:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الأحد، سبتمبر 15، 2024

حياة مع بيكاسو


في مذكّراتها بعنوان "الحياة مع بيكاسو"، تروي الرسّامة الفرنسية فرانسواز جيلو جوانب من قصّتها مع الرسّام بابلو بيكاسو الذي تزوّجته وعاشت معه عشر سنوات أنجبا خلالها ولدا وبنتا.
عندما التقى الإثنان لأوّل مرّة، كانت جيلو شخصيّة مستقلّة تماما. كانت تبلغ من العمر 21 عاما فقط، بينما كان بيكاسو في الـ 61. وكانت والدتها قد علّمتها تقنيات الرسم بالألوان المائية.
كتبت جيلو مذكّراتها عن علاقاتها ببيكاسو بعد طلاقهما، وأحدثت تلك المذكّرات ضجّة، ليس فقط بسبب رواية جيلو الصريحة لعلاقتها التي استمرّت عشر سنوات مع الفنّان العصبي، بل أيضاً بسبب الدعاوى القضائية الثلاث التي رفعها بيكاسو عليها وخسرها جميعا في محاولته منع نشر كتابها. وتوصّلت المحكمة الى أن الكتاب بعيد عن تشويه سمعة الرسّام الكبير لأنه يصوّره "كرجل يتمتّع بثراء داخلي مذهل وشخصية جذّابة للغاية".
كان ردّ فعل بيكاسو عصبيّا كما هو متوقّع، فقطَع كلّ علاقة له بجيلو وبطفليها منه. ثم شرع في تدمير مسيرتها الفنّية، فتحدّث عنها بالسوء في كلّ مكان ورفض عرض أعماله في أيّ معرض للوحاتها. وقد تسبّب الكتاب أيضا في استعداء مجموعة من أصدقاء بيكاسو والمقرّبين منه، فقاموا بحرق نُسخ منه في حفلاتهم معتبرين بيكاسو العبقريّ الوحيد في القرن العشرين.
وبالرغم من ذلك، حظيت المذكّرات باستقبال جيّد للغاية وأصبحت من أكثر الكتب مبيعاً على مستوى العالم. وبعد الانفصال، واصل بيكاسو وأصدقاؤه المؤثّرون شنّ حرب على جيلو في الدوائر الفنّية والفكرية الفرنسية، ما أجبرها في النهاية على مغادرة فرنسا والاستقرار في الولايات المتحدة، حيث أعادت بناء حياتها ومسيرتها المهنية واستمرّت في الرسم حتى وفاتها عام 2023 عن عمر ناهز الـ 101 عام.
هنا بضع فقرات مترجمة من مذكّرات فرانسواز جيلو عن فنّها وعن حياتها مع بيكاسو..

  • لا أحد لا يستغني عن الآخرين. أنت تتخيّل أنك ضروري للشخص الآخر وأنه سيصبح تعيسا للغاية إذا تركته. لكن تأكّد أنك إذا تركته، فخلال ثلاثة أشهر سيكون قد وضع مكانك شخصا آخر وسترى أن لا أحد سيعاني بسبب غيابك. يجب أن تشعر بالحرّية في فعل ما تشعر أنه الأفضل لك. أن تكون ممرّضا لشخص ما ليست الطريقة المثلى للعيش، إلا إذا كنت غير قادر على فعل أيّ شيء آخر.
  • أخبرني بابلو في أوّل ظهيرة زرته فيها بمفردي في فبراير 1944 أنه شعر أن علاقتنا ستجلب النور إلى حياتنا. قال إن مجيئي إليه بدا وكأنه نافذة مفتوحة وأراد أن تظلّ مفتوحة. لقد فعلت ذلك أيضا طالما سمحت للضوء بالدخول.
    وعندما لم يعد الأمر كذلك، أغلقتها على غير رغبة منّي. ومنذ تلك اللحظة، أحرق هو كلّ الجسور التي ربطتني بالماضي الذي شاركتُه معه. لكنه أيضا دفعني لاكتشاف نفسي وبالتالي البقاء على قيد الحياة. لذا لن أتوقّف أبدا عن الامتنان له على ذلك.
  • أرسم مثلما يكتب بعض الناس سيرتهم الذاتية. فاللوحات، سواءً أكانت مكتملة أم لا، هي صفحات يوميّاتي. ولديّ انطباع بأن الزمن يمضي بسرعة. فأنا أُشبه نهرا متدفّقا يجرّ معه الأشجار التي تنمو على مقربة من ضفّتيه أو العجول الميّتة التي قد يلقيها الناس فيه أو أيّ نوع من الميكروبات التي تنمو فيه.
    وفي بعض لوحاتي أستطيع أن أقول بكلّ تأكيد إن الجهد قد وصل إلى ثقله الكامل ونتيجته، لأنني تمكّنت هناك من إيقاف تدفّق الزمن من حولي. لديّ وقت أقلّ وأقلّ، ومع ذلك لديّ المزيد والمزيد لأقوله، وما لديّ لأقوله له علاقة بما يحدث في حركة فكري. لقد وصلت إلى اللحظة التي أصبحت فيها حركة فكري تثير اهتمامي أكثر من الفكر نفسه.


