:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الخميس، سبتمبر 19، 2024

بريدجمان: الرحلة الجزائرية


تأثّر الفنّان الأمريكي فريدريك بريدجمان كثيرا بثقافات وطبيعة الجزائر التي زارها بشكل متكرّر في أواخر القرن التاسع عشر. وغالبا ما تعكس أعماله رؤية رومانسية لطبيعة شمال إفريقيا، بالتقاطها التفاعل الفريد بين الضوء والظلّ الذي يميّز المنطقة.
وقد اتّسمت الفترة التي قضاها بريدجمان في الجزائر بتحوّلات تاريخية وثقافية كبيرة. إذ كانت البلاد واقعة تحت الحكم الفرنسي منذ عام 1830، مع ما نتج عن ذلك من تغييرات ديموغرافية واجتماعية وسياسية كبيرة. وقد سّافر الرسّام على نطاق واسع في الجزائر وتوفّرت له تجارب مباشرة أثّرت على فنّه. وغالبا ما تصوّر لوحاته الحياة المحلية والهندسة المعمارية والبيئة الطبيعية وما الى ذلك.
كان وقت بريدجمان في الجزائر مزيجا من الاستكشاف الفنّي والتفاعل الثقافي وتأثيرات الاستعمار. وهو نفسه كان جزءا من الحركة الاستشراقية الأوسع، حيث صوّر الفنّانون الغربيون موضوعات ترتبط بثقافات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
أعمال بريدجمان الجزائرية ساعدت في ترسيخ مكانته كشخصية بارزة في الفنّ الأمريكي وكمفسّر مهم لبيئات شمال أفريقيا في الفنّ الغربي. وبشكل عام، أثّرت تجربته في الجزائر على ممارسته الفنيّة وشكّلت حياته المهنية، ما سمح له بإنشاء أعمال ثريّة بصريّا وذات صدى ثقافي واضح.
وقد ألّف بريدجمان كتابا لخّص فيه بعض جوانب تجربته في الجزائر وتناول بعض مشاهداته وانطباعاته أثناء زياراته لذلك البلد. هنا فقرات مترجمة من الكتاب..

  • مهما كان شكل البيت العربي، لابدّ أن يتضمّن فناءً مربّعا، وفي بعض الأحيان يكون هناك نافورة في الوسط وأعمدة تحيط بالفناء وتدعم الأعمدة الأصغر، عمود واحد في كلّ زاوية وبينها درابزين مزخرف. الطابق العلوي على شكل أقواس حدوة الحصان، ويتكرّر نفس العدد من الأعمدة والأقواس لدعم السقف، ثم تُبنى الغرف بكلّ الأشكال التي يمكن تصوّرها لتناسب راحة المالك وتضمن الاستفادة القصوى من كلّ شبر من الأرض.
  • عندما استأجرنا غرفنا في الفندق، لفت انتباهنا مجموعة من العرب في ساحة الأسلحة الواسعة المفتوحة والمزروعة بالأشجار والتي تقع قبالة نوافذنا. وأمام محلّ الجِزارة العربي، بجوار مقهى، كان قد سُلخ أسدان قُتلا مؤخّرا في الجوار ونُظّف وقُشّر جلداهما اللذان كانا ما يزالان ساخنين. ومن المؤسف أن جثّتيهما قُطّعتا، وإلا لكانت فرصة نادرة لدراسة علم التشريح. ومنذ الاحتلال الفرنسي للجزائر، اختفت الأسود وغيرها من الوحوش الشرسة تقريبا. ولا تزال المنطقة المحيطة منطقة غابات وتلال حيث يمكن رؤية معظم الأسود وصيدها.
  • يشكّل بنو مْزَاب، أو المْزابيون، مجموعة إثنية منفصلة تقيم شمال الصحراء الكبرى بولاية غرداية. وهم أمازيغ من عشيرة زناتة ومسلمون على المذهب الإباضي. وتواجدهم في تلك المنطقة يعود إلى العصر الحجري. والمزابيون من صنّاع المال ويمارسون التجارة على نطاق واسع في جميع أنحاء المستعمرة "الفرنسية". والعرب الآخرون ينفرون منهم بقدر ما ينفرون من اليهود بسبب ادّخارهم واجتهادهم. وهم يرتدون زيّا مختلفا، عبارة عن ثوب واحد يسمى القندورة، وهو مربّع الشكل بلا أكمام ويصل إلى الركبتين، مع فتحتين كبيرتين للذراعين وفتحة واحدة للرأس.
  • وطموح المزابي هو أن يصبح ثريّاً وأن يعود إلى موطنه الأصلي الذي يقع على بعد أكثر من مائة ميل ويمثّل في حد ذاته نهاية كلّ شيء. ويتطلّب الوصول اليه رحلة شاقّة تستغرق أربعة أو خمسة أيّام في الصحراء. والبلد الذي يتوق المزابي إلى الوصول إليه ويأمل أن ينهي أيّامه فيه هو واحد من أغرب المناطق على وجه الأرض. فهو أكثر بقاع الصحراء جفافاً واحتراقاً، وتحيط به واحة تشبه شبكة هائلة من الصخور وقشور الكهوف السوداء. ويبدو المكان بعيداً للغاية وطموح المزابيين غير مبرّر إلى الحدّ الذي يجعل المرء يتذكّر حكايات ألف ليلة وليلة.


