الزائر لبريطانيا لا بدّ وأن يلاحظ كثرة أعداد المسلمين والعرب والآسيويين هناك. ولا أبالغ إن قلت إن من بين كلّ أربعة بريطانيين، هناك عربيّ أو آسيوي واحد. العرب، تحديدا، يتركّزون في ضاحية بادنغتون وخصوصا في شارع ادجوير رود الذي تحسبه حيّا من أحياء العرب. مقاهي، بقالات، مطاعم، مكتبات، متاجر.. الخ. كلّها تغصّ بجموع العرب سواءً أكانوا مقيمين بصفة دائمة أم سيّاحا عابرين.
وقد لاحظتُ ميل العرب للنفور من بعضهم البعض. ويمكن تعميم هذه الحالة لتشمل أتباع كلّ جنسية على حدة. ربّما كان كلّ واحد يشعر أن هموم الحياة وحدها تكفي وأن لا حاجة لاتخاذ أصدقاء أو معارف جدد قد يشكّلون في النهاية عبئا إضافيا. حتى الشيشة أو الارغيلة لها حضور دائم في المقاهي بالرغم من أن التدخين ممنوع في كلّ مكان تقريبا. وكلّ من ينتهك هذا الحظر يعرّض نفسه للعقاب. فكّرتُ في أن يكون وراء تسامح الانجليز مع تدخين الشيشة احتمال أنهم ينظرون إليها باعتبارها شأنا يتعلق بثقافة وعادات المهاجرين أو الوافدين إليها. المكتبة العربية التي دخلتها في ادجوير رود يمكنك أن تجد فيها كلّ ما لا يخطر على بالك من الكتب العربية الممنوعة التي تناقش مواضيع الدين والجنس والسياسة. وقد اشتريتُ من تلك المكتبة رواية محمد شكري "الخبز الحافي" التي سمعتُ عنها منذ سنوات لكن لم تتح لي الفرصة من قبل لقراءتها. والرواية عبارة عن سيرة ذاتية تمتلئ بالقصص والحكايات الجنسية بلغة صريحة ومباشرة. وبعد قراءة بعض صفحاتها نشأ عندي انطباع بأن هذا الكتاب ليس من الكتب التي يحسن عرضها في مكتبة البيت، بل لا بدّ من إخفائه بعيدا عن الأنظار أو حتى التخلّص منه بعد قراءته. الكتاب يصدمك من الصفحة الأولى ثم تتوالى الصدمات تباعا حتى تفقد التركيز ويتشوّش عقلك.
في إحدى الحافلات التي أخذتنا إلى شارع اوكسفورد سمعتُ شخصا سعوديا يقول لصاحبه: يا أخي، عندنا لا تسمع إلا كل وصف مسيء للغربيين وللانجليز على وجه الخصوص. وقد حذّرونا منهم كثيرا قبل أن نأتي إلى هنا وصوّروا هذه البلاد على أنها بلاد الإجرام والكراهية. لكننا فوجئنا بعكس ما قيل. فالانجليز شعب متحضّر وراقٍ ولم نرَ منهم والله إلا كل خير. وأنا متأكّد أنهم أكثر إنسانية منا، نحن العرب والمسلمين، في العديد من الأمور. وبعدين ما شفنا سرقات ولا جرائم ولا شيء. إذا كان فيه بلد آمن في هذا العالم فهو هذا البلد. البارحة تمشّيت في الشارع القريب من الفندق حوالي منتصف الليل وكانت السماء تمطر وكل شيء كان عال العال".
وردّ عليه زميله وهو يضحك: يا ابن الحلال لا تسدّ نفوسنا بالحديث عن أحوالنا. احمد ربّك على الراحة واستمتع بالحرّية اللي نشوفها هنا، على الأقلّ ارتحنا شوي من الخطب والانكارات والفتاوى والمطويّات وقيادة المرأة والتكفير والشرك الأصغر والأكبر والذي منه".
