اصطدمت عيناي بهاتين اللوحتين أكثر من مرّة وفي أوقات مختلفة بينما كنت أبحث عن لوحات تصلح لأن تضاف إلى سلسلة اللوحات العالمية. وفي كلّ مرّة، كان ردّ الفعل مزيجا من الصدمة والاستغراب. الصدمة؛ لأن المنظر صادم ومستفزّ من حيث طبيعته وتفاصيله. فأنا لا أظنّ أن هناك منظرا يمكن أن يفوق في توحّشه وساديّته منظر قتل إنسان بقطع رأسه كائنا ما كانت الجريمة التي ارتكبها. أما الاستغراب فمردّه أن من يقوم بفعل الذبح في الصورة امرأة. ومن هنا قد يستكثر الإنسان على المرأة، بما يُفترض أنها جُبلت عليه من رقّة وعاطفة، أن ترتكب عملا يتسم بالعنف والوحشية، بصرف النظر عن مدى عدالة أو منطقية الأسباب وما يُساق لها أحيانا من مبرّرات ودوافع وطنية أو دينية.. إلى آخره.
وليس هناك حاجة للقول إن المنظر الذي تصوّره اللوحتان مزعج وغير مريح بالمرّة. فالعنف فيهما واضح والقسوة صارخة بما لا يحتمل. ويقال إن لوحة كارافاجيو هي اللوحة الأعنف في تاريخ الفن التشكيلي العالميّ.
كارافاجيو ايطالي وكذلك الرسّامة ارتيميشيا جينتيليسكي. ولوحتاهما هنا تعالجان موضوعا واحدا بطلته امرأة يهودية اسمها جوديث. وهي نموذج للمرأة التي تقتل العدوّ كي يحيا شعبها. وسلاحها في ذلك جمالها وجاذبيّتها الطاغية.
والقصّة تعود إلى حوالي منتصف القرن الثاني قبل الميلاد وقد ورد ذكرها في الإنجيل. وفي تفاصيلها أن الملك البابلي نبوخذ نصّر أرسل قائد جيشه هولوفيرنس على رأس كتيبة ضخمة لتأديب الشعوب المجاورة التي لم تساند حكمه. وقد فرض هولوفيرنس خلال تلك الحملة حصارا على أهالي مدينة تسمّى بيتوليا. ومن تلك المدينة خرجت جوديث التي ستقتل القائد البابلي وتنهي الحصار المفروض على قومها. وقد مثلت القصّة كثيرا في الفن، ورسمها ميكيل انجيلو في سقف كنيسة سيستين في ثلاثة مشاهد متسلسلة.
وجوديث نموذج آخر لنساء يهوديات كثيرات فعلن شيئا مثل هذا.
دليلة، مثلا، سلّمت شمشون الجبّار إلى أعدائه بعد أن سيطرت عليه بسحرها وغوايتها.
وسالومي، وهي بغيّ يهودية أخرى، اشترطت على الملك الروماني هيرودس أن يأتيها برأس يوحنّا المعمدان (أو يحيى بن زكريّا في الأدبيات الإسلامية) مقابل أن تهبه نفسها. وكان لها ما أرادت.
وقائمة النساء من هذا النوع طويلة. ومن الواضح أن ثمّة ثلاثة عناصر ثابتة في مثل هذه القصص: الجنس والتخفي والخمر.
لكن، لا يُعرف على وجه اليقين ما إذا كانت هذه القصص - باستثناء الأخيرة - حقيقية أو أنها مجرّد أساطير أو حكايات فولكلورية جرى تأليفها لإضفاء طابع البطولة والتضحية على شخصية المرأة اليهودية.
ومنذ فترة، اطلعت على دراسة جميلة كتبتها اندريا مارتن، أجرت فيها مقارنة بين رؤية كل من كارافاجيو وأرتيميشيا جينتيليسكي لقصّة جوديث من منظور الجندر، أو الفوارق الجنسانية بين الرجل والمرأة.
تبدأ الكاتبة كلامها بالحديث عن الأرملة اليهودية جوديث التي حاولت وقف هجوم العدوّ على شعبها، فدخلت مخيّم الجيش المهاجم مع وصيفتها لمواجهة قائده المسمّى هولوفيرنس.