  • عندما ذهبت لزيارة صديقنا بلقاسم في بيته ومع عائلته، كان المطر يتدفّق غزيرا في الفناء المفتوح لمسكنه. وكان أطفاله الخمسة يقفون على أقدامهم العارية مثل الدجاج المبلّل الحزين. وكانت أمّهم تحمل طفلا رضيعا بين ذراعيها. منازل الطبقات الدنيا من اليهود، مثل بلقاسم، متواضعة عموما. حتى الأرضيات والجدران المصنوعة من البلاط المزجّج، والتي يسهل غسلها، تختفي تماما تحت الأوساخ المتراكمة.
    والفوضى في غرف المعيشة لا يمكن وصفها. والتعويض عن هذا العنصر المثير للتعاطف هو استقبال الغرباء بأدب والسماح للفنّانين برسم اسكتشات في أيّ جزء من مساكنهم والتي تختلف قليلاً عن البيوت العربية. وقد جرت العادة أن تُترك الأبواب مفتوحة على مصاريعها وأن تعيش عدّة عائلات في غرف مختلفة تطلّ على الفناء.
  • رأينا جماعة من الناس يقومون بالعديد من حيل السحر التي تُسعد الناظرين، كالوقوف والاستلقاء على حدّ السيف وحمل الجمر المشتعل في أفواههم وحرق وجوههم وأذرعهم الى أن تنبعث منها رائحة اللحم. وأخيرا الحيلة "إن جاز أن نطلق عليها حيلة"، وهي التهام أرنب حيّ بشعره وكلّ شيء. ويشارك في هذه الوجبة الفاخرة عربيّان يعضّان الحيوان المسكين بشكل محموم مثل الذئاب ويمزّقانه بأسنانهما وأيديهما وفمهما وأصابعهما التي تفوح منها رائحة دماء الأرنب الساخنة، والذي لا يزال يحاول عبثاً الفرار من بين أيديهما.
  • كان العرب من ذوي الدخل المتوسّط الذين لم يكن بوسعهم شراء فيلات وحدائق كبيرة، يُسكنون زوجاتهم في غرف صغيرة في المدينة. وبسبب دوافع الغيرة أو العيب، لا يُسمح للنساء برؤية ضوء الشارع المفتوح. وبسبب افتقارهنّ إلى التمارين الرياضية، أصبحن بديناتٍ إلى الحدّ الذي جعلهنّ لا يستطعن التحرّك إلا بصعوبة بالغة. وتُعَد السمنة من مظاهر الجمال عند العرب. لكن بصرف النظر عن ذلك، فقد عانت النساء من عدد من الأمراض والأسقام الناجمة عن الحبس الضيّق.
  • أدرنا ظهورنا للمناظر الطبيعية الجبلية ودرجات الحرارة، وانغمسنا في النباتات الاستوائية. كانت أشجار اللوز والبرتقال والليمون تحيط بالفندق الذي استُقبلنا فيه لتناول الإفطار. لكن الإحساس الذي تغلّب حتى على جوعنا كان متعة تمديد أجسادنا المنهكة لطول ما حُشرنا داخل عربة ضيّقة وعلى وسائد جلدية غير مريحة. ركضنا في ضوء الشمس الساطع ورأينا بحرا من أشجار النخيل التي كانت تشكّل كتلة خضراء داكنة تسرّ العين، وقد أحاطت بالصحراء الصخرية التي تنوء تحت درجة حرارة لاهبة.
  • كانت الأيّام الأولى من شهر مايو تُنذر بدرجة حرارة الصيف المرهقة التي بدأت في إضعاف طاقاتنا واجتهادنا بعد ما عانيناه من ضيق وتعب خلال الشهرين الماضيين. ولكننا كنّا متردّدين في ترك الحياة الهادئة السهلة في الصحراء، متأثّرين بمثال العرب في التمتّع بالوجود ورعاية أنفسهم. فطوينا أدوات الرسم، وفي الساعة الثانية صباحا، وهو وقت تكون فيه الحرارة خانقة بالفعل، أدرنا ظهورنا للواحة النائمة وبدأنا في تسلّق الطريق الطويل إلى جانب الجبل بصعوبة.
  • أبدى فنّان مشهور وصاحب مقهى معروف بكونه ملاذا لمدخّني الحشيش اهتماما معيّنا باسكتشاتي، لكنه أكّد لي أن جهوده في الرسم كانت مصحوبة بصعوبات أكبر بكثير من تلك التي مررت بها، بينما لفت انتباهي إلى نتاجاته الأخيرة على الجدران البيضاء. كان كلّ شيء مرتّبا لإسعاد المدخّنين: حصائر جديدة وطاولات صغيرة عليها جرار زجاجية زرقاء كبيرة تحتوي على ماء وأسماك ذهبية، وأوانٍ ذات أشكال مختلفة مملوءة بالزهور والنباتات، وأعمدة محاطة بشرائط وورق ملوّن مقصوص بتصاميم خيالية.
  • في بداية شهر رمضان كانت الأمسيات تغري السكّان بالخروج من منازلهم وكانت المقاهي تكتظّ بالرجال الذين وضعوا برانيسهم جانباً أو تركوها في المنزل، والذين كانوا يدخّنون ويغنّون ويصفّقون للموسيقيين والراقصين. وكان الأخيرون من الصبية أو النساء الذين يؤدّون عروضاً في الجزء الخلفي من المقاهي المضاء بشكل غريب. وكان قد أُعيد تزيين هذه المنتجعات بلوحات بدائية للسفن والقاطرات والأسود والطيور للاحتفال الكبير بشهر رمضان الذي بدأ للتوّ.

  • Credits
    frederickarthurbridgman.org
    archive.org