:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الأحد، مارس 28، 2010

فنّ الحرب


لم يكن الفنّان الفرنسي جاك لوي دافيد شخصا مسالما أو داعية للسلام. لكنّ هذه اللوحة الملحمية عن الصمود الأخير لأهل اسبارتا ليست مجرّد تمجيد للحرب.
قائد الحرب يجلس ساكنا وسط حشد من الجنود في لوحة دافيد ليونيداس في معركة ثيرموبيلي. وهي لوحة ضخمة لدرجة أنها قد لا تثير اهتمام احد لولا شخصية الملك الاسبارتي الذي يحدّق بعيدا عن الدراما التي تجري من حوله. انه ينظر إليك مباشرة وكأنه يقودك إلى داخل أجواء الرعب والحذر اللذين تصوّرهما اللحظة.
هذه اللوحة تصوّر الوقفة الأخيرة لأهالي اسبارتا في معركة ثيرموبيلي عندما كان جيش تلك الدولة اليونانية الحربية يضحّي بنفسه لإبطاء تقدّم الجيش الفارسي عبر ممرّ جبلي ضيّق. لم يكن الاسبارتيون يؤمنون بالتراجع. والنصب التذكاري الذي أقاموه في ما بعد تخليدا للمعركة يسجّل تمسّكهم بالشرف العسكري.
في أواخر القرن الثامن عشر، رسم جاك لوي دافيد الذي تسيطر على عقله النزعة البطولية مناظر من التاريخ الروماني القديم. وقد ساعدت تلك الصور التي تمجّد التضحية في سبيل الوطن في صياغة عقلية الثورة الفرنسية. وخلال سنوات الثورة، دافع الرسّام عن المجرم المتعصّب مارات الذي كان مسئولا عن ما عُرف بعهد الرعب الذي سُفكت خلاله دماء الكثير من الأبرياء. وعندما مات، نعاه دافيد بلوحة مشهورة صوّر فيها حادثة مقتله. وفي ما بعد أصبح دافيد الفنان الرسمي لـ نابليون. ثم شارك هو وأتباعه وتلاميذه في مديح حكم نابليون وتمجيد غزواته وحملاته العسكرية الكثيرة.
غير أن رؤية دافيد لمعركة ثيرموبيلي لم تكن مجرّد تمجيد سطحي للحروب. فبينما يستعدّ أبطال اسبارتا للتضحية بحياتهم في سبيل وطنهم، يقف ملكهم ليونيداس وهو يحدّق في الفراغ ويُعمل تفكيره. هل اللوحة تصوير للشكّ؟ يبدو ليونيداس وكأنه يتساءل ما إذا كان قد اتخذ القرار الصائب بخوض الحرب أو ما إذا كانت قوانين اسبارتا صحيحة. هل يفكّر هذا الملك في المجد الذي ستسجّله له صفحات التاريخ وهي تتحدّث عن تلك المعركة باعتبارها ذكرى خالدة؟
الحرب هي احد المواضيع الدائمة في الفنّ. لكننا لا ننجح في فهمها إذا حاولنا تفسيرها من منظور أفكارنا وايديولوجياتنا الخاصّة. ومنذ غورنيكا بيكاسو، فإن الفنّ المحترم الذي صوّر الحرب كان فنّا مضادّا للحروب دائما. لكن في وقت سابق من التاريخ، كانت الحروب والمعارك تستثير مشاعر أكثر تعقيدا أو أكثر صدقا.
السينما ما تزال صادقة وأمينة في تصويرها للحرب. فهي تنظر إلى الحروب كقصص جيّدة، وكواقع رهيب أيضا. ورسّامو المواضيع التاريخية في الماضي كانوا يتبنّون هذا النوع من التفكير. فالحروب هي بطولة ورعب في نفس الوقت، لدرجة أن ليونيداس يبدو في اللوحة وهو يتأمّل ميدان معركته التي كان مقدّرا له أن يخسرها.
في العام 480 قبل الميلاد، انتصر الفرس على اليونانيين في معركة ثيرموبيلي. وفي نفس تلك السنة، زحف الفرس على أثينا وأحرقوها وساووها بالأرض، لكن بعد أن أخليت من سكّانها.
بعد مقتل ليونيداس، حاول الاسبارتيون استعادة جثّته لكنّ محاولاتهم تلك باءت بالفشل. وبعد أربعين عاما من موته أمكن استعادة رفاته وأعيد دفنها. ويقال انه مات صلبا أو قُتل بقطع رأسه بناءً على أوامر من قائد الجيش الفارسي.
أكمل دافيد اللوحة عام 1841، أي في السنة التي تنازل فيها نابليون عن العرش. واللوحة تقدّم تعبيرا قويّا عن معرفة الذات وعن حزن وأسى الجنود جرّاء ما قد تؤول إليه محصّلة الحرب.
غير أن هذه اللوحة ليست لوحة مسالمة. فبعد وقت قصير سيعود نابليون إلى الحكم وسيتوجّه هو وأتباعه إلى ووترلو "للتضحية بأنفسهم في سبيل الوطن"، تماما كما فعل الاسبارتيون.
- جوناثان جونز "مترجم بتصرّف"