  • أخبرني بابلو مرّة أنه من الآن فصاعدا، فإن كلّ ما أفعله وكلّ ما يفعله له أهميّة قصوى، وأيّ كلمة تقال أو أدنى لفتة ستكتسب معنى. وكلّ ما يحدث بيننا سوف يغيّرنا باستمرار. ثم قال: لهذا السبب، أتمنّى لو أستطيع إيقاف الوقت في هذه اللحظة وإبقاء الأشياء عند هذه النقطة بالضبط، لأنني أشعر أن هذه اللحظة هي البداية الحقيقية.
    إن لدينا كمية محدّدة من الخبرة تحت تصرّفنا. وبمجرّد أن تدور الساعة الرملية، سيبدأ الرمل في النفاد. وبمجرّد أن يبدأ، لا يمكن أن يتوقّف حتى يختفي كلّه. لهذا السبب أتمنّى لو كان بإمكاني إيقافه في البداية.
  • قال بيكاسو: يجب أن نقوم بأقلّ قدر من الإيماءات، وأن ننطق بأقلّ قدر من الكلمات، بل ونرى بعضنا البعض بأقلّ قدر ممكن، إذا كان من شأن هذا أن يطيل الأمور. نحن لا نعرف مقدار كلّ شيء أمامنا، لذلك يتعيّن علينا اتخاذ أقصى الاحتياطات حتى لا ندمّر جمال ما لدينا. كلّ شيء موجود بكمّية محدودة، وخاصّة السعادة.
    وإذا كان الحبّ سيأتي، فكلّ شيء مكتوب في مكان ما، وكذلك مدّته ومحتواه. إذا كان من المفترض أن تحتفظ أجنحة الفراشة بلمعانها، فلا يجب أن تلمسها. لا يجب أن نسيء استخدام شيء من شأنه أن يجلب الضوء إلى حياتنا. كلّ شيء آخر في حياتي يثقلني ويحجب الضوء. ويبدو هذا الشيء معك وكأنه نافذة تنفتح، وأريدها أن تظلّ مفتوحة".
  • ذات يوم عندما ذهبت لرؤية بيكاسو، كنّا ننظر إلى الغبار المتراقص في شعاع من ضوء الشمس المتسلّل عبر إحدى النوافذ العالية. وقال لي: لا أحد له أيّ أهميّة حقيقية عندي. بالنسبة لي، الأشخاص الآخرون يشبهون تلك الذرّات الصغيرة من الغبار التي تطفو في ضوء الشمس. لا يتطلّب الأمر سوى دفع المكنسة حتى تخرج.
    وأخبرته أنني لاحظت كثيرا في تعاملاته مع الآخرين أنه يعتبر بقيّة العالم مجرّد ذرّات صغيرة من الغبار. ثم قلت لنفسي: أنا أيضا ذرّة صغيرة من الغبار، لكني موهوبة بالحركة المستقلّة ولا أحتاج بالتالي إلى مكنسة. يمكنني الخروج من تلقاء نفسي.
  • قصص بابلو العديدة وذكرياته عن أولغا وميري تيريز ودورا مار، فضلاً عن وجودهنّ المستمر في حياتنا معا، جعلتني أدرك تدريجيّا أنه كان يعاني من نوع من عقدة اللحية الزرقاء التي جعلته يرغب في قطع رؤوس جميع النساء اللواتي جمعهنّ في متحفه الخاص.
    لكنّه لم يقطع الرؤوس بالكامل، بل فضّل أن تستمرّ الحياة وأن تظلّ كلّ هؤلاء النساء اللواتي شاركن حياته في لحظة أو أخرى يطلقن صيحات الفرح أو الألم ويتصرّفن ببعض الإيماءات مثل الدمى المفكّكة، فقط لإثبات أن هناك بعض الحياة المتبقية فيهن، وأنها معلّقة بخيط، وأنه يمسك بالطرف الآخر من الخيط. من وقت لآخر، كنّ يقدّمن جانبا فكاهيا أو دراميّا أو مأساويّا للأشياء، وكان هذا كلّه مادّة خامّا لمطحنته.
    وعندما سُئل مرّة عن أسباب انفصالنا بعد أن تركته قال: في كلّ مرّة أغيّر فيها زوجتي، يجب أن أحرق آخر زوجة. بهذه الطريقة سأتخلّص منهن. لن يكنّ موجودات الآن لتعقيد حياتي. ربّما سيعيد ذلك شبابي أيضا. أنت بقتلك المرأة، تمحو الماضي الذي تمثّله.
  • عندما سمع بيكاسو عن نيّتي زيارة محترف الرسّام بيير بونار انفجر غاضباً وأثار ذلك جدالاً كبيراً بيننا. قال إنه يكره بونار ولا يريدني أن أزوره. فأجبته بأن من حقّي أن أفعل ما أشاء من دون إذنه. لكن الجدال احتدم أكثر، وفي النهاية رضخت لرأيه.
  • ذات يوم، أخذ بيكاسو السيغارة التي كان يدخّنها ووضعها على خدّي الأيمن وأمسك بها هناك. كان يتوقّع منّي أن أبتعد عنه، لكنني كنت عازمة على عدم إرضائه. وقد خلّد بيكاسو، بطريقة لا تخلو من ساديّة ذكرى ذلك الحدث من خلال لوحته "المرأة ذات القلادة الصفراء" (1946)، والتي أظهرُ فيها وعلى خدّي ما يبدو وكأنه شامة جميلة، في حين أنها في الواقع أثر الندبة التي خلّفتها السيغارة.
  • في سبتمبر 1953 قرّرتُ أن أخرج من حياة بيكاسو نهائيّا، فجمعت أغراضي وغادرت إلى أرض جديدة. وقلت له قبيل مغادرتي: احترس، لأنني أتيت الى هنا عندما أردتَ أنت ذلك، لكنّي سأغادر عندما أريد. فردّ عليّ: لا أحد يترك رجلاً مثلي". فقلت: سنرى". فقال ساخرا: هل تتخيّلين أن الناس سيهتمّون بك؟ لن يفعلوا ذلك أبدا من أجلك فقط. وحتى لو كنت تعتقدين أن الناس يحبّونك، فلن يكون ذلك سوى نوع من الفضول الذي يشعرون به تجاه شخص كانت حياته مرتبطة بي بشكل وثيق".

