:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الخميس، مايو 21، 2009

أفق الكلمات

(1) عيون الأفعى
أجلس هنا أفكّر في الطيور القدرية التي تزحف مسحورة باتجاه عيون الأفعى. إنها تثبّت عيونها على طائر. ويبدأ الطائر يرتعش في الحال وكأنه أصيب بنوبة هلاك ورعب تتسرّب من حنجرته. ويدرك عابر السبيل أن الأفعى قريبة منه. الطائر المسكين يجري تحت الغصن محاولا الهرب. لكنه يظلّ يسحب مقتربا. تلتفّ الأفعى حول جذع الشجرة شاخصة عينيها بصمت. ويظلّ الطائر يسحب مقتربا شيئا فشيئا ليسقط في النهاية في فم الأفعى المفتوح.
أجلس وأفكّر وأبكي من أجل الأشياء التي تجرّ نفسها مسحورة ويائسة نحو الموت.
- نيكوس كازانتزاكيس، روائي يوناني

(2) الطريق القديم
في كثير من الأحيان تأتي إليّ المعاناة والسعادة في موجة واحدة. ومن تلك اللحظات عندما ذهبت إلى غرفة نومي ذات ليلة. فور دخولي تملكّني الرعب والفزع والدهشة عندما وجدت ماريّا الجميلة مستلقية على سريري.
من بين كل المفاجآت التي أعدّتها هيرمينا لي، كانت تلك هي المفاجأة الأعنف.
لم أشكّ لحظة واحدة في أنها هي التي أرسلت إليّ ذلك العصفور من الجنّة.
ولم أكن قد التقيت هيرمينا في ذلك المساء كما هي عادتي. إذ كنت قد ذهبت إلى الكاتدرائية لأسمع بعض الموسيقى الدينية القديمة.
كانت رحلة جميلة - برغم ما فيها من حزن - إلى حياتي الماضية، إلى مرابع صباي وأرض ذاتي المثالية.
داخل البناء القوطي الذي كانت أسقفه تتمايل على إيقاع الأضواء المتناثرة، سمعت باكيلبيل وباخ وهايدن.
أعادني ذلك إلى نفس الطريق القديم الجميل مرّة أخرى.
الموسيقى القديمة بكلّ ما فيها من جلال ونبل وبهاء أعادت إلى الحياة كلّ سحر وحماس الشباب.
جلست في الحفل حزينا صامتا وأنا أتأمّل هذا العالم النبيل الذي كان بيتي ذات يوم.
وأثناء عزف "دويتو" هايدن امتلأت عيناي بالدموع. ودون أن اشعر، وجدت نفسي أغادر المكان متلمّسا طريقي نحو الباب الخارجي.
- هيرمان هيسّه، شاعر وأديب ألماني

(3) واقع
نحن محاطون بواقع غير محدّد أو مادّي. وفي دواخلنا تبدو الأشياء مثل نقاط ضوء على خلفية من ضباب وظلّ. كما أن واقعنا الملموس ذو طبيعية شبحية وتجريدية.
- مايكل انجيلو انتونيوني، مخرج سينمائي ايطالي

(4) موسيقى
غالباً ما تحملني الموسيقى كما يحملني موج البحر
نحو نجمي الشاحب
وتحت سقف من الضباب أو في أثير واسع
أبحر
فأتسلق متن الأمواج المتراكمة
التي يحجبها عنّي الليل
وصدري إلى الأمام ورئتاي منفوختان
كأنهما من قماش
وإني لأشعر في داخلي بكل انفعالات
مركب مشرف على الغرق
وأشعر بالريح المواتية وبالعاصفة واختلاجاتها
تهدهدني فوق اللجّة المترامية
وأحياناً أخرى أسمعها هادئة ملساء
كأنها مرآة يأسي الكبيرة
- شارل بودلير، أديب فرنسي

(5) حقيقة
أعرف الحقيقة. فتخلّوا عن كلّ الحقائق الأخرى
لا حاجة للبشر في أيّ مكان من هذه الأرض لأن يتصارعوا
انظر، الوقت الآن مساء. ليل تقريبا
تتحدّثون عن الشعراء والعشّاق والجنرالات؟!
الريح الآن مستوية والأرض مبلّلة بالندى
وعاصفة النجوم في السماء ستهدأ
وقريبا سننام جميعنا تحت الأرض،
نحن الذين لا يدع بعضنا بعضا ينام فوقها.
- مارينا تسفيتيفا، شاعرة روسية

(6) إدمان
الكتابة مخدّر أكرهه لكنّي مستمرّ في تعاطيه. إدمان أمقته لكنّي اعتمد عليه. ثمّة سموم ضرورية بعضها رقيق للغاية تتألف من مكوّنات الروح، من أعشاب مجموعةٍ من أطلال الأحلام، من الخشخاش الأسود الموجود بالقرب من قبور نوايانا، من الأوراق الطويلة لأشجار الغياب التي تهتزّ على أصداء ضفاف أنهار أرواحنا.
- فرناندو بيسوا، شاعر برتغالي

