إن كنت تتطلّع لقراءة رواية فيها أشياء من دستويفكسي ونيتشه وبيكيت وسارتر في وقت واحد، فإن هذه الرواية قد تلبّي طموحك. "القلعة" هي أجمل روايات فرانز كافكا، وربّما أكثرها إثارة للمشاعر. صحيح أن المحاكمة والمسخ مليئتان بعمقهما الخاصّ وبحزنهما المعقّد، لكنهما لا تتركان في النفس مثل هذا الإحساس اللاذع بغربة الإنسان وعبثية الحياة.
"القلعة" هي قصّة (ك)، الذي يدّعي أنه مسّاح أراض أرسله شخص مجهول لغرض ما غير معروف إلى القلعة. القلعة نفسها مكان مجهول. كما أن القارئ لا يعرف على وجه التحديد ما الذي يُفترض أن ينجزه (ك) هناك.
السرد في هذه الرواية لا يتحرّك نحو نهاية أو غاية واضحة. وبدلا من ذلك، يقدّم كافكا للقارئ سلسلة من الإحباطات وهو يتابع محاولات (ك) المتكرّرة كي ينجز عمله. ومع ذلك لا يستطيع أن يتحرّك أبعد من محيط القلعة الشبحي.
(ك) لا يُسمح له أبدا بدخول القلعة. كما انه لا يستطيع العودة إلى بيته. ويُترك لوحده وهو يواجه ثنائيات اليقين والشك، الأمل والخوف، في كفاحه الذي لا ينتهي وهو ينتقل من متاهة لأخرى.
بدأ كافكا كتابة "القلعة" عام 1922م. ولم ينتهِ منها أبدا. ومع ذلك، فهذه الرواية، آخر رواياته الثلاث العظيمة، تستخلص نتائج رائعة تجعلها تبدو كاملة بشكل غريب. في الاستهلال المشهور للرواية، فإن القلعة حاضرة بشكل مشئوم حتى في غيابها. "في وقت متأخّر من الليل وصل (ك). كانت القرية قابعة في عمق الظلام والثلج. التلّة التي تقوم عليها القلعة يحجبها الضباب والعتمة. لم يكن هناك أدنى بصيص ضوء يمكن أن يكشف عن وجودها. وعلى الجسر الخشبيّ المؤدّي إلى القرية، وقف (ك) لفترة طويلة وهو يحدّق في الفراغ الوهمي فوقه". الوصف القوطي للمكان طوال الرواية مثير للمشاعر على نحو لا يطاق. وهو يلمّح إلى وجود عناصر من السرّية وربّما الخداع. لكن رغم الظلمة، فإن (ك) يعلم بوضوح عن وجود القلعة بدليل تحديقه الطويل في الظلام فوقه.
كافكا يجلب القارئ إلى منطقة باردة وغير مضيافة ولا يوجد فيها ضوء سوى بالكاد. ولا بدّ وأن يشعر المرء بكمّية الجهد البدني المبذول للتعامل مع هذا المكان الذي تحيطه الثلوج الكثيفة من كلّ جانب.
في صباح اليوم التالي، يرى (ك) القلعة فوقه واضحة المعالم في الهواء. ثم يكتشف أنها مجرّد بلدة بائسة المظهر تتألّف من كومة من المباني الصغيرة المحشورة معا. وميزتها الوحيدة، إن وجدت، تتمثّل في أنها مبنيّة من الحجر. "كان الجبس قد تقشّر منذ فترة طويلة والحجر يبدو أنه ينهار".
جوّ ومزاج الرواية اللذان يصعب وصفهما هما اللذان يمنحانها سماتها الخاصّة. ومع ذلك فإنك لن تفهمها على وجه التحديد، ولن تستطيع التعبير تماما عن ما تعنيه. وهذا ما يفعله كافكا. انه يزعزع استقرار القارئ بالكتابة عن الأشياء المألوفة في الحياة اليومية. ولكنّه يموّهها بحيث تبدو لنا الحياة مثل حلم غريب أو قصّة من قصص الخيال. وعندما تغلق صفحات الرواية وتعود إلى الواقع، ستتجلّى أمام عينيك كافّة مشاعر اليأس التي اعتدنا أن نستبعدها كي نستمرّ في أداء أعمالنا اليومية المعتادة.
هذا الكتاب سيجعلك حزينا بسبب الأشياء المفقودة في حياتك. إننا شهود على نضال (ك) غير المجدي من اجل الاعتراف والاحترام. كيانه كلّه يتقوّض من قبل أولئك الذين لا يعترفون بمهمّته أو حقّه في أن يكون له مكان. كافكا يأخذك بعيدا عن حياتك الخاصّة بكلّ تعبها ومعاناتها، فقط لكي يعيدك محطّما إلى واقع جديد يتعيّن عليك فيه أن تواجه بعض هذه الحقائق التي كدت تنساها.
