:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الأربعاء، مايو 29، 2013

قابيل وهابيل

تُصوّر هذه اللوحة المصير البائس الذي انتهى إليه قابيل، الابن الأكبر لآدم وحوّاء، والذي بعد أن قتل شقيقه الأصغر هابيل، حُكم عليه بالتيه الدائم.
قابيل المنهك والسائر على غير هُدى يظهر في أقصى يمين الصورة وهو يقود قبيلته عبر الصحراء استباقا لغضب الربّ. وعلى محفّة خشبيّة يحملها أبناؤه، تجلس امرأة حائرة مع طفليها النائمين. بينما تظهر حيوانات وقطع من لحم نازف وهي معلقّة على طرف المحفّة.
الرجال الآخرون، وبينهم صيّادون، يمشون جنبا إلى جنب. الخوف من غضب الربّ مرتسم على الوجوه. أحد الأشخاص يحمل بين ذراعيه امرأة شابّة يبدو على ملامحها الإنهاك والمرض، بينما تظهر بعض الكلاب الضالّة في الخلف.
الرسّام الفرنسي فرناند كورمون جعل الظلال طويلة كما لو أن ضوء الحقيقة يلاحق المذنب في هذا السهل المجدب والكئيب. وقد استخدم الألوان الترابيّة وضربات الفرشاة القويّة كي يضيف توتّرا إلى الصورة. كما انه ركّز على دقّة التشريح بأن جلب إلى محترفه أشخاصا حقيقيين لتمثيل كلّ شخصيّة.
هذه اللوحة تمثل إعادة بناء انثروبولوجية للقصّة المشهورة التي وردت في العديد من الكتب السماوية. كما أنها تقدّم ميدانا جديدا، أي عصور ما قبل التاريخ، وبالتحديد الوقت الذي بدأ فيه الإنسان بالرسم على الصخور في العصر الحجريّ القديم.
وفي غياب أيّة وثائق أو أسانيد مؤكّدة، خمّن الرسّام طبيعة الحياة في تلك الأزمنة البعيدة، عندما كان البشر البدائيّون يكافحون من أجل البقاء ويتنقّلون بأقدام حافية وشعر مجعّد وجلد خشن. وقد اختار الرسّام عنوانا فرعيّا للوحة اقتبسه من استهلال قصيدة لـ فيكتور هوغو بعنوان "الضمير" يقول فيه: عندما فرّ قابيل من غضب ربّه أشعث الشعر مغبرّا كان يصحبه أبناؤه. كانوا يرتدون جلود الحيوانات وتتقاذفهم العواصف. وعندما تلاشى الضوء، وصل الرجل الكالح إلى سفح جبل في سهل واسع".
تقول القصّة إن قابيل، بعد ارتكابه جريمة قتل شقيقه، رحل وهو وزوجته عن منزل والديه ليعيشا في مكان بعيد. وقد أنجبا في ذلك المكان أطفالا. ثمّ أسّس أبناؤه في ما بعد مدينة أطلق عليها قابيل هانوك أو إدريس، على اسم طفله الأوّل.

❉ ❉ ❉

حملت حوّاء من آدم بطفلهما الأوّل وأسمياه قابيل. وبعد فترة أنجبت طفلا ثانيا أسمياه هابيل. وفي ما بعد أصبح هابيل راعيا للغنم، بينما كان قابيل يعكف على استزراع الأرض. تقول القصّة إن قابيل قدّم بعضا من نتاج الأرض التي كان يزرعها قربانا للربّ، بينما قدّم هابيل قربانا بعضا من أبكار غنمه. وقد تقبّل الربّ قربان هابيل، لكنّه لم يتقبّل قربان قابيل. لذا غضب الأخير وأحسّ بالنبذ. وذات يوم دعا قابيل شقيقه كي يذهبا معا إلى الحقل بعد أن أسرّ في نفسه أمرا. وهناك هاجم قابيل هابيل وقتله.
محور هذه القصّة هو الأنانيّة المتأصّلة عند قابيل وعدوانيّته وغيرته الشديدة. الرواية القرآنية عن القصّة تماثل تلك التي وردت في التوراة، وهي توحي بأن دافع قابيل لارتكاب الجريمة كان رفض الربّ أن يتقبّل منه قربانه.