الأربعاء، مايو 13، 2009

أيّام في بريطانيا 2 من 2

وأنت تتأمّل جمال الطبيعة عبر نافذة القطار المتّجه نحو الشمال، لا بدّ وأن يخطر بذهنك ما يقال أحيانا عن شخصية أو روح المكان. فحيثما نظرت، لا تقع عيناك إلا على اللون الأخضر. فضاءات خضراء لا يحيطها البصر، غابات، حدائق، مروج ومراعي فسيحة تتجوّل فيها البهائم والخيول على ضفاف الجداول والبحيرات. وعبر البساط الأخضر الطويل تلمح بعض القلاع والقصور التي تعود إلى القرون الوسطى.
جمال الريف الانجليزي كثيرا ما داعب مخيّلة العديد من الكتّاب والشعراء والرسّامين الانجليز منذ القدم. في هذه الأرجاء عاش الشاعر وليام ووردزوورث والفنان جون كونستابل في وقت واحد. وكلاهما كان مفتونا بسحر وجمال الطبيعة. الأوّل كتب عنها العديد من قصائده واستلهم من أجوائها مضامين ميثولوجية ودينية وفلسفية. والثاني كان يرسمها بقلبه وكان يودع في مناظره ذلك الإحساس العميق بالهدوء والسكينة. كان كونستابل معروفا بتعامله المبهر مع الألوان والضوء والظلال. وفي لوحاته تمثيل رائع لروح الطبيعة يشي بحسّ وجداني عميق وتجربة روحية ثريّة.
كان الوقت صباحا. وكان الضباب يلفّ كلّ شيء وكانت الغيوم الداكنة قريبة جدّا من الأرض رغم أننا ما نزال في بداية الربيع. لم يكن هناك سوى ذلك الشعور الغامض بالعزلة والفخامة.
هنا يمكن أن ترى الجمال كما يتجلّى في عين صانعه، كما يقال. جمال من نوع خاص يدفع الناظر لأن يحسّ بالقيمة الحقيقية للطبيعة عندما تصبح مصدر عطاء وتأمّل وإلهام.
تذكّرتُ أجواء قصص إميلي برونتي التي تثير إحساسا بالحزن والحنين إلى الماضي. كما تذكّرتُ سيّدة جزيرة شالوت وأساطير الرّعاة وقصص قطّاع الطرق والأشباح والرحيل ليلا في الغابات على ضوء القمر.
في بداية المساء، كان المطر ما يزال يهطل. لكنه مطر من نوع خاص. ففي هذه الأنحاء لا ترى البرق ولا تسمع الرعد. فقط قطرات المطر السخيّة وهي تلامس وجه الأرض بوداعة ورقّة.
خطر ببالي لحظتها طقوس المطر عندنا. المطر في بلادنا يعتبر باعثا للخوف والخطر. كأن الله يرعبنا حتى بالمطر.
في الكثير من المواقف والحالات، لمستُ كم أن الانجليزي العادي إنسان متسامح وودود تجاه الغرباء. وقد حدث أن أضعتُ وجهتي مرارا وكان عليّ في كل مرّة أن اسأل من أصادفه لأستدلّ على طريقي. وكان من بين من سألتهم بعض الانجليز الذين تأكّد لي تواضعهم وإنسانيتهم وحبّهم لمساعدة الآخرين. بعضهم أصرّ، رغم ممانعتي، على أن يمشي معي مسافة كي يدلّني على محطة للحافلات أو على مكتبة أو مطعم أو محلّ تجاري. وإجمالا، لا ترى في طبيعة الانجليز ما يدلّ على عنصرية أو فوقية ظاهرة. ولهذا السبب يكثر الأجانب من هنود وباكستانيين وعرب ورومانيين وبلغار ويونانيين في لندن وفي غيرها من المدن. والكثير من هؤلاء وجدوا في انجلترا أرض الأحلام والأم الرءوم التي قدّمت لهم الحماية والأمان والعيش الكريم بعد أن لفظتهم أوطانهم الأصلية وتخلّت عنهم. وأكثر ما استرعى انتباهي الوجود الفاعل والمؤثر للهنود على وجه الخصوص. ويظهر أنهم ورثوا عن غاندي صبره ومثابرته وميله للحياة الآمنة والمسالمة. في الفنادق كان معظم موظفي الاستقبال من الهنود من النساء والرجال. النساء خاصّة يتّصفن بالبشاشة وحسن الخلق واللباقة العالية. ثم هناك المحافظة والحياء الشرقي الذي لا تخطئه العين رغم كون معظمهن من الهندوس والبوذيين.
من واقع التجربة، تبيّن لي كم كنت مخطئا عندما عوّلت على ما يُكتب في الانترنت من "نصائح وإرشادات" تزجى بسخاء للذين يزمعون زيارة بريطانيا وغيرها من البلدان الأوربية. فمعظم ما يُكتب في هذا الجانب مجرّد تهيّؤات وخيالات لا علاقة لها بالواقع. كلام كثير قرأته عن ضرورة التقيّد بالايتيكيت ومراعاة قواعد استخدام الاندرغراوند والقطار وعن أهمّية التزام الصمت وتجنّب الحديث مع الآخرين وعدم إعطاء انطباع لأحد بأنك غريب، ما قد يسهّل وقوعك فريسة للعصابات والمجرمين. كلّ هذا الكلام بعيد تماما عن الواقع. وهو يطلب منك أن تتحوّل إلى ما يشبه الإنسان الآلي. فالناس هناك مشغولون بهمومهم وأعمالهم، ونادراً ما ينظر إليك احد أو تستوقف ملامحك أو هيئتك اهتمام إنسان، ناهيك عن أن يفكّر في مضايقتك أو إيذائك. وقد تعلّمت أن الحذر قد يكون اوجب من بعض العرب والمسلمين الذين لا تخلو طبيعتهم من التطفّل ومن ميل مرَضي للأذى والخداع.
من أهمّ ملامح لندن أنها مدينة حاضنة للكثير من الفعاليات والأنشطة الثقافية والفكرية والفنية. فهناك العديد من المتاحف المتخصّصة والمعارض والغاليريهات ودور المسرح والسينما وقاعات الموسيقى المنتشرة في كلّ مكان. وقد ذهبتُ في أحد الأيّام إلى ترافلغار سكوير لزيارة معرض خاص بأعمال الرسّام الاسباني سلفادور دالي نظّمته مؤسّسة دالي في مدريد. وكنت أمنّي النفس برؤية لوحات الرسّام المعروفة. لكني فوجئت بأن الأعمال المعروضة لا تتضمّن أيّا من لوحاته المشهورة، وإنّما مجرّد رسومات واسكتشات صغيرة علقت على جدران صالة طويلة ومعتمة. شعار المعرض لافت وجذّاب: رحلة في عقل عبقري". وقد علمتُ انه ليس بالإمكان رؤية تلك اللوحات سوى في هذا المكان. فهي غير متوفّرة على الانترنت لأن موضوع الملكية الفكرية يمنع ذلك. وقد استأذنتُ في اخذ بعض الصور فقيل لي إن التصوير ممنوع وأن الصالة مراقبة بالفيديو.
الاسكتشات جميلة، غامضة، وذات سحر خاص شأن كلّ أعمال دالي. في بعضها يحاول تقليد بعض لوحات دي غويا. وبعضها الآخر يحمل عناوين اسبانية يصعب فهم معناها. وعلى أرضية المعرض صفّت تماثيل متفاوتة الأحجام من النحاس والبرونز من أعمال دالي. وبين كلّ تمثال وآخر كان بالإمكان رؤية عدد من فساتين ومجوهرات غالا زوجة دالي وملهمته.
نسيتُ أن أشير إلى أن المعرض يتضمّن صورا فوتوغرافية كبيرة لدالي تتصدّرها واحدة عند المدخل يظهر فيها وقد حسر ثيابه عن فخذيه !
أظنّ أنني دفعت ما يوازي الثمانين أو التسعين ريالا ثمنا لقيمة التذكرة. ومع ذلك لم اشعر بالندم. فقد تعرّفت على وجه آخر لـ دالي قد لا تتاح للكثيرين معرفته دون أن يزوروا ذلك المعرض الخاصّ والنادر.

