:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الأربعاء، مارس 31، 2010

عندما تتحوّل الصورة إلى أيقونة

في تاريخ الفنّ العالمي، لا يوجد سوى عدد قليل من الصور التي استطاعت أن تتبوّأ مكانة الرموز والأيقونات الثقافية. على رأس هذه القائمة تأتي الموناليزا لـ ليوناردو دافنشي والصرخة لـ إدفارد مونك والقوط الأمريكيون لـ غرانت وود. وكلّ هذه الصور تمّ استنساخها وطباعتها عددا لا يُحصى من المرّات وبمختلف الأساليب والأشكال.
لكن كيف تصبح الصورة أيقونة؟
في كتابه "القوط الأمريكيون" يتعقّب المؤرّخ في هارفارد ستيفن بيل التاريخ الثقافي للوحة غرانت وود المشهورة والتي تصوّر مزارعا من آيوا وزوجته "أو قيل ابنته".

كلّ شخص تقريبا يعرف هذه الصورة من خلال عمليات الاستنساخ والمحاكاة الساخرة التي خضعت لها، رغم أن القليلين يعرفون الكثير عن اللوحة الأصلية.
وعندما عرض ستيفن بيل هذه اللوحة على 59 شخصا، تعرّفوا عليها جميعا. لكن 31 فقط منهم عرفوا اسمها وخمسة فقط تذكّروا اسم الفنان الذي رسمها.
بدأت قصّة "القوط الأمريكيون" في كوخ صغير ابيض. رأى غرانت وود الكوخ من نافذة سيّارته ذات يوم من أغسطس عام 1930 ثمّ قرّر أن يرسمه. كان الكوخ مبنيّا على الطراز القوطي الذي شُيّدت به الكاثدرائيات الأوربية. وقد استعان بأخته "نان" كموديل للمرأة التي ترتدي ملابس متزمّتة وترتسم على وجهها نظرات حادّة. واختار للرجل ملامح صديقه طبيب الأسنان بايرون ماك كيبي الذي يقف مرتديا سترة سوداء وقميصا بلا ياقة بينما يمسك في إحدى يديه بمذراة ذات ثلاث شوكات. واقع الحال أن وود صمّم كلّ عنصر في اللوحة على حدة. ولم يحدث أبدا أن وقفت المرأة والرجل معا أمام البيت.
في العام 1930 قرّر وود أن يشارك باللوحة في مسابقة نظّمها معهد شيكاغو للفنون. وقد رفضها القضاة على أساس أنها "هزلية وتافهة". لكن احد رعاة الفنون حثّهم على إعادة النظر في حكمهم، فمنحوا اللوحة المركز الثالث ونال عنها وود ثلاثمائة دولار. وفي ما بعد، اقنع الرجل معهد شيكاغو بشراء اللوحة وضمّها إلى مجموعته حيث ظلّت فيه إلى اليوم.
وقد اشتهرت اللوحة بسرعة بعد أن نشرتها العديد من الصحف. لكنّ مزارعي آيوا كان لهم رأي آخر. فقد اعتبروا اللوحة كاريكاتيرا سيّئا يصوّر مزارعي الغرب الأوسط على هيئة أفراد متزمّتين دينيّا وذوي وجوه عابسة ومكفهرّة. وقالت زوجة احد المزارعين إن من المفروض أن يُضرب الرسّام على رأسه جزاءً له على ما فعل، بينما هدّدته امرأة أخرى بقضم أذنه!
غير أن غرانت وود أعلن براءته من التهمة وأكّد ولاءه لموطنه آيوا وأصرّ على أن الشخصين في اللوحة ليسا مزارعين بل فردَين من عامّة الشعب. وقد أحسّت شقيقته بالحرج لرسمها مع رجل يكبرها مرّتين فأعلنت أن شقيقها إنما كان يصوّر رجلا وابنته وليس زوجا وزوجته.
بعض النقاد الذين استهوتهم اللوحة في بداية ثلاثينات القرن الماضي، مثل غيرترود ستين وكريستوفر مورلي، افترضوا أنها تسخر من طريقة حياة الناس في المناطق الريفية الأمريكية.