❉ ❉ ❉

قصّة قابيل وهابيل تتضمّن طبقات متعدّدة من المعاني. فالقصّة تقول لنا أن الله يفضّل قرابين اللحم على قرابين الخبز والفاكهة. كما أنها توضّح تفوّق ثقافة الرعي والترحال على ثقافة الزراعة والاستقرار. وهذه الفكرة تتكرّر في قصص العهد القديم، حيث يثور الأنبياء ضدّ شرور أهل المدن، بينما يمتدحون الرعي والعيش في الأرياف. وهناك في العالم المعاصر اليوم من لا يزالون يفضّلون الحياة في البوادي والقرى باعتبارها أكثر طهرانية ونقاءً.
لكن القصّة تتضمّن مجموعة أخرى من الأفكار التي أسهمت في تغيير تاريخ البشر وفي تحوّل الوعي الإنساني. تذكر القصّة، مثلا، أن الله وضع وصمة على قابيل بعد ارتكابه للجريمة وذلك بأن جعل بشرته سوداء وشعره مجعّدا. والغريب أن انتشار الرقّ في القرنين الماضيين في أمريكا وفي غيرها من مناطق العالم كان يُبرّر دائما بأن الأفارقة ينحدرون من سلالة قابيل، ولذا حلّت عليهم تلك اللعنة وأصبح قدرهم أن يعيشوا مستعبدين في الحياة.
وليس البيض وحدهم هم من يؤمنون بهذا الشيء، بل إن رجال الدين السود يشاطرونهم هذا الرأي أيضا ويعتقدون بأن الحال ستظلّ هكذا إلى أن يعود المسيح إلى الأرض ثانية فيرفع عنهم تلك اللعنة بعد أن يتأكّد من أنهم أصبحوا أتقياء صالحين!

بعد طرد آدم وحوّاء من جنّات عدن، اشتغلت ذرّيتهما في الأعمال البدائيّة البسيطة. إبناهما، أي قابيل وهابيل، يوصفان كأوّل مزارع وراعٍ في سلالة البشر. غير أن الاثنين مارسا أيضا شيئا لم يعرفه أبواهما في الجنّة، أي الدين.
وعلى الرغم من أن القصّة لا توحي أبدا بأن الربّ طلب منهما هذا الأمر، إلا أن الاثنين قدّما إلى الله قرابين دينيّة على هيئة جزء من غلّتهما. وعلى ما يبدو، كان الله مستاءً من قابيل لأنه قدّم قربانا من الحبوب والفاكهة، في حين انه كان يفضّل أضحية من دم كتلك التي قدّمها هابيل. هذا على الأقل ما افترضه قابيل وهابيل. يمكننا فقط أن نخلص إلى أن هابيل أصاب ثروة أفضل من تلك التي جمعها قابيل، وهذا ما انتهى إليه فهمهما.
وأيّا ما كان الأمر، فقد شعر قابيل بالغيرة من هابيل وقام بقتله. وكانت تلك أوّل جريمة قتل تُرتكب في تاريخ البشرية وأوّل حادثة عنف دينيّ.
طوال فترة مكوثهما في الجنّة، لم يقدّم آدم وحوّاء أيّ قربان لله. لكن لم يمض وقت طويل حتى قرّر ابناهما أن تلك هي الطريقة المثلى لنيل رضا الخالق. وما أن بدءا هذه الممارسة حتى انكشف شرّها المتأصّل بطريقة مأساويّة.
يذهب بعض مؤرّخي الأديان إلى انه من الصعب أن نتصوّر أن الله يمكن أن يروّج لمثل هذه العادة المشكوك فيها. وحتى الآن، ما يزال جزء كبير من اللاهوت المسيحيّ الغربيّ يرتكز على فكرة أن الله يطلب الاضحيات والقرابين لكي يتمّ استرضاؤه وتجنّب غضبه. لكن هناك من الأنبياء من قالوا صراحة بخلاف ذلك، أي أن الله ليس مهتمّا بقرابين البشر، وأن كلّ ما يطلبه منهم هو أن يعملوا بعدل ومحبّة ورحمة.

