:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الأربعاء، يونيو 13، 2012

فيتشين: جسر بين ثقافتين

"كان شتاء عام 1920 واحدا من أصعب الشتاءات في تاريخ الثورة الروسية. كان كلّ شيء يتّجه للأسوأ. وأصبح المواطنون المتحمّسون لرؤية روسيا جديدة وحرّة جائعين ونصف متجمّدين وجدّ مكتئبين.
كان الوضع الاقتصادي في البلاد كلّها قد وصل إلى حالة يُرثى لها. أضف إلى ذلك أن الشتاء البارد بشكل غير عاديّ أنهك الناس أكثر وجعلهم فريسة للصقيع والظلام، وقبل كلّ شيء الجوع.
وما بين الموجات المخيفة من فقدان التعاطف الإنساني وعدم اكتراث الطبيعة، كان يتعيّن علينا أن نتحوّل إلى الطبيعة وأن نصلّي من أجل الرحمة". - من مذكّرات الكسندرا فيتشين "مسيرة الماضي"

في فترة عصيبة من التاريخ، كان نيكولاي فيتشين (1881-1955) يدرس في مدرسة الفنّ في كازان. كان يتنقّل جيئة وذهابا باستخدام القطار على خط موسكو - كازان في عطلة نهاية الأسبوع. وبالإضافة إلى مشاكل النقل ونقص الطعام والوقود، كان من الصعب عليه أيضا تدبير الألوان وقماش الرسم.
في سيرته الذاتية، يقول فيتشين عن فترة دراسته آنذاك: كان البرد لا يطاق في الداخل. كنّا نرسم على معاطف الفرو والقفّازات والأحذية الثقيلة. كان من المستحيل خلع الملابس. كنت اشعر بعمق كيف أنني كنت افقد طاقتي الإبداعية بسرعة. كلّ أشكال الفنون في ذلك الوقت كانت تُستخدم من اجل الدعاية".
وعندما وجد فيتشين نفسه مضطرّا لرسم اللجان البيروقراطية بقرار من الأنظمة السوفياتية لـ ماركس ولينين وغيرهما، بدأ الرسّام يفكّر في خطّة للهرب. وانتظر إلى أن أصبحت الحياة في منتهى البؤس. فقد مات والداه بالتيفوئيد، كما أصيب فيتشين نفسه بالتهاب رئوي ولم يعد بمقدوره مواصلة الدراسة.
كان موظّفو فرق الإغاثة الأمريكية قد بدءوا يتوافدون على روسيا. ولم يكن فيتشين يخفي إعجابه بالحياة في أمريكا. وعندما وصل إليها برفقة زوجته الكسندرا وابنته آيا كتب يقول: يوجد سلام وحرّية في هذه البلاد. يمكن للمرء أن يعمل ويرسم ما يريد. ليس هناك مآسٍ ولا فوضى يائسة تمزّق أعصاب الناس. إن جذوري هناك. لكنّي فقدت رغبتي في العمل وإرادتي في الحياة والأمل".

على الرغم من الاضطرابات ذات الأبعاد الملحمية التي عايشها، كان نيكولاي فيتشين يواصل إبداعه. ولا يُعرف مدى تأثير تجاربه المريرة في الحياة على أسلوبه الفنّي الجريء والمتفجّر والعاصف.
لكن ما نعرفه من نظرة سريعة على حياته وعلى أعماله التي لا نظير لها، هو أن الحروب العالمية والثورات والصراعات الأهلية والمجاعات وانهيار الاقتصاد والمرض والهجرة القسرية والعوائق اللغوية وتجربة الطلاق في نهاية المطاف لم تستطع أن تسحق عزيمة فيتشين وإصراره على أن ينتج فنّا مختلفا. وبينما كانت الأرض تهتزّ تحت قدميه بطريقة خطيرة، كانت لوحاته تفوز بالعديد من الجوائز وتُعرض في أنحاء متفرّقة من العالم.
واليوم، وبعد مرور أكثر من خمسين عاما على وفاته، ما تزال أعماله تحقّق أرقام بيع قياسية في المزادات العلنية.
ولد نيكولاي فيتشين عام 1881 في كازان عاصمة جمهورية التتّار الواقعة على نهر الفولغا. كان والده يمتلك محلا للنجارة متخصّصا في نحت وتذهيب المناظر التي تذهب لتزيين الكنائس. وفي متجر والده، وقع الصغير نيكولاي في حبّ حفر الخشب. وفي الرابعة، أصيب بمرض التهاب السحايا المهلك ودخل في غيبوبة لمدّة أسبوعين. حتّى أفضل الأطبّاء لم يمكنهم فعل شيء من اجله وتوقّعوا أن يصاب بتخلّف عقلي إن كُتبت له الحياة. وكان على والديه أن يصلّيا من أجل حدوث معجزة. ثمّ لم يلبث الطفل أن شُفي من مرضه بما يشبه المعجزة.
بدأ نيكولاي فيتشين دراسة الرسم عندما بلغ الرابعة عشرة. كان من بين أساتذته اييليا ريبين الذي يقول فيتشين عنه: كان يثمّن الأصالة في أعمال تلاميذه. ولم يكن يرى عمل الطالب في ما يرسم فحسب، بل روحه أيضا".
لكن ريبين لم يلبث أن غادر الأكاديمية. "لقد تركنا لوحدنا. لم يعد هناك احد يمتدحنا أو يسخر منّا. لذا أصبحنا نعتمد على قدراتنا الذاتية. وبدأت أجرّب أساليب مختلفة في الرسم. وفي بدايات الشتاء تغيّر أسلوبي بشكل جذريّ".
في ذلك الوقت، فازت إحدى لوحاته بجائزة في معرض أقيم بـ روما. ثمّ دُعي للمشاركة في معارض دولية مختلفة. واشترى أعماله بعض الأمريكيين الذين ساعدوه في ما بعد على تيسير هجرته إلى أمريكا.
وبدأت جوائز عديدة أخرى تأخذ طريقها إليه. وأصبح جامعو الأعمال الفنّية في ايطاليا وفرنسا وألمانيا والولايات المتّحدة يطلبون أعماله.