    لم تستطع فرانسواز جيلو الاستمرار مع شخص "لم يوفّر حتى أحبّاءه" ورفضت أن تكون مجرّد ملهمة أخرى لبيكاسو. وقيل إن موهبتها الخاصّة وتقديرها العالي لذاتها وشغفها المستمر بالفنّ لعبت دورا في انفصالها عنه. كان بيكاسو في البداية قد شبّهها بزهرة جميلة، بينما وصفته هي في كتابها الجريء بـ "اللحية الزرقاء".
    وبعد أن تركَت بيكاسو، بدأت جيلو فصلا جديدا من حياتها بزواجها من عالم أحياء شهير. وكان ذلك بمثابة شهادة على قوّتها وقدرتها على الصمود وعلى العثور على الحبّ والدعم بعد ماضٍ مضطرب.
    كما واصلت مسيرتها الفنّية ووسّعت تجربتها لتشمل الخزف والنحت، وحظيت أعمالها بالتقدير في متاحف كبرى كمتحف المتروبوليتان في نيويورك ومركز بومبيدو في باريس. كما حصلت على العديد من الأوسمة والجوائز اعترافا بإنجازاتها الفنّية.
    كانت جيلو أيضا مدافعة متحمّسة عن العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان ومؤيّدة صريحة لحقوق المرأة وحركة السلام. وعندما توفّيت تركت وراءها إرثا غير عادي كفنّانة وكاتبة وكامرأة حطّمت الحواجز وتحدّت الأعراف وشقّت لنفسها طريقا مميّزا في الحياة.

  • Credits
    francoisegilot.com
    pablopicasso.org