في القلعة، يتمّ تضليل البطل باستمرار ويعامَل بطريقة غير إنسانية. إنه شخص عاجز بلا حول ولا قوّة ومستعبد لقوى خارجة عن إرادته ولا يستطيع الفكاك من سيطرتها. كما انه لا يعرف مصدر تلك القوى التي تضطهده وتهمّشه. القارئ الحديث يجد في هذه الرواية صدى لواقعه هو، فهو أيضا يشعر بالعجز في مواجهة انهيار النظم المصرفية وتخريب المؤسّسات المالية وانتشار الفساد، والذي يؤثّر على حياته كثيرا. إننا لا نعرف أيضا أين تقع السلطة المسئولة عن هذا الفساد، ما يضفي على الواقع طابعا كابوسيّا.
هل القلعة كناية عن الله؟ الدين؟ البيروقراطية الحكومية والسياسية؟ الوطن؟ السلطة؟ إن من الخطأ أن ننظر إلى القلعة، أو حتى المحاكمة، باعتبارها معنيّة بالبيروقراطية وغياب العدالة. مثل هذه القراءة تقلّل من أهمّية مشروع كافكا الفنّي، بل وتختزله بالضرورة. كافكا يكتب عن أشياء بسيطة ومهمّة: مشاعر الوحدة والألم والتوق إلى صحبة البشر وحاجة الإنسان إلى الاحترام والفهم.
لم يكن كافكا يشعر انه يعيش في وطن. وكان يشتكي دائما من غياب إحساسه بالهويّة. ومن المرجّح أن كلّ هذه الأشياء، أو بعضها، تمثّل أجزاء من الطبيعة المتعدّدة الجوانب لهذه الرواية المزعجة.
بطل كافكا المأساوي لا يمكن اعتباره بطلا على الإطلاق. فهو دائما يعمل لخدمة أهواء الآخرين، سواءً كانوا مسئولين، أو قضاة، أو سلطة .. إلى آخره. والقلعة يمكن أن تكون رمزا للقوى التي تتحكّم في مصائرنا وتهمّشنا وتمنع نموّنا، سواءً كانت تلك القوى سياسية أو اجتماعية أو سيكولوجية أو عاطفية. وهذا هو السبب في أننا يجب أن نقاومها دائما ونسعى لكشف الصدوع والثغرات في بُنيتها الاستبدادية. الألم والحيرة اللذان يشعر بهما (ك) هما صدى لألم وحيرة أولئك الذين يحسّون بأن هذا العالم يثقل كاهلهم ويضغط على أنفاسهم.
ربّما تكون هذه الرواية أعظم أعمال كافكا. وهي تجسّد بوضوح حكمته المأثورة في أن الكتابة يجب أن تكون فأسا يكسر البحر المتجمّد في دواخلنا.
كافكا هو الحقنة التي تسحب دم القارئ. وهو القلم الذي يكتب بذلك الدم. "مترجم".
"القلعة" هي قصّة (ك)، الذي يدّعي أنه مسّاح أراض أرسله شخص مجهول لغرض ما غير معروف إلى القلعة. القلعة نفسها مكان مجهول. كما أن القارئ لا يعرف على وجه التحديد ما الذي يُفترض أن ينجزه (ك) هناك.
السرد في هذه الرواية لا يتحرّك نحو نهاية أو غاية واضحة. وبدلا من ذلك، يقدّم كافكا للقارئ سلسلة من الإحباطات وهو يتابع محاولات (ك) المتكرّرة كي ينجز عمله. ومع ذلك لا يستطيع أن يتحرّك أبعد من محيط القلعة الشبحي.
(ك) لا يُسمح له أبدا بدخول القلعة. كما انه لا يستطيع العودة إلى بيته. ويُترك لوحده وهو يواجه ثنائيات اليقين والشك، الأمل والخوف، في كفاحه الذي لا ينتهي وهو ينتقل من متاهة لأخرى.
بدأ كافكا كتابة "القلعة" عام 1922م. ولم ينتهِ منها أبدا. ومع ذلك، فهذه الرواية، آخر رواياته الثلاث العظيمة، تستخلص نتائج رائعة تجعلها تبدو كاملة بشكل غريب. في الاستهلال المشهور للرواية، فإن القلعة حاضرة بشكل مشئوم حتى في غيابها. "في وقت متأخّر من الليل وصل (ك). كانت القرية قابعة في عمق الظلام والثلج. التلّة التي تقوم عليها القلعة يحجبها الضباب والعتمة. لم يكن هناك أدنى بصيص ضوء يمكن أن يكشف عن وجودها. وعلى الجسر الخشبيّ المؤدّي إلى القرية، وقف (ك) لفترة طويلة وهو يحدّق في الفراغ الوهمي فوقه". الوصف القوطي للمكان طوال الرواية مثير للمشاعر على نحو لا يطاق. وهو يلمّح إلى وجود عناصر من السرّية وربّما الخداع. لكن رغم الظلمة، فإن (ك) يعلم بوضوح عن وجود القلعة بدليل تحديقه الطويل في الظلام فوقه.