وقد تمكّنت المرأة من دخول المخيّم بعد أن فتنت الحراس بجمالها. وهي ستفعل الشيء نفسه في ما بعد مع هولوفيرنس. واستطاعت في ما بعد إقناع القائد البابلي بأنها راغبة فعلا في مساعدة جيشه فقبل مشورتها له بتأجيل خطة الهجوم.
وفي إحدى الليالي وبعد أن تناول الجميع العشاء، سكر القائد حتى أغمي عليه وأصبح في حالة من الضعف مكّنت جوديث "بدعم من العناية الإلهية" من قطع رأسه.
وعادت هي ووصيفتها منتصرة إلى أرض قومها ومعها رأس القائد المقطوع. وبذا ضمنت سلامة شعبها، كما يقول الإنجيل.
ولوحة ارتيميشيا جينتيليسكي عن القصّة هي عبارة عن تصوير عنيف ومبتكر للحظة التي تحزّ فيها المرأة رقبة الرجل. والمنظر يثير شعورا بقوّة الأنثى وسيطرتها.
ثم تجري الكاتبة مقارنة بين لوحتي كارافاجيو و جينتيليسكي عن الحادثة، في محاولة للوقوف على الاختلافات والفوارق بين أسلوبي الرسّامين في معالجتهما للموضوع، فتقول: إن الفحص المتأنّي للغة الجسد في هاتين اللوحتين سيكشف بوضوح عن اختلاف الفنانين في رؤيتهما للقصّة من منظور الجندر.
فـ كارافاجيو، من منظوره الذكوري، يرسم جوديث معتمدة على تدخّل الربّ باعتباره الوسيلة التي تمنحها القوّة.
بينما جينتيليسكي، من منظورها الأنثوي، تؤكّد على أن قوّة جوديث متأصّلة فيها ومتأتية من ذاتها. فهي تبدو قويّة، مصمّمة ومعتدّة بنفسها بينما تباشر قطع رأس قائد الجيش الغازي.
إنها تمسك بيدها اليسرى خصلة من شعره لمنعه من الحركة فيما ذراعها الأيمن يجري الخنجر بقوّة على رقبته. كما أنها تُميل جسدها إلى الخلف في محاولة لإبعاد الدم عن ملابسها، تماما مثلما يفعل من يذبح حيوانا.
إن المرأة تؤدّي مهمّتها بإحكام. وهي ترمق هولوفيرنس بنظرات باردة توحي بأنها منفصلة عن ضحيّتها، لكنها أيضا تعكس إصرارها وعزيمتها.
وتعبيرات وجهها، خاصّة ما حول الحاجبين، تنمّ عن تركيز وتصميم شديدين. وهي تبدو مستعدّة بل وراغبة في قتل الخصم بلا اكتراث أو ندم.
ورغم أن القصّة الإنجيلية توحي بأن تدخل الربّ كان ضروريا وحاسما في مساعدة المرأة على تنفيذ عملية القتل، فإن أسلوب جينتيليسكي في التعامل مع شكل وهيئة جوديث يكشف عن أن الرسّامة تعتقد انه حتى وإن كان الفعل قد نفّذ بمشيئة الله فإنها تعتبر جوديث قادرة تماما على أداء واجبها بفضل حيَلها الخاصّة وقوّتها الجسدية وبراعتها.
إن جوديث في لوحة جينتيليسكي تميل بجسدها إلى الوراء، لكن جوديث كارافاجيو تفعل ذلك كما يبدو نتيجة إحساسها بالصدمة النفسية من تصرّفها. إنها لا تسيطر على نفسها، بل ترتكب جريمة قتل لأن إرادة الله أوجبت ذلك.
وبينما تبدو جوديث جينتيليسكي وهي تنفذ المهمّة بوحي من شعورها الوطني وقوّتها الخاصّة والكامنة، فإن كارافاجيو يصوّرها وكأنها تطلب مساعدة الإله في ارتكاب ذلك العمل.
ومن الواضح أن جينتيليسكي تريد أن تقول إن النساء يمكنهن التحكّم في أيّ وضع يواجهنه. وفي المقابل، يُظهر كارافاجيو الأنثى في وضع من يطلب تدخّلا إلهيا لكي يتغلّب على مثل ذلك الظرف الهائل والعصيب.
ورغم انه من غير الواضح في الإنجيل كم كان عمر الخادمة، فإنها تبدو في لوحة جينتيليسكي شابّة وقويّة، بل وأيضا مشاركة بفاعلية في جريمة قتل هولوفيرنس .
