كولين ثوبرون هو واحد من أكثر كتّاب السفر والرحلات موهبة واحتراماً في هذا العصر. وقبل سنوات، فاز بجائزة توماس كوك لكتب الرحلات عن مؤلّفه "ما وراء السور: رحلة عبر الصين".
كتابه الأخير "إلى جبل في التبت" يعتبر تحفة حقيقية. وكعادته في كتبه السابقة، يعرض المؤلّف أفكاره ومشاهداته بلغة رشيقة وشاعرية. ولكن بالإضافة إلى هذا، يضيف ثوبرون إلى كتابه الجديد مسحة إنسانية حزينة لأنه يرصد من خلال رحلته قصّة أفراد عائلته الذين قضوا جميعا.
تبدأ الرحلة في جناح بالمستشفى الذي شهد وفاة آخر فرد من أفراد أسرته. فقد توفّيت والدته مؤخّرا فقط. وقبل ذلك، رحلت شقيقته ذات الواحد والعشرين عاما. والكتاب بمعنى ما، هو محاولة لإحياء ذكراهما.
الوجهة النهائية لرحلة كولين ثوبرون هذه المرّة هي جبل يُدعى كايلاش يقع في مملكة التبت. هناك يقوم احد أقدس الجبال في العالم حسب اعتقاد ما يقرب من خُمس سكّان الكرة الأرضية.
لكن الجبل يقع في منطقة قاسية ووعرة يسكنها أناس فقراء ولم يسبق سوى للقليل من الغربيين أن بلغوا ذلك المكان المهيب.
و ثوبرون يصطحب معه في رحلته دليلا وطبّاخا وحارساً.
هذه الرحلة يمكن اعتبارها نوعا من الحجّ المقدّس يتأمّل الكاتب خلاله معنى فقدان والديه وأهله. لكنّه في نفس الوقت يكتب عن الأرواح الطيّبة وكرم الناس العاديين الذين التقاهم على طول الطريق، فضلا عن جمال المناظر الطبيعية في بلاد التبت.
الكتاب يتضمّن أيضا كلّ الأشياء التي تتوقّعها من كاتب مثل كولين ثوبرون. فهو مثلا يورد أوصافا رائعة لكلّ ما رآه وتعلّمه من دروس أثناء ترحاله. وهناك أيضا الملاحظات الجميلة عن حياة الناس الذين يعيشون في الأماكن النائية التي زارها.
كايلاش مكان يصعب بلوغه. والأكثر صعوبة أن تحصل على إذن لزيارته. والجبل يتمتّع بقدسية كبيرة عند الهندوس والبوذيين وأتباع ديانات التبت القديمة. كما انه المكان الذي تنبع منه الأنهار الأربعة العظيمة في الهند.
منظر الجبل جميل بشكل مذهل. ولكنه محاط بالأخطار. فهو مرتفع جدّا كما أن طقسه مثلج طوال أيّام السنة، يضاف إلى ذلك كثرة الانهيارات الجليدية على طول الطريق المؤدّي إليه.
وكايلاش مسجّى بقصص البشر المقدّسين والآلهة المتعدّدة. كما تتوزّع حول قمّته المعابد القديمة التي دُمّرت أثناء الثورة الثقافية قبل أن يعيد بناءها المؤمنون الفقراء.
ومثل طقوس الحجّ الأخرى، يجري الطواف حول قمّة الجبل. لكن الهواء هناك جافّ ومتجمّد. وثوبرون يجد أن هذه التجربة تفجّر رؤى وأفكارا غير متوقّعة. وقد رأى في المكان أشكالا لشياطين وبصمات على الحجارة تركها أشخاص مقدّسون.
من فوق أعلى قمم كايلاش، تبدو الهاوية في الأسفل سحيقة ومخيفة. والمنظر يذكّر المؤلف باليوم الذي توفّيت فيه شقيقته بينما كانت تتزلّج في أحد الجبال. "سألت والدتي بعض الغرباء أن يصلّوا من اجلنا. وعندئذ فقط أحسست بالخوف. أمّي لم تكن تحبّ أن تزعج أحدا".
أثناء رحلته يشرح ثوبرون للقارئ كيف أن الآلهة العديدة هناك تساعد الناس في هذه الأرض الصعبة المراس على التعامل في مواجهة عالم لا يمكن التكهّن به. وقد وجد بعض العزاء في حديث راهب ذكّره بحكمة بوذية قديمة تقول: "في النهاية، ينبغي على الإنسان أن يرحل ويترك خلفه كلّ من يحبّ".