في إحدى الليالي شاهدتُ على شاشة إحدى قنوات شبكة سكاي مناظرة ساخنة بين مذيعَين ونائبَين في البرلمان البريطاني. كان المتحاورون يناقشون مشروع قانون ُقدّم إلى البرلمان يقترح منح كل نائب بيتا ثانيا. وقال احد المذيعين موجّها كلامه للنائبَين: المال العام هو مالنا. ليس مالكم ولا مال الحكومة أو رئيس الوزراء. وأنا بوصفي مواطنا يهمّني أن أعرف أين تذهب فلوسي وفي أيّ الوجوه ُتصرف. ثم ما هي الخدمات التي قدّمتموها لكي تستحقوا هذا النوع من الامتيازات". وأضاف المذيع: أنا اسأل هذه الأسئلة لأنكم ممثّلو الشعب وهو الذي انتخبكم وبإمكانه غدا أن يعزلكم إذا تأكّد له أن كلّ همّكم هو الامتيازات والحصانات وما في حكمها".
وقد استمرّت المواجهة على هذه الدرجة من السخونة والصراحة حتى نهايتها. وتضمّنت انتقادات عنيفة ولاذعة لموقف رئيس الوزراء غوردون براون من المشروع. إذ بدا انه يحاول إمساك العصا من المنتصف وكان متردّدا بين أن يرضي النوّاب أو يغضب جمهور الناخبين.
قلت وأنا أتابع البرنامج: لهذا السبب تفوّق علينا الغربيون. ويظهر أن أمامنا مائة عام أخرى كي نصل إلى نصف ما وصلوا إليه من الحرّيات والحقوق والتقاليد الديمقراطية.
هناك أمر آخر لفت انتباهي. المرافق والخدمات التي رأيتها في كلّ مكان كانت مثالا في التطوّر والتنظيم. فالشوارع نظيفة، ملساء، تمرّ عليها السيارات كأنها تمشي على الماء. لا مطبّات ولا حفر أو خلافه رغم الهطول الكثيف والمتكرّر للأمطار معظم شهور السنة .
في احد الشوارع المحاذية للفندق الذي كنت أقيم فيه، لاحظتُ ذات صباح قيام بعض العمّال بـ "قصّ" جزء من الشارع. وفي عصر اليوم نفسه كان الشارع قد ُفتح ثانية وعاد إلى طبيعته الأصلية. الجزء الذي أعيدت سفلتته لا تميّزه أبدا عن بقيّة الشارع لا من حيث نسيج الإسفلت ونوعيته ولا من حيث لونه. وتمّت العملية بسرعة وبكّل سلاسة ولم تخلف أي مطبّات أو مشاكل.
عندنا ُيحفر الشارع بأسلوب بدائي ثم تعاد سفلتته ثلاث أو أربع مرّات في الشهر، لا لشيء إلا لأن مسئول البلدية الواسع الذمّة يريد أن ينفّع أصهاره ومحاسيبه. وفي نهاية "الترميم" يصبح لديك شيء ليس له من الشارع غير اسمه.
وسائل المواصلات في لندن وفي غيرها من المدن من أفضل ما يمكن من حيث المستوى والأداء. غير أنني لم أتصالح أبدا مع نظام الاندرغراوند أو التيوب كما يسمّيه البعض. بدا لي انه عبارة عن متاهة كبرى لها بداية وليس لها نهاية. لذا قرّرتُ تجنّبه بعد التجربة الأولى، خاصّة مع جهلي المطبق بطريقة استخدام الخرائط التي يفترض أنها تعين الشخص على التعرّف على المسارات التي تؤدّي إلى أحياء ومناطق العاصمة المتشابكة والكثيرة.