الأحد، مايو 10، 2009

أيّام في بريطانيا 1 من 2

الزائر لبريطانيا لا بدّ وأن يلاحظ كثرة أعداد المسلمين والعرب والآسيويين هناك. ولا أبالغ إن قلت إن من بين كلّ أربعة بريطانيين، هناك عربيّ أو آسيوي واحد. العرب، تحديدا، يتركّزون في ضاحية بادنغتون وخصوصا في شارع ادجوير رود الذي تحسبه حيّا من أحياء العرب. مقاهي، بقالات، مطاعم، مكتبات، متاجر.. الخ. كلّها تغصّ بجموع العرب سواءً أكانوا مقيمين بصفة دائمة أم سيّاحا عابرين.
وقد لاحظتُ ميل العرب للنفور من بعضهم البعض. ويمكن تعميم هذه الحالة لتشمل أتباع كلّ جنسية على حدة. ربّما كان كلّ واحد يشعر أن هموم الحياة وحدها تكفي وأن لا حاجة لاتخاذ أصدقاء أو معارف جدد قد يشكّلون في النهاية عبئا إضافيا. حتى الشيشة أو الارغيلة لها حضور دائم في المقاهي بالرغم من أن التدخين ممنوع في كلّ مكان تقريبا. وكلّ من ينتهك هذا الحظر يعرّض نفسه للعقاب. فكّرتُ في أن يكون وراء تسامح الانجليز مع تدخين الشيشة احتمال أنهم ينظرون إليها باعتبارها شأنا يتعلق بثقافة وعادات المهاجرين أو الوافدين إليها. المكتبة العربية التي دخلتها في ادجوير رود يمكنك أن تجد فيها كلّ ما لا يخطر على بالك من الكتب العربية الممنوعة التي تناقش مواضيع الدين والجنس والسياسة. وقد اشتريتُ من تلك المكتبة رواية محمد شكري "الخبز الحافي" التي سمعتُ عنها منذ سنوات لكن لم تتح لي الفرصة من قبل لقراءتها. والرواية عبارة عن سيرة ذاتية تمتلئ بالقصص والحكايات الجنسية بلغة صريحة ومباشرة. وبعد قراءة بعض صفحاتها نشأ عندي انطباع بأن هذا الكتاب ليس من الكتب التي يحسن عرضها في مكتبة البيت، بل لا بدّ من إخفائه بعيدا عن الأنظار أو حتى التخلّص منه بعد قراءته. الكتاب يصدمك من الصفحة الأولى ثم تتوالى الصدمات تباعا حتى تفقد التركيز ويتشوّش عقلك.
في إحدى الحافلات التي أخذتنا إلى شارع اوكسفورد سمعتُ شخصا سعوديا يقول لصاحبه: يا أخي، عندنا لا تسمع إلا كل وصف مسيء للغربيين وللانجليز على وجه الخصوص. وقد حذّرونا منهم كثيرا قبل أن نأتي إلى هنا وصوّروا هذه البلاد على أنها بلاد الإجرام والكراهية. لكننا فوجئنا بعكس ما قيل. فالانجليز شعب متحضّر وراقٍ ولم نرَ منهم والله إلا كل خير. وأنا متأكّد أنهم أكثر إنسانية منا، نحن العرب والمسلمين، في العديد من الأمور. وبعدين ما شفنا سرقات ولا جرائم ولا شيء. إذا كان فيه بلد آمن في هذا العالم فهو هذا البلد. البارحة تمشّيت في الشارع القريب من الفندق حوالي منتصف الليل وكانت السماء تمطر وكل شيء كان عال العال".
وردّ عليه زميله وهو يضحك: يا ابن الحلال لا تسدّ نفوسنا بالحديث عن أحوالنا. احمد ربّك على الراحة واستمتع بالحرّية اللي نشوفها هنا، على الأقلّ ارتحنا شوي من الخطب والانكارات والفتاوى والمطويّات وقيادة المرأة والتكفير والشرك الأصغر والأكبر والذي منه".
في إحدى الليالي شاهدتُ على شاشة إحدى قنوات شبكة سكاي مناظرة ساخنة بين مذيعَين ونائبَين في البرلمان البريطاني. كان المتحاورون يناقشون مشروع قانون ُقدّم إلى البرلمان يقترح منح كل نائب بيتا ثانيا. وقال احد المذيعين موجّها كلامه للنائبَين: المال العام هو مالنا. ليس مالكم ولا مال الحكومة أو رئيس الوزراء. وأنا بوصفي مواطنا يهمّني أن أعرف أين تذهب فلوسي وفي أيّ الوجوه ُتصرف. ثم ما هي الخدمات التي قدّمتموها لكي تستحقوا هذا النوع من الامتيازات". وأضاف المذيع: أنا اسأل هذه الأسئلة لأنكم ممثّلو الشعب وهو الذي انتخبكم وبإمكانه غدا أن يعزلكم إذا تأكّد له أن كلّ همّكم هو الامتيازات والحصانات وما في حكمها".
وقد استمرّت المواجهة على هذه الدرجة من السخونة والصراحة حتى نهايتها. وتضمّنت انتقادات عنيفة ولاذعة لموقف رئيس الوزراء غوردون براون من المشروع. إذ بدا انه يحاول إمساك العصا من المنتصف وكان متردّدا بين أن يرضي النوّاب أو يغضب جمهور الناخبين.
قلت وأنا أتابع البرنامج: لهذا السبب تفوّق علينا الغربيون. ويظهر أن أمامنا مائة عام أخرى كي نصل إلى نصف ما وصلوا إليه من الحرّيات والحقوق والتقاليد الديمقراطية.
هناك أمر آخر لفت انتباهي. المرافق والخدمات التي رأيتها في كلّ مكان كانت مثالا في التطوّر والتنظيم. فالشوارع نظيفة، ملساء، تمرّ عليها السيارات كأنها تمشي على الماء. لا مطبّات ولا حفر أو خلافه رغم الهطول الكثيف والمتكرّر للأمطار معظم شهور السنة .