تخرّج فيتشين من الأكاديمية مع منحة للسفر إلى الخارج لدراسة الفنّ. وتجوّل في عواصم الفنّ في أوروبّا. واستوعب فنّ النمسا وايطاليا وألمانيا وفرنسا. واستكشف خلال رحلته تلك تقنيّات اللون والضوء والهواء التي كان يستخدمها رينوار وديغا ومانيه ومونيه وسورا. وترك كلّ واحد من هؤلاء تأثيرا ما عليه طوال حياته.
في عام 1913، أصبحت الفتاة الأرستقراطية الجميلة الكسندرا بلكوفيتش ابنة مؤسّس أكاديمية كازان للفنون زوجة لـ نيكولاي فيتشين. وفي عام 1914، أي في بداية الحرب العالمية الأولى، رُزق الزوجان بطفلتهما الأولى وأسمياها آيا. وخلال الثورة البلشفية عام 1917، فرّت الكسندرا وآيا إلى منزل العائلة الريفي. وفي عام 1923، وبعد الحصول على مساعدة بعض الأصدقاء، غادرت العائلة روسيا إلى مدينة نيويورك التي وصلتها بالقارب واتخذتها مقرّا ووطنا بديلا.
في نيويورك، استأنف فيتشين عمله في الرسم والتدريس على الفور. وبعد ثلاث سنوات، أصيب بمرض السلّ، ونصحه طبيبه بالبحث عن مكان يتوفّر فيه جوّ جافّ. وأوصاه احد أصدقائه بالذهاب إلى قرية تاوس في نيومكسيكو.
وبحلول عام 1926، وصل فيتشين وعائلته إلى تاوس. كان وقتها في منتصف العمر تقريبا. وقد رحّب به الهنود الحمر والأمريكيون من أصول اسبانية. وألهمه ذلك أن يرسم كرم الطبيعة والناس.
في ذلك الحين، بدأت لوحاته تكتسب جرأة ونضجا إضافيين. أصبحت مناظره أكثر حيوية وأخفّ وأكثر إشراقا بفعل الألوان النقيّة والساطعة.
في مقال روسي عن فيتشين، كتبت غالينا تولوزاكوفا تقول: التغيير الجذريّ في نظرة فيتشين إلى العالم حدث في تاوس بـ نيومكسيكو. أصبحت لوحاته تضجّ بالألوان المبهجة والمشرقة والساخنة والشديدة الكثافة".
في تاوس، اشترى الرسّام منزلا أعاد تشكيله وقام بتوسعته. ثم تحوّل المنزل في ما بعد إلى "متحف الفنّ في تاوس"، حيث يمكن للزوّار اليوم التجوّل على مهل بين الغرف والإعجاب بأعمال الرسّام، بدءاً بالخشب المحفور باليد، إلى ضربات فرشاته التي تبدو عشوائية على قماش لوحاته.

كانت الكسندرا بلكوفيتش العازل الذي يفصل فيتشين عن العالم الخارجيّ. وكانت تقوم بالاتصالات نيابةً عنه وتدير العديد من أعماله. كما كانت تحرص على إبقاء الزوّار على مسافة منه وهو يرسم. ولم يكن يتسامح مع أيّ إلهاء أو تبديد لوقته. كانت الكسندرا تتحمّل قلقه وعصبيّته. غير أن تلك العلاقة كانت مليئة بالتوتّر والصراع أيضا. وبعد إحدى فورات غضبه الموجّهة نحو الكسندرا أمام بعض رعاته، طلبت منه الطلاق. وقالت في ما بعد: كان من الممكن أن أغفر له لو انه لم يفعل ذلك أمام الزوّار".
وفي عام 1934، انتهى زواج فيتشين الصاخب من الكسندرا. وبعد أن قطع أواصره مع موطنه الأوّل، والآن مع الزوجة التي أحبّها، لم يكن أمام فيتشين إلا أن يعود مع آيا مجدّدا إلى نيويورك. وقرّر أخيرا أن يستقرّ في وادٍ قرب سانتا مونيكا حيث عاش بقيّة أيّامه. وخلال تلك الفترة، سافر مع طلابه للرسم في المكسيك وفي جزيرة بالي في أقاصي البحار الجنوبية.
على النقيض من الانطباعيّين المعروفين بضربات فرشاتهم القصيرة لخلق توتّر سطحي مع طابع ليّن وأنثوي، فإن نيكولاي فيتشين كان يستخدم فرشاة جريئة وعريضة خالقا توتّرا انفعاليا مع مسحة ذكورية. ولسنوات طويلة، سواءً أثناء حياته أو بعد فترة طويلة من وفاته، استمرّ عشرات الرسّامين يشيدون به ويحاكون أعماله المشرقة والقويّة.

Credits
fechin.com
taosartmuseum.org