لكنْ بعد بضع سنوات، وبينما كانت أمريكا تغرق في الكساد العظيم، بدأ الناس ينظرون إلى اللوحة بطريقة مختلفة. فلم تعد "القوط الأمريكيون" لوحة ساخرة بل أصبحت تعبيرا احتفاليا عن الوطنية الأمريكية والأفكار الشعبوية. وقد أشاد بعض النقاد بالمزارع وزوجته باعتبارهما تجسيدا للفضيلة الأمريكية وروح الروّاد. وقال احدهم معلّقا إن الديمقراطية الأمريكية بُنيت على أكتاف رجال أشدّاء ونساء ذوات عزيمة مثل اللذين يظهران في اللوحة.
وساهم غرانت وود في انتشار هذه القراءة الايجابية الجديدة للوحة عندما أعلن براءته من ماضيه البوهيمي في باريس وأعاد تعريف نفسه كفنّان أمريكي أصيل ومخلص. وقد أكّد هذا بقوله إن جميع الأفكار الجيّدة اكتسبها عندما كان يرعى ويحلب الأبقار في الحقول.
وأثناء حقبة الكساد الاقتصادي العظيم أصبحت "القوط الأمريكيون" صورة للهويّة الأمريكية الأصيلة. وبعد وقت قصير ظهرت أوّل محاكاة ساخرة للوحة. ففي عام 1942 نشر المصوّر غوردون باركس صورة تحمل نفس اسم اللوحة وتظهر فيها عاملة نظافة سوداء وهي تقف إلى جوار مكنستها الطويلة وخلفها علم أمريكي ضخم.
ومنذ ذلك الحين ظهرت صور عديدة تحاكي اللوحة بطريقة ساخرة واستخدُمت في المسارح ودور السينما وحملات التسويق والبرامج التلفزيونية.
لكن ما الذي يجعل "القوط الأمريكيون" لوحة متميّزة بحيث تترك انطباعا لا يمكن محوه بسهولة؟
جزء من الإجابة عن هذا السؤال يكمن في الغموض المتأصّل للصورة. هل تتضمّن اللوحة هجاءً لسكّان الريف أم أنها تحتفي بهم؟ الرسّام غرانت وود نفسه لا يبدو متأكّدا من هذا الأمر. وقد قال ذات مرّة: في اللوحة سخرية، نعم، لكنْ بالقدر الذي توجد فيه سخرية في كلّ شيء في الواقع. لقد صوّرت في اللوحة بعض أنماط البشر الذين عرفتهم طوال حياتي وحاولت بصدق أن اجعلهم يبدون كما هم في الحياة الواقعية.
لكن السرّ في الجاذبية المستمرّة لهذه اللوحة ليس موضوعها أو غموضها الكامن، وإنما شكلها، وعلى وجه الخصوص الطريقة القويّة والصاخبة التي يواجه فيه الشخصان الناظر.
لنتذكّر الصور الايقونية الأخرى في تاريخ الرسم. الموناليزا، الصرخة، مارلين، وصورة الأمّ المهاجرة لـ دوروثيا لانغ. كلّها تصوّر أشخاصا يواجهون الناظر بشكل مباشر، تماما مثل صور القدّيسين في الايقونات المسيحية التي تعود للقرون الوسطى.
تمثيل الأشخاص بهذه الطريقة يجعل صورهم محفورة في ذاكرتنا كالبصمة ويخلع عليهم قدرا من الأصالة والقدوة. وقد كان المسيحيون الأوائل يعتقدون بأن اللوحات الايقونية عبارة عن بوّابات تمكّن الناظر من الاتصال مباشرة مع الشخصيات المقدّسة التي تصوّرها.
والصور الايقونية الحديثة، مثل "القوط الأمريكيون" ما تزال تحتفظ ببعض مظاهر القداسة، بمعنى أنها ترتبط بشيء ما أكبر، وهو في هذه الحالة الذاكرة الجمعية لثقافتنا الحديثة التي تشكّل الصورة عنصرا مهمّا وأساسيا فيها.