في احد الشوارع المحاذية للفندق الذي كنت أقيم فيه، لاحظتُ ذات صباح قيام بعض العمّال بـ "قصّ" جزء من الشارع. وفي عصر اليوم نفسه كان الشارع قد ُفتح ثانية وعاد إلى طبيعته الأصلية. الجزء الذي أعيدت سفلتته لا تميّزه أبدا عن بقيّة الشارع لا من حيث نسيج الإسفلت ونوعيته ولا من حيث لونه. وتمّت العملية بسرعة وبكّل سلاسة ولم تخلف أي مطبّات أو مشاكل.
عندنا ُيحفر الشارع بأسلوب بدائي ثم تعاد سفلتته ثلاث أو أربع مرّات في الشهر، لا لشيء إلا لأن مسئول البلدية الواسع الذمّة يريد أن ينفّع أصهاره ومحاسيبه. وفي نهاية "الترميم" يصبح لديك شيء ليس له من الشارع غير اسمه.
وسائل المواصلات في لندن وفي غيرها من المدن من أفضل ما يمكن من حيث المستوى والأداء. غير أنني لم أتصالح أبدا مع نظام الاندرغراوند أو التيوب كما يسمّيه البعض. بدا لي انه عبارة عن متاهة كبرى لها بداية وليس لها نهاية. لذا قرّرتُ تجنّبه بعد التجربة الأولى، خاصّة مع جهلي المطبق بطريقة استخدام الخرائط التي يفترض أنها تعين الشخص على التعرّف على المسارات التي تؤدّي إلى أحياء ومناطق العاصمة المتشابكة والكثيرة.
الاندرغراوند، بالمناسبة، هو أحد عجائب لندن. تمشي في شوارع هذه المدينة ولا يخطر ببالك أبدا أن تحت قدميك مدينة أخرى تقبع تحت الأرض بقطاراتها وأسواقها ومتاجرها وبشرها ومرافقها وكامل تجهيزاتها الكثيرة. ومن الغريب أن تعرف أن عمر الاندرغراوند أكثر من مائة عام خضع أثناءها للكثير من مشاريع التطوير والتحديث والتوسعة. ويكفي أن تتصوّر هول ازدحام البشر والمركبات في هذه المدينة التي تضجّ بالحركة المستمرّة لولا وجود هذا الاختراع العجيب الذي ينمّ عن عبقرية وقدرة الإنسان على فعل المعجزات.
كنتُ وأنا أشاهد كل تلك المنجزات الحضارية الهائلة أتساءل: لماذا لا يوجد عندنا مثلها. نحن لسنا اقلّ من الآخرين في شيء. وعندنا الثروة الهائلة التي لو استغلت استغلالا أفضل لكان حالنا اليوم أفضل مائة مرّة ممّا نحن عليه.
أثناء وجودي حرصتُ على زيارة متحف مدام توسو. يقال بأن من لا يزور المتحف يكون قد فوّت على نفسه رؤية احد أهمّ معالم بريطانيا الثقافية والسياحية. وقد اكتشفتُ خلال تجوالي في المتحف انه يدار بعقلية تجارية صرفة وانه لا يختلف عن أي مشروع استثماري وأن سمعة هذا المعلم في الخارج أكبر بكثير من قيمته الثقافية الحقيقية.
وخلال تطوافي على تلك التماثيل الشمعية الباردة التي تضمّها طوابق المتحف، استوقفني منظر تقاطر النساء وتزاحمهن أمام تمثال الممثّل المعروف جورج كلوني. ويظهر أن هذا الممثل أصبح النموذج الذكوري الذي تفضّله النساء في هذا الزمن بفضل وسامته اللافتة وسحر شخصيته. كان واضحا أن حظوة كلوني عند النساء تفوق تلك التي لـ دي كابريو بطل فيلم التايتانك الذي لم يجتذب تمثاله سوى القليل من النساء. هناك أيضا تمثالا انجيلينا جولي وزوجها اللذان حظيا بإقبال جمهور واسع من النساء والرجال الذين تسابقوا لالتقاط الصور مع الممثّلة وزوجها.
وفي جانب من إحدى ردهات المبنى ُخصّص لما اسماه البروشور التعريفي للمتحف بـ "الأوغاد"، رأيت تماثيل ياسر عرفات وصدام حسين والقذافي الذين يقفون بالقرب من هتلر وفيديل كاسترو وموغابي! مواطن سوداني طيّب اشتعلت في قلبه مشاعر الحميّة العربية بعد أن فهم على ما يبدو مغزى وضع التماثيل معا في ذلك المكان فاتجه إلى تمثال عرفات وطوّقه بذراعه وطبع على فمه قبلة وهو يرفع علامة النصر. ثم عرّج على تمثال صدام حسين وقبّله واحتضنه.
في المتحف أيضا قسم خاص بتماثيل العائلة الملكية البريطانية يتصدّرها تمثال هنري الثامن، ذلك الملك المعتوه الذي تميّز حكمه بالقسوة وكثرة الذبح وسفك الدماء.
ومن بين جميع التماثيل لم يشدّني سوى تمثالي كلّ من غاندي بملامحه الدقيقة وقوامه الكليل ونظّارتيه وعصاه الفارقة، والروائي الانجليزي تشارلز ديكنز الذي بدا في التمثال قريب الشبه جدّا بـ تولستوي.
متحف مدام توسو يمكن وصفه بأنه مسرح للفرجة، أو لعلّه سيرك تتحرّك بين جدرانه العربات الصغيرة وتزمجر في زواياه الموسيقى الصاخبة ممتزجة مع هدير أصوات النساء والأطفال الذين تتملّكهم الدهشة والعفوية جرّاء ما يرونه ويشاهدونه في هذا المكان الكرنفالي العجيب.