الاندرغراوند، بالمناسبة، هو أحد عجائب لندن. تمشي في شوارع هذه المدينة ولا يخطر ببالك أبدا أن تحت قدميك مدينة أخرى تقبع تحت الأرض بقطاراتها وأسواقها ومتاجرها وبشرها ومرافقها وكامل تجهيزاتها الكثيرة. ومن الغريب أن تعرف أن عمر الاندرغراوند أكثر من مائة عام خضع أثناءها للكثير من مشاريع التطوير والتحديث والتوسعة. ويكفي أن تتصوّر هول ازدحام البشر والمركبات في هذه المدينة التي تضجّ بالحركة المستمرّة لولا وجود هذا الاختراع العجيب الذي ينمّ عن عبقرية وقدرة الإنسان على فعل المعجزات.
كنتُ وأنا أشاهد كل تلك المنجزات الحضارية الهائلة أتساءل: لماذا لا يوجد عندنا مثلها. نحن لسنا اقلّ من الآخرين في شيء. وعندنا الثروة الهائلة التي لو استغلت استغلالا أفضل لكان حالنا اليوم أفضل مائة مرّة ممّا نحن عليه.
أثناء وجودي حرصتُ على زيارة متحف مدام توسو. يقال بأن من لا يزور المتحف يكون قد فوّت على نفسه رؤية احد أهمّ معالم بريطانيا الثقافية والسياحية. وقد اكتشفتُ خلال تجوالي في المتحف انه يدار بعقلية تجارية صرفة وانه لا يختلف عن أي مشروع استثماري وأن سمعة هذا المعلم في الخارج أكبر بكثير من قيمته الثقافية الحقيقية.
وخلال تطوافي على تلك التماثيل الشمعية الباردة التي تضمّها طوابق المتحف، استوقفني منظر تقاطر النساء وتزاحمهن أمام تمثال الممثّل المعروف جورج كلوني. ويظهر أن هذا الممثل أصبح النموذج الذكوري الذي تفضّله النساء في هذا الزمن بفضل وسامته اللافتة وسحر شخصيته. كان واضحا أن حظوة كلوني عند النساء تفوق تلك التي لـ دي كابريو بطل فيلم التايتانك الذي لم يجتذب تمثاله سوى القليل من النساء. هناك أيضا تمثالا انجيلينا جولي وزوجها اللذان حظيا بإقبال جمهور واسع من النساء والرجال الذين تسابقوا لالتقاط الصور مع الممثّلة وزوجها.
وفي جانب من إحدى ردهات المبنى ُخصّص لما اسماه البروشور التعريفي للمتحف بـ "الأوغاد"، رأيت تماثيل ياسر عرفات وصدام حسين والقذافي الذين يقفون بالقرب من هتلر وفيديل كاسترو وموغابي! مواطن سوداني طيّب اشتعلت في قلبه مشاعر الحميّة العربية بعد أن فهم على ما يبدو مغزى وضع التماثيل معا في ذلك المكان فاتجه إلى تمثال عرفات وطوّقه بذراعه وطبع على فمه قبلة وهو يرفع علامة النصر. ثم عرّج على تمثال صدام حسين وقبّله واحتضنه.
في المتحف أيضا قسم خاص بتماثيل العائلة الملكية البريطانية يتصدّرها تمثال هنري الثامن، ذلك الملك المعتوه الذي تميّز حكمه بالقسوة وكثرة الذبح وسفك الدماء.
ومن بين جميع التماثيل لم يشدّني سوى تمثالي كلّ من غاندي بملامحه الدقيقة وقوامه الكليل ونظّارتيه وعصاه الفارقة، والروائي الانجليزي تشارلز ديكنز الذي بدا في التمثال قريب الشبه جدّا بـ تولستوي.
متحف مدام توسو يمكن وصفه بأنه مسرح للفرجة، أو لعلّه سيرك تتحرّك بين جدرانه العربات الصغيرة وتزمجر في زواياه الموسيقى الصاخبة ممتزجة مع هدير أصوات النساء والأطفال الذين تتملّكهم الدهشة والعفوية جرّاء ما يرونه ويشاهدونه في هذا المكان الكرنفالي العجيب.
:تنويه
تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .