:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الجمعة، أبريل 20، 2012

ديبلوماسية القوزاق

إحدى أشهر لوحات ايليا ريبين هي لوحته المسمّاة القوزاق يكتبون رسالة إلى السلطان العثماني. وهي عبارة عن إعادة بناء لحادثة وقعت في القرن السابع عشر الميلادي.
وقد رسمها الفنّان بعد أن قام ببحث مستفيض في أصل الحادثة التي تستند إليها اللوحة. ومن اجل ذلك سافر كثيرا في أنحاء اوكرانيا وروسيا للتحقّق من تفاصيلها.
اللوحة ذات نبرة وطنية واضحة. وهي تصوّر الروح الميّالة للاستقلال والحرب لدى شعب القوزاق. كما أنها تتضمّن شيئا من روح النكتة والدعابة.
ويظهر فيها جماعة من القوزاق "لا علاقة لهم بالقوقاز" وهم منهمكون في كتابة رسالة جوابية مهينة للسلطان العثماني محمود الرابع في جوّ من الهتاف والضحك.
وكان السلطان قد كتب حوالي منتصف القرن السابع عشر إلى القوزاق رسالة يقول فيها: من السلطان محمود ابن محمّد، شقيق الشمس والقمر، حفيد وكيل الله، حاكم ممالك مقدونيا وبابل وأرمينيا والقدس ومصر العليا والسفلى، إمبراطور الأباطرة وسيّد الملوك الذي لا يُهزم، حارس قبر عيسى المسيح والوصيّ الذي اختاره الله، أمل المسلمين والمدافع عن المسيحيين. آمركم يا شعب القوزاق أن تخضعوا لنا طوعا ودون أيّ مقاومة، وأن تكفّوا عن إقلاقنا باعتداءاتكم وغاراتكم المستمرّة".
وقد ردّ القوزاق على السلطان برسالة مليئة بالسباب والشتائم يقولون فيها: من قوزاق الدنيبر إلى الشيطان التركي صاحب إبليس اللعين. لا يليق بك أن تدّعي الوصاية على أبناء المسيح. فما أنت إلا طبّاخ بابل وتيس الاسكندرية وخنزير أرمينيا. ونحن لا نخشى جيشك وسنخوض المعارك ضدّك في البرّ والبحر".
الذي يقرأ هذه الرسالة سيفاجأ ولا شكّ بالأسلوب العدائي وغير المبرّر الذي كُتبت به، مقارنة مع رسالة السلطان التي تخلو تقريبا من كلمات التهديد أو الإساءة. ولكن يبدو أن القوزاق لم يكونوا يفهمون سوى هذا النوع من "الديبلوماسية"، مدفوعين بحبّهم الفطري للحروب وميلهم للحياة القاسية والعنيفة.

هذا الخطاب ما يزال يُعتبر لغزا حتى اليوم. ولا يُعرف إن كان قد كُتب كوثيقة تاريخية أم كقطعة من الأدب الساخر. المؤرّخون مختلفون حول هذه النقطة. كما لا يُعرف إن كان الخطاب قد أرسل فعلا إلى السلطان أم انه كُتب على سبيل السخرية والدعابة فحسب.
الشخص الذي وقّع الرسالة هو ايفان سيركو وهو محارب من القوزاق عُرف بعنفه وشراسته. وهناك نسخ مختلفة من الرسالة ذُكرت في أكثر من مصدر. وواضح أن الهدف منها كان السخرية من ألقاب السلطان الكثيرة.
كلمة القوزاق تعني المحاربين الأحرار. وقد عُرفوا بكونهم مقاتلين أشدّاء وبشغفهم بالخمر وحبّهم لروح المغامرة. لذا من الواضح أنهم لم يكونوا يقولون كلاما في الهواء عندما تفاخروا بمعاركهم في البرّ والبحر. وتروي بعض المصادر أنهم وصلوا إلى بوّابات القسطنطينية نفسها أكثر من مرّة. كما استعان بهم القياصرة في حماية حدود امبراطوريّتهم وفي بسط سيطرتهم على سيبيريا وأراضي آسيا الوسطى.
عبقرية ريبين وتفانيه أنتجا صورة من العصر البطولي لتاريخ القوزاق الأوكرانيين. وقد لزم الرسّام ثلاثة عشر عاما كي ينجز اللوحة. وراعى في رسمها الدقّة التاريخية من خلال استقصاء آراء بعض المؤرّخين عن الحادثة.
ولد ايليا ريبين في أوكرانيا عام 1844. وفي صغره، كان يكسب رزقه من رسم البورتريهات والايقونات الدينية. وعند بلوغه العشرين دخل أكاديمية سانت بطرسبيرج للفنون كي يدرس الرسم.
لوحاته الأولى كانت تتناول مواضيع كلاسيكية. وكانت مقدرته في رسم البورتريه استثنائية. وقد ترّسخت شهرته في الرسم عندما بلغ الخامسة والعشرين. وصوره التي رسمها لأشهر شخصيات عصره مليئة بالتأثيرات السيكولوجية العميقة.
المعروف أن ايليا ريبين لم يكن سعيدا بالثورة البلشفية. وقد رفض أن يواصل العيش في روسيا السوفياتية واختار فنلندا وطنا بديلا. وتوفّي فيها في سنّ السادسة والثمانين.