السبت، مايو 09، 2009

لغة الجسد

ربّما يتفاجأ القارئ إذا عرف أن تأثير العامل الشفهي "أي الكلام" في الآخرين لا يتجاوز نسبة 7 بالمائة، في حين أن الصوت بما يتضمّنه من نبرات وأجراس ووقفات يصل تأثيره إلى حوالي 38 بالمائة، بينما يصل تأثير لغة الجسد "أي النواحي غير الشفهية" إلى حوالي 55 بالمائة.
هذا ما طالعته في كتاب شيّق ابتعته من لندن كي يكون رفيقي في الطائرة في رحلة العودة من هناك. الكتاب عنوانه "لغة الجسد: طريقك إلى النجاح" من تأليف الدكتورة شاليني فيرما الخبيرة في الدراسات السلوكية والتواصل الإنساني. هذا المجال شهد طفرة كبيرة في السنوات الأخيرة من خلال الدراسات والأبحاث الكثيرة التي تناولته. وهناك العديد من علماء النفس والاجتماع والانثروبولوجيا وحتى علماء اللسانيات ممن درسوا وحلّلوا نواحي السلوك الإنساني التي تتسم بصفات لها علاقة بالاتصال بين البشر.
في الفصل الأوّل من الكتاب تتناول المؤلفة أهمّية الاتصال غير الشفهي، أو ما يُعرف بلغة الجسد، مثل الإيماءات والإشارات والأوضاع والحالات وأثرها في الاتصال بين الأشخاص.
ويتناول الفصل الثاني بعض النصائح والإرشادات التي تدلّ القارئ على الطرق التي يمكن من خلالها ترك انطباع أوّلي يدوم طويلا في نفس الآخر. وتسرد المؤلفة عددا من الأوامر والنواهي التي تستحقّ التفكير. وهي مهمّة سواءً كان الإنسان يسعى لنيل وظيفة أو للقاء شخص ما للمرّة الأولى.
الفصل الثالث يناقش أهمّية الاتصال من خلال العيون في لغة الجسد. تقول المؤلفة إن الاتصال بالعيون يعتبر أهم وسائل لغة الجسد فاعلية وتأثيرا. وتضيف: إن النظر في عيني محدّثك مباشرة يعطيه الانطباع بأنك شخص مراع ومهتم ومخلص. بينما العينان اللتان ترمشان ولا تهدءان أو تستقرّان يمكن أن تخلقا انطباعا سيئا في نفسه، إذ قد يظنّ بأنك شخص محتال أو مخادع أو حتى متآمر! لكنّ نظرة العين إذا طالت أكثر مما ينبغي يمكن أن تثير في الآخر ردّ فعل عدوانيا. وفي بعض الحالات قد تعتبر مؤشّرا على الانجذاب الجنسي. لذا ينبغي على الإنسان أن يأخذ حذره عند اتصاله بالآخرين من خلال نظرات العيون كي لا يُساء فهمه".
ويتطرّق الفصل الرابع من الكتاب إلى الأنواع المختلفة لتعابير الوجه، مثل الابتسام وتأثيره في الكثير من مناحي حياتنا اليومية وعند الحديث إلى الآخرين.
في الفصل الخامس يشرح الكتاب حركات الرأس المختلفة مثل الإيماءات والانحناءات ونوعية الشعور الذي تثيره في نفس الآخر. حركات الرأس، مثلا، ليست مهمّة فقط أثناء الكلام بل أثناء الاستماع أيضا. وإذا أسيء استخدامها فإنها يمكن أن تؤثر سلبا على علاقتك بالشخص الذي تتصّل به. في هذا الفصل أيضا حديث عن إيماءات وحركات الجسد المختلفة ودلالاتها ورموزها في العديد من ثقافات الشعوب.
وتتطرّق المؤلفة بعد ذلك إلى قواعد الاتيكيت المتّبعة في مجال الأعمال، وتشرح كيف أن تلك القواعد أصبحت مع مرور الأيام قواعد للسلوك العام الذي يمكن أن يكون مفيدا للأشخاص العاديين في نقل الإشارات غير الشفهية.
كما تناقش سلوك اللمس وأنواع اللمس المختلفة، مثل المصافحة والاحتضان والضرب الخفيف على الكتف ودلالات ومعاني كلّ نوع في الاتصال الشفهي بين الناس.
وتتحدّث الكاتبة عن أهمّية حاسّة اللمس وأثرها الكبير فتقول: إن اللمس هو أوّل حاسّة تولد مع الإنسان. فالجنين في بطن أمّه لا يستطيع أن يرى أو يشمّ أو يتذوّق أو يسمع. وعندما يولد يصبح اللمس أهمّ حاسّة لديه. وبعض الدراسات تؤكّد أن الأطفال وبعض صغار الحيوان عندما ُيحرمون من اللمس من قبل الآخرين فإن نموّهم يتوقّف، ليس فقط اجتماعيا وانفعاليا وإنما أيضا جسديا.
كما تبدي الكاتبة استغرابها من حقيقة أن اللمس كثيرا ما يحصر في دلالاته الجنسية، في حين انه يمكن أن يكون وسيلة تشجيع أو تعبيرا عن الرقّة أو التعاطف أو الدعم.
ثم تحلّل المؤلفة بعض السلوكيات اللاإرادية المرتبطة بالاتصال. تقول مثلا: إن الشخص عندما يكون واقعا تحت تأثير الضغوط فإنه يضع إصبعه في فمه. وهو تصرّف غير واع يؤشّر إلى توق الإنسان للعودة إلى أمان الطفل الذي يرضع ثدي أمه. والطفل عندما يكبر يستعيض عن ثدي الأمّ بمصّ إصبعه. بينما الإنسان البالغ لا يضع إصبعه فقط في فمه بل يدخل فيه بعض الأشياء الأخرى مثل السيغارة أو القلم. وهذه السلوكيات غير الإرادية ليست في حقيقتها سوى تعبيرات خارجية عن حاجة الشخص للإحساس بالطمأنينة وراحة البال.
هذا الكتاب، كما أسلفت، جميل وممتع وقد زُوّد بصور إيضاحية كثيرة وروعي أن يكون إخراجه وتبويبه على درجة عالية من الأناقة والجاذبية. وإجمالا، يمكن وصفه بأنه من تلك النوعية من الكتب التي تتسم بالرشاقة والخفّة وسهولة الهضم سواءً من حيث الشكل أو المضمون.

