارات وخلافه، لمجرّد أنهم وحدهم من يملكون النفوذ والسلطة، ولا يهمّهم بعد ذلك إن كان غيرهم سيعانون الفقر والبؤس وقسوة الحياة نتيجة لأنانيّتهم وجشعهم.
وممّا يزيد الأمر سوءا غياب القدوة الصالحة. فالعوام، الذين يرون مظاهر الأنانية والجشع والظلم مستشرية وضاربة أطنابها في كلّ مكان، قد لا يجدون ما يخففون به إحساسهم بالاستلاب والغبن سوى انتهاج نفس الأساليب الانتهازية والأنانية.
إذ كيف بإمكانهم أن يكونوا مثاليين في مجتمع تنتفي فيه المثالية وتغيب القدوة الصالحة!
باعتقادي أن غياب الشعور الجمعي مردّه في الأساس غياب قيمتي العدالة والمساواة. غياب العدالة معناه أن القانون لا يعمل. أو أن القانون هو قانون الأقوى فقط. وربّما يعني في أسوأ الأحوال انه ليس هناك قانون من الأساس!
والأثر المترتّب على هذا هو انتفاء قيمة المساواة التي بدونها يستشري الظلم وتشيع مشاعر الإحباط والقهر والكراهية.
هذه المشاعر هي التي تدفع الأفراد والجماعات إلى التنكّر للكثير من القيم والأعراف الراسخة والمتوارثة، طالما أنها لا توفر لهم البقاء والعيش في بيئة أصبحت محكومة بقيم وأعراف أخرى مختلفة عما عهدوه ونشئوا عليه.
لا غرابة إذن أننا أصبحنا نقرأ ونسمع كثيرا عن انتشار ظواهر الفساد والرشوة والمحسوبية في مجتمعنا، ومعها وبنفس الوتيرة تتسع دائرة الأنانية والطمع واللهاث وراء المصالح الفردية.
وأوّل ضحايا مثل هذه الظواهر المفترسة والمدمّرة هم فئة الفقراء والغلابة ممّن ليس لهم سند ولا ظهر سوى الله.
والمخرج من هذه الأزمة الأخلاقية المستحكمة لن يتحقق إلا بإعادة النظر في القوانين وإصلاح جهاز القضاء والمباشرة في صياغة قوانين تحفظ للناس حقوقهم وتخضع كل صاحب سلطة أو نفوذ للمساءلة والمحاسبة.
المشكلة هي أننا أكثر أمم الأرض ترديدا للشعارات الدينية وأكثرها ميلا للحديث عن الأمانة والصدق والمساواة والإيثار والعدل والأخلاق .. الخ.
في حين أن واقعنا مختلف جدّا عما نقوله ونردّده..