ويستخدم المؤلّف الأفكار البوذية كأساس لكتابة تأمّلاته عن دورة الحياة وعن معنى المعاناة. كما انه يحاول استحضار ذكريات قديمة تأتي بصعوبة ومن ثم يحوّلها إلى أفكار هادئة وذات مغزى.
أثناء الرحلة، يصعد ثوبرون إلى ماناساروفار، وهي عبارة عن جنّة أرضية تقع على مساحة مائتي ميل مربّع من الماء وترتفع عن سطح البحر بأكثر من خمسة عشر ألف قدم. ماناساروفار ما تزال إحدى أقدس البحيرات في العالم. هنا طهّرت والدة غوتاما بوذا نفسها قبل أن تستقبله في رحمها.
يقول ثوبرون متحدّثا عن هذا المكان بأسلوب اقرب ما يكون إلى قصيدة منثورة: تقع البحيرة خلف اكبر حاجز جبلي على الأرض. وهي محاطة بهضاب من النقاء البارد. ومياهها تفيض في الوقت المناسب. هذا المكان ممنوع على الغرباء دخوله لأسباب غامضة. وله صدى يشبه ذاكرة شيء ضائع، حياة ما من زمن أكثر نقاءً. وربّما يخبّئ بداخله مفاتيح إلى عالم ما بعد الموت".
ثوبرون يشقّ طريقه إلى ماناساروفار صعودا مع مئات الحجّاج إلى هذه المنطقة المشحونة بالقداسة كي يجدوا السلام مع موتاهم ويتطّهروا من ذنوبهم في هذه الدنيا وفي الحياة الآخرة.
وفي أعلى الدير، يتداخل الرهبان مع بعضهم "مثل طيور السنونو التي تنتظم في أسراب صغيرة، بينما تعكس المصابيح خطوطا من الضوء على ضفّتي الجبل المتجمّد".
الرحلة إلى كايلاش قصيرة إلى حدّ ما. لكنها مليئة بالمخاطر. الجانب النيبالي من الحدود، وهو معقل سابق للمتمرّدين الماويّين، لا يمكن بلوغه إلا على متن طائرة صغيرة. ومن هناك تبدأ رحلة على الأقدام فوق قمم صخرية شديدة الانحدار لدرجة أن خطوة واحدة غير محسوبة قد تنتهي بالمسافر إلى السقوط في نهر متجمّد في الأسفل.
الجانب الصيني، وهو منطقة عسكرية مليئة بالجنود وكاميرات التجسّس، ما يزال يحمل بعضا من آثار جنون الثورة الثقافية، عندما دُمّرت الآلاف من الأديرة البوذية من قبل الحرس الأحمر.
السلطات الصينية قلقة. فالذكرى الخمسون لهروب الدالاي لاما إلى المنفى كانت قد مرّت للتو. وذكريات أحداث الشغب التبتية قبل دورة الألعاب الاولمبية في بيجين كانت ما تزال حيّة في الأذهان.
بعض الذين حاولوا الوصول إلى هذا الجبل ماتوا في الطريق. والبعض الآخر عادوا أدراجهم قبل أن يبلغوه. وعلى طول الطريق، تبدو مدرّجات "الدفن السماوي" وقد سوّيت بالصخور وتناثرت فيها قطع الملابس والعظام البشرية وريش النسور التي تلتقط الجثث وتنهشها نظيفةً.
يتضمّن الكتاب أيضا وصفا للأضرحة البوذية الغامضة والطقوس الدينية المختلفة مع إشارات متكرّرة عن مكانة ارض التبت في المخيّلة الغربية وفي التاريخ والأساطير. كما يتحدّث المؤلّف عن نباتات وحيوانات، بعضها يشير إلى طبيعة بكر وفاتنة والبعض الآخر يأتي على ذكرها كما لو أنها من كوكب بعيد.
ثم يتحدّث ثوبرون عن المستكشفين والمغامرين الذين سبقوه إلى كايلاش، ومنهم علماء نبات بريطانيون وجواسيس هنود ومبشرّون يسوعيّون، بالإضافة إلى ارستقراطي اسكتلندي تجوّل ذات يوم في مياه البحيرة المقدّسة على متن زورق مطّاطي. وهي جريمة كلّفت الحاكم المحلّي آنذاك رأسه.
"إلى جبل في التبت" كتاب أنيق ورائع. لكنه لا يوفّر خلاصاً. بل يصحّ أن يوصف بأنه مرثية لكلّ ما يجعل منّا بشرا. ولا يمكنك أن تطلب من كتاب أكثر من هذا. "مترجم".