الجمعة، مايو 08، 2009

قصاصات ورق

صَمْت:
الصمت قوّة تدفع العالم
قصّة حبّ لم تُكتب
الصمت عاشق تُرك وحيدا
شاعر بلا قصيدة
محارب لن يقاتل
الصمت سماء بلا ضوء
غياب
حضور
محادثة
تعبير
الصمت يمكن أن يملأ غرفة
غموض لن يُعرف كنهه إلى الأبد
الصمت يتكلّم
يصرخ
يتحدّث أحيانا بأعلى مما تفعله الكلمات
الصمت تأمّل يمكن أن يحرّك السماء والأرض
الصمت أبيض ومشعّ كالقمر
في البدء..
كان الصمت المطلق..

ذكرى:
تقابلنا مرّة بالصدفة
لا مواعيد
لا ترتيبات
لا طقوس
نظر كلّ منّا في عين الآخر
دون تصنّع أو تمويه
رسالة صامتة لمحتها في قلبكِ المتعطّش
ورأيتِ رغبة لم استطع أنا إخفاءها
نظرتِ إليّ ورأيتِني من الداخل
في تلك الليلة كانت روحانا عاريتين
مثل جسدينا
لم افرّق بين جسدكِ وجسدي
وبدأ إحساسي بالزمن يتشوّش
لا بدّ وأنني كنت أعرفكِ من قبل
وإلا كيف أمكنكِ الوصول إلى أعماقي!
ولا بدّ وأنني كنت احبّكِ في زمن ماضٍ
لكننا الآن نمضي في طريقين منفصلين
وحياتين مختلفتين
ورغم ذلك
سأظلّ احتفظ بكِ في أحلامي
رفيقة لروحي إلى الأبد..

حَجَر:
أفكّر أحيانا في ما بداخل الحجر
تلك هي عادتي دائما
من الخارج يبدو الحجر لغزا
ليس بوسع احد أن يعرف كنهه أو يفكّ غموضه
لكنّه من الداخل يبدو باردا هادئا
حتى عندما يمشي عليه حيوان بكامل ثقله
وعندما يرمي طفل حجرا في نهر
يغطس الحجر هادئا بطيئا إلى قاع النهر
حيث تأتي الأسماك وتنقر عليه
ولطالما رأيت الشرر يتطاير عند حكّ حجرين ببعضهما
لذا فثمّة احتمال أن لا يكون الحجر مظلما من الداخل
قد يكون هناك قمر يسطع وراء التلال
مجرّد ضوء بسيط قد يكون كافيا لقراءة
الكتابات الغريبة وخرائط النجوم
على الجدران الداخلية..
- مترجم بتصرّف