إن جينتيليسكي تشرك الخادمة في عملية القتل، وفي هذا مخالفة للرواية الدينية التي تذكر أن جوديث قهرت خصمها بفضل العناية الإلهية وحدها.
وفي هذا إشارة واضحة إلى أن موت القائد كان على يد المرأتين الشابتين. وهو تفسير قد لا يخطر ببال رجل بسهولة.
ذلك أن فكرة أن تقوم نساء بقتل رجل، بصرف النظر عمّا إذا كان عدوّا، يمكن أن تعتبر تهديدا وتحدّيا للسلطة الأبوية التي كان يتمتع بها الرجال زمن جينتيليسكي.
لكن الفنانة كانت ترى أن النساء قادرات على أن يتجاوزن دورهن الاجتماعي الهامشي والضيّق. وأكثر من هذا، فإن تفسيرها للقصّة يخوّل النساء أن يتصرّفن خارج إطار سيطرة الله.
وبالنتيجة، فإن تصويرها للخادمة وهي تشارك في قتل هولوفيرنس يبدو نابعا من منظور أنثوي واضح.
ولا بدّ وأن نلاحظ أن تمثيل كل من جينتيليسكي وكارافاجيو المتناقض للغة جسد هولوفيرنس في لحظات موته هي نتيجة لاختلاف منظوريهما. مثلا وكما ورد آنفا، فإن الخادمة في لوحة جينتيليسكي تمسك بالضحية وتثبّته أرضا بينما تطبق جوديث على رأسه في محاولة للسيطرة عليه وشلّ حركته.
وعلى النقيض من ذلك، فإن كارافاجيو - وكما هو متوقّع - يصوّر هولوفيرنس وكأنه يعرف أن الله قد هزمه. والدليل على هذا واضح على وجه الرجل. فهو ينظر إلى أعلى مدركا انه لن يكون بمقدوره أن يتجنّب غضب الربّ. ورغم أن جوديث تشدّ شعره بينما تقوم بفصل رأسه، فإنه لا جوديث ولا خادمتها مهتمّة بتثبيت جسده أرضا.
وهذه نقطة مهمّة تفترض أن هولوفيرنس كان قادرا على التصدّي للمرأتين ومقاومتهما لأنه غير مسيطَر عليه تماما.
وكارافاجيو يريد أن يقول ضمنا إن صراع هولوفيرنس كان مع الله فقط.
وفي حين أن لوحة جينتيليسكي تشير بوضوح إلى قوّة وسيطرة المرأتين على عدوّهما ومسئوليّتهما عن موته، يشدّد كارافاجيو من خلال أسلوبه في تصوير المرأتين على حاجتهما لمساعدة إلهية لكي ينفذا مؤامرتهما بنجاح.
وتضيف الكاتبة: إن جنس كلّ من الفنانَين يؤثّر في طبيعة نظرته إلى جوديث في مثل هذه الظروف. وكلّ منهما لديه استجابة جنسانية مختلفة تجاه موضوع وفكرة اللوحة.
فـ كارافاجيو في لوحته يؤكّد منظورا ذكوريا واضحا بتصويره جوديث حذرة ومتردّدة إلى حدّ ما. وهي تستخدم قوّتها "التي منحها إياها الربّ مؤقتا" كي تقتل عدوّها.
وفي لوحة كارافاجيو أيضا نرى هولوفيرنس وهو ينظر إلى السماء مدركا أن قدرة الله اكبر من قدرته. وكارافاجيو لا يرى أن موت هولوفيرنس تحقق فقط على يد امرأة شابّة متسلّحة بخنجر، لأنها في النهاية مجرّد امرأة ضعيفة ومحدودة القوى.
في حين أن لوحة جينتيليسكي تظهر جوديث بمظهر المرأة القويّة والشديدة البأس والحازمة. وهي ووصيفتها؛ المتساوية معها في حدود المسئولية، مسئولتان معا عن قتل غريمهما.
وهكذا يبدو جليا أن الاختلافات بين اللوحتين تعكس الفوارق الفردية بين جنسي الرسّامين.
فـ كارافاجيو يصوّر المشهد من منظور رجل، وجينتيليسكي تصوّره من منظور امرأة.
renaissancereframed.com