موضوع ذو صلة: رحلة على طريق الحرير
كتابه الأخير "إلى جبل في التبت" يعتبر تحفة حقيقية. وكعادته في كتبه السابقة، يعرض المؤلّف أفكاره ومشاهداته بلغة رشيقة وشاعرية. ولكن بالإضافة إلى هذا، يضيف ثوبرون إلى كتابه الجديد مسحة إنسانية حزينة لأنه يرصد من خلال رحلته قصّة أفراد عائلته الذين قضوا جميعا.
تبدأ الرحلة في جناح بالمستشفى الذي شهد وفاة آخر فرد من أفراد أسرته. فقد توفّيت والدته مؤخّرا فقط. وقبل ذلك، رحلت شقيقته ذات الواحد والعشرين عاما. والكتاب بمعنى ما، هو محاولة لإحياء ذكراهما.
الوجهة النهائية لرحلة كولين ثوبرون هذه المرّة هي جبل يُدعى كايلاش يقع في مملكة التبت. هناك يقوم احد أقدس الجبال في العالم حسب اعتقاد ما يقرب من خُمس سكّان الكرة الأرضية.
لكن الجبل يقع في منطقة قاسية ووعرة يسكنها أناس فقراء ولم يسبق سوى للقليل من الغربيين أن بلغوا ذلك المكان المهيب.
و ثوبرون يصطحب معه في رحلته دليلا وطبّاخا وحارساً.
هذه الرحلة يمكن اعتبارها نوعا من الحجّ المقدّس يتأمّل الكاتب خلاله معنى فقدان والديه وأهله. لكنّه في نفس الوقت يكتب عن الأرواح الطيّبة وكرم الناس العاديين الذين التقاهم على طول الطريق، فضلا عن جمال المناظر الطبيعية في بلاد التبت.
الكتاب يتضمّن أيضا كلّ الأشياء التي تتوقّعها من كاتب مثل كولين ثوبرون. فهو مثلا يورد أوصافا رائعة لكلّ ما رآه وتعلّمه من دروس أثناء ترحاله. وهناك أيضا الملاحظات الجميلة عن حياة الناس الذين يعيشون في الأماكن النائية التي زارها.
كايلاش مكان يصعب بلوغه. والأكثر صعوبة أن تحصل على إذن لزيارته. والجبل يتمتّع بقدسية كبيرة عند الهندوس والبوذيين وأتباع ديانات التبت القديمة. كما انه المكان الذي تنبع منه الأنهار الأربعة العظيمة في الهند.
منظر الجبل جميل بشكل مذهل. ولكنه محاط بالأخطار. فهو مرتفع جدّا كما أن طقسه مثلج طوال أيّام السنة، يضاف إلى ذلك كثرة الانهيارات الجليدية على طول الطريق المؤدّي إليه.
وكايلاش مسجّى بقصص البشر المقدّسين والآلهة المتعدّدة. كما تتوزّع حول قمّته المعابد القديمة التي دُمّرت أثناء الثورة الثقافية قبل أن يعيد بناءها المؤمنون الفقراء.
ومثل طقوس الحجّ الأخرى، يجري الطواف حول قمّة الجبل. لكن الهواء هناك جافّ ومتجمّد. وثوبرون يجد أن هذه التجربة تفجّر رؤى وأفكارا غير متوقّعة. وقد رأى في المكان أشكالا لشياطين وبصمات على الحجارة تركها أشخاص مقدّسون.
من فوق أعلى قمم كايلاش، تبدو الهاوية في الأسفل سحيقة ومخيفة. والمنظر يذكّر المؤلف باليوم الذي توفّيت فيه شقيقته بينما كانت تتزلّج في أحد الجبال. "سألت والدتي بعض الغرباء أن يصلّوا من اجلنا. وعندئذ فقط أحسست بالخوف. أمّي لم تكن تحبّ أن تزعج أحدا".
أثناء رحلته يشرح ثوبرون للقارئ كيف أن الآلهة العديدة هناك تساعد الناس في هذه الأرض الصعبة المراس على التعامل في مواجهة عالم لا يمكن التكهّن به. وقد وجد بعض العزاء في حديث راهب ذكّره بحكمة بوذية قديمة تقول: "في النهاية، ينبغي على الإنسان أن يرحل ويترك خلفه كلّ من يحبّ".