كافكا يجلب القارئ إلى منطقة باردة وغير مضيافة ولا يوجد فيها ضوء سوى بالكاد. ولا بدّ وأن يشعر المرء بكمّية الجهد البدني المبذول للتعامل مع هذا المكان الذي تحيطه الثلوج الكثيفة من كلّ جانب.
في صباح اليوم التالي، يرى (ك) القلعة فوقه واضحة المعالم في الهواء. ثم يكتشف أنها مجرّد بلدة بائسة المظهر تتألّف من كومة من المباني الصغيرة المحشورة معا. وميزتها الوحيدة، إن وجدت، تتمثّل في أنها مبنيّة من الحجر. "كان الجبس قد تقشّر منذ فترة طويلة والحجر يبدو أنه ينهار".
جوّ ومزاج الرواية اللذان يصعب وصفهما هما اللذان يمنحانها سماتها الخاصّة. ومع ذلك فإنك لن تفهمها على وجه التحديد، ولن تستطيع التعبير تماما عن ما تعنيه. وهذا ما يفعله كافكا. انه يزعزع استقرار القارئ بالكتابة عن الأشياء المألوفة في الحياة اليومية. ولكنّه يموّهها بحيث تبدو لنا الحياة مثل حلم غريب أو قصّة من قصص الخيال. وعندما تغلق صفحات الرواية وتعود إلى الواقع، ستتجلّى أمام عينيك كافّة مشاعر اليأس التي اعتدنا أن نستبعدها كي نستمرّ في أداء أعمالنا اليومية المعتادة.
هذا الكتاب سيجعلك حزينا بسبب الأشياء المفقودة في حياتك. إننا شهود على نضال (ك) غير المجدي من اجل الاعتراف والاحترام. كيانه كلّه يتقوّض من قبل أولئك الذين لا يعترفون بمهمّته أو حقّه في أن يكون له مكان. كافكا يأخذك بعيدا عن حياتك الخاصّة بكلّ تعبها ومعاناتها، فقط لكي يعيدك محطّما إلى واقع جديد يتعيّن عليك فيه أن تواجه بعض هذه الحقائق التي كدت تنساها.
في القلعة، يتمّ تضليل البطل باستمرار ويعامَل بطريقة غير إنسانية. إنه شخص عاجز بلا حول ولا قوّة ومستعبد لقوى خارجة عن إرادته ولا يستطيع الفكاك من سيطرتها. كما انه لا يعرف مصدر تلك القوى التي تضطهده وتهمّشه. القارئ الحديث يجد في هذه الرواية صدى لواقعه هو، فهو أيضا يشعر بالعجز في مواجهة انهيار النظم المصرفية وتخريب المؤسّسات المالية وانتشار الفساد، والذي يؤثّر على حياته كثيرا. إننا لا نعرف أيضا أين تقع السلطة المسئولة عن هذا الفساد، ما يضفي على الواقع طابعا كابوسيّا.
هل القلعة كناية عن الله؟ الدين؟ البيروقراطية الحكومية والسياسية؟ الوطن؟ السلطة؟ إن من الخطأ أن ننظر إلى القلعة، أو حتى المحاكمة، باعتبارها معنيّة بالبيروقراطية وغياب العدالة. مثل هذه القراءة تقلّل من أهمّية مشروع كافكا الفنّي، بل وتختزله بالضرورة. كافكا يكتب عن أشياء بسيطة ومهمّة: مشاعر الوحدة والألم والتوق إلى صحبة البشر وحاجة الإنسان إلى الاحترام والفهم.
لم يكن كافكا يشعر انه يعيش في وطن. وكان يشتكي دائما من غياب إحساسه بالهويّة. ومن المرجّح أن كلّ هذه الأشياء، أو بعضها، تمثّل أجزاء من الطبيعة المتعدّدة الجوانب لهذه الرواية المزعجة.
بطل كافكا المأساوي لا يمكن اعتباره بطلا على الإطلاق. فهو دائما يعمل لخدمة أهواء الآخرين، سواءً كانوا مسئولين، أو قضاة، أو سلطة .. إلى آخره. والقلعة يمكن أن تكون رمزا للقوى التي تتحكّم في مصائرنا وتهمّشنا وتمنع نموّنا، سواءً كانت تلك القوى سياسية أو اجتماعية أو سيكولوجية أو عاطفية. وهذا هو السبب في أننا يجب أن نقاومها دائما ونسعى لكشف الصدوع والثغرات في بُنيتها الاستبدادية. الألم والحيرة اللذان يشعر بهما (ك) هما صدى لألم وحيرة أولئك الذين يحسّون بأن هذا العالم يثقل كاهلهم ويضغط على أنفاسهم.
ربّما تكون هذه الرواية أعظم أعمال كافكا. وهي تجسّد بوضوح حكمته المأثورة في أن الكتابة يجب أن تكون فأسا يكسر البحر المتجمّد في دواخلنا.
كافكا هو الحقنة التي تسحب دم القارئ. وهو القلم الذي يكتب بذلك الدم. "مترجم".