السبت، مايو 02، 2009

نساء موديلياني

من السهل التعرّف على لوحات اميديو موديلياني وتمييزها عن لوحات غيره من الرسّامين. إذ تبدو نساؤه بأعناق طويلة وعيون لوزية ووجوه بيضاوية. كما أن في لوحاته طبيعة غنائية يمازجها بعض الغموض الذي يختصر رؤية موديلياني عن الجمال الخالد وروح الإنسان.
غير أن بعض أعماله لا تخلو من حسّية لإظهارها بعض المناطق الخاصّة من الجسد. ونساؤه إجمالا رقيقات مع شيء من الحزن والتأمّل. وميلان الشفاه الخفيف والأعين المظلمة أو الغائرة وسمات زوايا الجسد تعطي إحساسا بالهجر والغربة والانفصال.
وليس في نساء موديلياني شيء من رعونة نساء روبنز أو أناقة محظيّات انغر أو فخامة آلهة بوتيشيللي أو تمثالية ملامح نساء مايكل انجيلو.
أما نساؤه العاريات فيبدين جادّات وأحيانا كئيبات. وبالتأكيد هنّ لسن لعوبات ولا جذّابات كثيرا، كأنما علّمتهن الحياة أن الرومانسية مجرّد حماقة وعبث.
ولوحات موديلياني تعكس إلى حدّ كبير شخصيّته الأسطورية. فقد توفّي بمرض السلّ وعمره لا يتجاوز الخامسة والثلاثين. وهو كان نموذجا للرسّام الوسيم الذي عاش حياة بوهيمية في باريس مطلع القرن الماضي. كان إباحيا، مشاكسا، هشّا وموهوبا. غير انه مات فقيرا في غرفة بائسة فوق سطح إحدى البنايات القديمة. وبعد يومين من موته لحقت به صديقته وأمّ ابنه جان إيبيتيرن التي كانت تصغره بتسعة عشر عاما بعد أن ألقت بنفسها من النافذة لتقتل هي وجنينها الذي لم يكن قد ولد بعد.
وأسطورة موديلياني ليست واضحة في فنّه. قد يكون في لوحاته حزن وصمت وإحساس بالهدوء والعزلة، لكنها تخلو من مشاعر الغضب والتمرّد أو الإحباط.
وقد ظلّ حبّه لوطنه الأصلي ايطاليا ملازما له على الدوام. وألوانه الخفيفة والباردة يبدو أنها تحاكي ما ترسّب في لاوعيه من ذكريات عن مناظر متلاشية لمبان وطبيعة كان قد رآها في مطلع حياته في بلدته توسكاني.
درس موديلياني الرّسم في فلورنسا وروما. وكان معجبا كثيرا بـ تيشيان وغيوتو وبوتيتشيللي، كما عُرف عنه شغفه بالفنون الأفريقية والمصرية واليونانية والهندية القديمة.
وقد أخذ عن الايطاليين الأوائل إنسانيتهم الروحانية وعن المتأخّرين منهم إعجابهم حدّ التقديس بجسد الأنثى وتصويرهم العميق للطبيعة الإنسانية. كما ورث عن اليونانيين نقاء وعظمة الشكل وبساطة ورمزية الشكل الأنثوي الاسطواني، وعن الهنود الحسّية العالية وحركة الآلهة الهندوسية الراقصة، وعن المصريين هالة الآلهة والنبل الذي تعكسه ملامح الملكات.
انتقل موديلياني إلى باريس في العام 1906 وعاش جنبا إلى جنب مع الرسّامين الطليعيين. كما صاحب النحّات الروماني برانكوزي الذي تعلّم على يديه فنّ النحت. وفي ما بعد صنع بعض الأعمال النحتية أشهرها رأس مصنوع من الحجر الجيري يبيّن بوضوح تأثّره بالفنّ الأفريقي.
شهرة موديلياني تجاوزت فنّه بكثير. كما أن أسلوب حياته المنغمس في المتع حجب عن الأعين كثيرا من تراثه وإبداعه الفني. وقد كانت النساء منجذبات بقوّة إلى هذا الشابّ المتخلّع الآسر. كان يقول: عندما تستعدّ امرأة للجلوس أمام رسّام فيجب أن تهبه نفسها بالكامل". وربّما لهذا السبب لم يسمح لصديقته جان إيبيتيرن بأن تجلس أمام رينوار لرسمها.
كان موديلياني مصرّا منذ البداية على خلق نموذجه الصوري الخاصّ والشائك عن الجمال. وقد نجح في اختراع جنس جديد من الكائنات ذوات الأطراف المستطيلة والخصور الضّيقة والوجوه الدقيقة اللاتي يغلب على ملامحهنّ الهدوء والبرود وأحيانا الانفعالات الجامدة والمحايدة.
الشاعرة والناقدة الانجليزية بياتريس هاستنغز كانت ملهمة موديلياني ورفيقته طوال سنتين. وقد وصفته بقولها إن موديلياني شخصية معقّدة، أحيانا يأخذ شكل خنزير وأحيانا لؤلؤة".
كانت علاقتهما عاصفة، ومع ذلك فـ اللوحة التي رسمها لها لا تكشف الشيء الكثير عن شخصيّتها. فملامح وجهها الصغير وعنقها الطويل يوفّران قناعا يحجب عن الناظر انفعالاتها الداخلية.
أما لوحاته التي رسمها لرفيقة عمره جان إيبيتيرن فتبدو هاجسية وتوصل إحساسا بفجيعة هذه المرأة الخجولة وضعفها وخضوعها للرّجل الفنّان. في إحدى اللوحات التي رسمها لها، تبدو جان بملامح ملائكية، عيناها الخضراوان الشاحبتان وشفتاها الرقيقتان ونظراتها الواهنة تؤكّد هشاشة وبراءة تلك الفتاة التي كان مقدّرا لها أن تموت قبل الأوان مثل الرجل الذي عشقته.
موديلياني نفسه كان يعرف على ما يبدو انه سيغادر الحياة مبكّرا. وهناك بورتريه رسمه لنفسه قبل وفاته بعام يبدو فيه كما لو انه يرتدي قناع الموت. ورغم هذا ما يزال يمسك بلوحة الرسم بيده وكأنه يطلب من الناظر أن لا يغفل عن رؤية الفنان في شخصه.
كانت لونيا تشيكوميسكا إحدى موديلات الفنان المفضّلات. وقد روت قصّة مثيرة للاهتمام حدثت قبيل موته، عندما كانت تجلس أمامه لرسمها. تقول: بينما كنت أقوم بتحضير العشاء طلب مني أن ارفع رأسي للحظات. وعلى ضوء شمعة رسم اسكتشا جميلا كتب عليه عبارة تقول: الحياة هبة، سواءً للذين يعرفون ويملكون أم لأولئك الذين لا يعرفون ولا يملكون شيئا".
تورا كلينكوستروم، الطالبة في كلية الفنون، كانت آخر من جلس أمام موديلياني ليرسمه. تقول: كان اميديو شخصا رائع الجمال لكنه كان قد فقد الكثير من وسامته بعد الحرب نتيجة معاقرته الخمرة والمجون".
كان يرسم كلينكوستروم وهو يسعل دما. وما لبث أن توفّي بعد ذلك بوقت قصير، وبالتحديد في العشرين من يناير عام 1920 نتيجة إصابته بالسلّ الذي رضعه مع حليب آمّه وهو بعد طفل.
اليوم يُنظر إلى موديلياني باعتباره جسرا ما بين تولوز لوتريك ورسّامي الفنّ الديكوري الذين ظهروا في عشرينات القرن الماضي.
ولوحاته النسائية الممتلئة بالحبّ الرثائي والتوق والخشوع ما تزال تذكّر الناس به وبموهبته التي تستحقّ الإعجاب والاحترام اللذين ُحرم منهما في حياته. وقد بيعت إحدى لوحاته مؤخّرا بأكثر من 27 مليون دولار أمريكي.
وفي العام 2004 أنتج فيلم سينمائي عن حياة موديلياني قام ببطولته الممثّل الأمريكي اندي غارسيا القريب الشبه بالرسّام فيما لعبت دور جان إيبيتيرن الممثلة الفرنسية إلسا زيلبيريستين.