ويستخدم المؤلّف الأفكار البوذية كأساس لكتابة تأمّلاته عن دورة الحياة وعن معنى المعاناة. كما انه يحاول استحضار ذكريات قديمة تأتي بصعوبة ومن ثم يحوّلها إلى أفكار هادئة وذات مغزى.
أثناء الرحلة، يصعد ثوبرون إلى ماناساروفار، وهي عبارة عن جنّة أرضية تقع على مساحة مائتي ميل مربّع من الماء وترتفع عن سطح البحر بأكثر من خمسة عشر ألف قدم. ماناساروفار ما تزال إحدى أقدس البحيرات في العالم. هنا طهّرت والدة غوتاما بوذا نفسها قبل أن تستقبله في رحمها.
يقول ثوبرون متحدّثا عن هذا المكان بأسلوب اقرب ما يكون إلى قصيدة منثورة: تقع البحيرة خلف اكبر حاجز جبلي على الأرض. وهي محاطة بهضاب من النقاء البارد. ومياهها تفيض في الوقت المناسب. هذا المكان ممنوع على الغرباء دخوله لأسباب غامضة. وله صدى يشبه ذاكرة شيء ضائع، حياة ما من زمن أكثر نقاءً. وربّما يخبّئ بداخله مفاتيح إلى عالم ما بعد الموت".
ثوبرون يشقّ طريقه إلى ماناساروفار صعودا مع مئات الحجّاج إلى هذه المنطقة المشحونة بالقداسة كي يجدوا السلام مع موتاهم ويتطّهروا من ذنوبهم في هذه الدنيا وفي الحياة الآخرة.
وفي أعلى الدير، يتداخل الرهبان مع بعضهم "مثل طيور السنونو التي تنتظم في أسراب صغيرة، بينما تعكس المصابيح خطوطا من الضوء على ضفّتي الجبل المتجمّد".
الرحلة إلى كايلاش قصيرة إلى حدّ ما. لكنها مليئة بالمخاطر. الجانب النيبالي من الحدود، وهو معقل سابق للمتمرّدين الماويّين، لا يمكن بلوغه إلا على متن طائرة صغيرة. ومن هناك تبدأ رحلة على الأقدام فوق قمم صخرية شديدة الانحدار لدرجة أن خطوة واحدة غير محسوبة قد تنتهي بالمسافر إلى السقوط في نهر متجمّد في الأسفل.
الجانب الصيني، وهو منطقة عسكرية مليئة بالجنود وكاميرات التجسّس، ما يزال يحمل بعضا من آثار جنون الثورة الثقافية، عندما دُمّرت الآلاف من الأديرة البوذية من قبل الحرس الأحمر.
السلطات الصينية قلقة. فالذكرى الخمسون لهروب الدالاي لاما إلى المنفى كانت قد مرّت للتو. وذكريات أحداث الشغب التبتية قبل دورة الألعاب الاولمبية في بيجين كانت ما تزال حيّة في الأذهان.
بعض الذين حاولوا الوصول إلى هذا الجبل ماتوا في الطريق. والبعض الآخر عادوا أدراجهم قبل أن يبلغوه. وعلى طول الطريق، تبدو مدرّجات "الدفن السماوي" وقد سوّيت بالصخور وتناثرت فيها قطع الملابس والعظام البشرية وريش النسور التي تلتقط الجثث وتنهشها نظيفةً.
يتضمّن الكتاب أيضا وصفا للأضرحة البوذية الغامضة والطقوس الدينية المختلفة مع إشارات متكرّرة عن مكانة ارض التبت في المخيّلة الغربية وفي التاريخ والأساطير. كما يتحدّث المؤلّف عن نباتات وحيوانات، بعضها يشير إلى طبيعة بكر وفاتنة والبعض الآخر يأتي على ذكرها كما لو أنها من كوكب بعيد.
ثم يتحدّث ثوبرون عن المستكشفين والمغامرين الذين سبقوه إلى كايلاش، ومنهم علماء نبات بريطانيون وجواسيس هنود ومبشرّون يسوعيّون، بالإضافة إلى ارستقراطي اسكتلندي تجوّل ذات يوم في مياه البحيرة المقدّسة على متن زورق مطّاطي. وهي جريمة كلّفت الحاكم المحلّي آنذاك رأسه.
"إلى جبل في التبت" كتاب أنيق ورائع. لكنه لا يوفّر خلاصاً. بل يصحّ أن يوصف بأنه مرثية لكلّ ما يجعل منّا بشرا. ولا يمكنك أن تطلب من كتاب أكثر من هذا. "مترجم".
موضوع ذو صلة: رحلة على طريق الحرير