Credits
modigliani-foundation.org
theartstory.org

الجمعة، مايو 01، 2009

جولة في الناشيونال غاليري


دخلت مع جموع الزائرين إلى مبنى الناشيونال غاليري صباحا. كان الجوّ ما يزال مشبعا برائحة المطر والسماء متّشحة بغلالة كثيفة من الغيوم الرمادية الداكنة.
وكنت قبل ذلك قد مررت بأحد المقاهي المنتشرة حول المكان لأسأل عن موقع "تيت غاليري" وكم يبعد عن ذلك المكان. فقال لي شخص انجليزي وقد علت وجهه ابتسامة مهذّبة كما هي عادة غالبية الانجليز: يلزمك نصف ساعة لكي تبلغه. لكني أنصحك بزيارة الناشيونال غاليري، فهو أولا أشهر، وثانيا لأنه قريب جدّا من هنا، وثالثا لأنه يضمّ اكبر مجموعة من الأعمال الفنية في العالم، ورابعا وأخيرا لأنني شخصيا أعمل هناك".
دخلنا المبنى الرخامي ذا التصميم الفخم والأنيق. كنا مجموعة كبيرة من السيّاح. رجال ونساء من بلدان وجنسيات شتّى. هنا لا تحتاج لأن تدفع شيئا مقابل مشاهدة الأعمال الفنية. فالدخول مجّاني. لكن بإمكانك التبرّع بما تجود به ممّا يذهب لدعم أنشطة المؤسّسة الراعية للغاليري.
والواقع أن الناشيونال غاليري عبارة عن متاهة كبيرة. ممرّات فسيحة وصالات واسعة كلّ واحدة تفتح على الأخرى. والأعمال الفنية التي تمتلئ بها الصالات لا تقدّر بثمن. بعضها يعود إلى ستّة قرون. والبعض الآخر ينتمي إلى مدارس الفنّ الحديثة والمعاصرة.
وكلّ شيء في الغاليري مرتّب له جيّدا. فدرجة الضوء والعتمة محسوبة بعناية زيادة في المحافظة على اللوحات وحمايتها من عوامل البلى والتلف. وهنا وهناك تنتشر مجموعات نقاش، كلّ واحدة تتناول لوحة أو عملا ما. وقد لمحت تلاميذ صغارا بصحبة معلماتهن وهم يطرحون الأسئلة والتعليقات عن هذه اللوحة أو تلك.
وفي الحقيقة، كان من النادر أن ترى زائرا لا يحمل في يده قلما وكرّاسا يدوّن فيه بعض الملاحظات من واقع ما يشاهده أو يقرأه أو يسمعه عن كلّ عمل.
اللوحات المعروضة تتفاوت من حيث كبرها. أكبر لوحة رأيتها هي إعدام الليدي جين غراي لـ بول دولاروش. وقد شدّ انتباهي كثرة الزوّار الذين تجمّعوا لمشاهدة هذه اللوحة والتمعّن في تفاصيلها رغم عنف ومأساوية مضمونها. وربّما لا يداني هذه اللوحة من حيث الضخامة سوى لوحة مستحمّون في انيير لـ جورج سورا.
والواقع أن الذي يرى اللوحات الأصلية سرعان ما يلحظ الفرق الكبير بينها وبين النسخ الموجودة على الانترنت من حيث التفاصيل والألوان والخطوط إلى ما غير ذلك.
وليس من قبيل المبالغة إن قلت انه يندر أن تكون قد سمعت باسم رسّام ما، سواءً في الماضي أو في الحاضر، دون أن ترى له لوحة واحدة على الأقل في هذا الغاليري. من رافائيل إلى دافنشي إلى بيسارو إلى ديغا إلى رينوار إلى بوتيشيللي إلى فراغونار إلى فيلارد إلى لوتريك إلى كليمت إلى فيلاسكيز إلى غوغان إلى بيكاسو إلى سيزان إلى كورو إلى بيرنيني إلى دوميير إلى همرشوي.. والقائمة تطول.
أهمّية الناشيونال غاليري تكمن، كما سبقت الإشارة، في ضخامته وكثرة الأعمال الفنية التي يضمّها. في هذا الغاليري فقط، يمكنك أن ترى لوحات مشهورة جدّا مثل دير في غابة السنديان لـ كاسبار ديفيد فريدريش، والأحزان لـ غيوتو، وأزهار عبّاد الشمس و أشجار السرو لـ فان غوخ "الأخيرة عادت إلى الغاليري مؤخّرا بعد إعارتها لمتحف الفنّ الحديث بنيويورك"، ولوحة الجواد ويسل جاكيت لـ جورج ستبس، والبارجة تيميرير لـ وليام تيرنر، وبورتريه شخصي لـ فيجيه لابران، وعشاء في ايموس لـ كارافاجيو، وبورتريه ايزابيل دي بورسيل لـ غويا، وعذراء الصخور لـ دافنشي، وارنولفيني وزوجته لـ فان ايك، وبورتريه شخصي لـ رمبراندت، إلى غير ذلك من اللوحات المعروفة والمألوفة.
وأثناء تجوالي في صالات الغاليري توقفت كثيرا عند لوحات الرسّام البريطاني جون كونستابل. أحسست إلى حدّ ما بأنني كنت أعيد اكتشاف كونستابل الذي تثير لوحاته إحساسا بفخامة الطبيعة وسحرها. ومن حسن الحظ أن الغاليري يضمّ أكثر من لوحة للفنان منها لوحته الأشهر عربة القشّ ولوحته الأخرى التي لا تقلّ شهرة كاثدرائية ساليزبوري . اللوحة الأخيرة تأخذ الأنفاس بجمال تفاصيلها وبألوانها الرائعة وتأثيرات الضوء والظلّ فيها، ما يوحي بمهارة كونستابل الاستثنائية وبشغفه الكبير بجمال الطبيعة وبهائها. والنسخ الكثيرة الموجودة على الانترنت لهذه اللوحة لا تشبه أبدا اللوحة الأصلية ولا تنقل سوى جزء يسير من رونقها وبهائها. هذه اللوحة، مثل بقيّة لوحات كونستابل، شديدة الواقعية، لكنها واقعية ممزوجة بفنتازيا من نوع خاصّ بحيث تشعر وأنت تراها أنها صورة عن عالم آخر يموج بعناصر الحلم والدهشة.
كان مسك ختام الجولة في الناشيونال غاليري رؤية رائعة فيلاسكيز فينوس في المرآة . وقد لاحظت أن معظم من توقفوا عند اللوحة كانوا من الأسبان واللاتينيين.
ومن بعيد ونحن في ذلك المكان كانت تنساب إلى أسماعنا، رقيقة ناعمة، نغمات موسيقى استورياس "أو لييندا" للموسيقي الاسباني إسحاق آلبينيث؛ ما أضفى على المكان لمسة شاعرية إضافية.