❉ ❉ ❉

ترى كيف كانت طبيعة العالم الذي وجده آدم وحوّاء بعد طردهما من الجنّة؟ هل كان هناك بشر بدائيّون يعيشون خارج عدن؟ ومَن كان الطغاة العمالقة الذين تذكر بعض المصادر الدينية أنهم كانوا يعيشون على الأرض ويعيثون فيها الخراب إلى أن انقرضوا قبيل حادثة الطوفان؟ هل الله هو الذي خلقهم أم أنهم كانوا تمظهرات وتحوّلات للشيطان؟ ومن كانت زوجتا قابيل وهابيل؟
الكتب المقدّسة لا تتطرّق إلى مثل هذه الأمور. لكن يمكننا أن نفترض أن العالم خارج عدن لم يكن عالما مثاليّا. ومع ذلك كان هناك شكل من أشكال الحضارة الإنسانيّة، بل وربّما أنواع أخرى من البشر شبيهة بالإنسان. وكانت هناك مزروعات وقطعان من الحيوانات المفترسة والمستأنسة تتعايش مع الإنسان في أجواء من الصراع والخطر والموت.

❉ ❉ ❉

في الفنّ المسيحيّ الذي يعود إلى القرون الوسطى، ولا سيّما فنّ القرن السادس عشر، كان قابيل يُرسم بشكل نمطيّ على هيئة يهوديّ ملتحٍ وذي شعر أشعث. وهو يقتل هابيل الذي يظهر بملامح أوربّية وشعر أشقر ويرمز للمسيح.
وقد استمرّ هذا التصوير التقليدي لعدّة قرون. وأقرب مثال عليه هو لوحة جيمس تيسو بعنوان قابيل يقود هابيل إلى الموت والمرسومة في القرن التاسع عشر. لكن في ما بعد أصبح قابيل يُصوّر كأب للمجموعات السرّية وعصابات الجريمة المنظّمة.
وكثيرا ما شكلّت قصّة قابيل وهابيل موضوعا للأعمال الدرامية المأساوية. كان قابيل يُصوّر غالبا بشعر احمر ولحية ملوّنة، كما في مسرحيّة شكسبير "سيّدات وندسور المرحات". شكسبير أيضا يذكر قابيل وهابيل على لسان كلوديوس في مسرحيّة هاملت. كما يرد ذكر الاثنين في مسرحية "بانتظار غودو" لـ سامويل بيكيت.
وفي روايته شرقي عدن ، يستدعي جون شتاينبك قصّة قابيل وهابيل ليسقطها على وقائع هجرة الأوربّيين إلى كاليفورنيا في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
اللورد بايرون أعاد كتابة القصّة في قصيدة له بعنوان "قابيل". وهو ينظر إلى قابيل كرمز للمزاج الدمويّ الذي أثاره نفاق هابيل وتظاهره الزائف بالتقوى. وفي الكوميديا الإلهية، يواجه قابيل العقوبة التي فرضها الله عليه لارتكابه خطيئة الحسد بعبارته المشهورة: سأصبح مطاردا وهائما على وجهي في الأرض، ومن يجدني سيقتلني".
وفي أعمال أدبيّة أخرى، أصبح اسم قابيل مرادفا للعنة المتوارثة. فالوحش في قصّة بيوولف ينحدر من سلالة قابيل. غير أن بودلير كان الكاتب الأكثر تعاطفا مع قابيل في قصيدته "هابيل وقابيل" من مجموعة أزهار الشرّ ، حيث يصوّر قابيل كممثّل لكلّ الشعوب المضطهدة في العالم.
في الرسم، كانت قصّة قابيل وهابيل احد المواضيع المفضّلة للفنّانين منذ القدم. ومن أشهر من رسمها كلّ من تيشيان وغوستاف دوري وتينتوريتو وروبنز ووليام بليك وغيرهم.
بعض من كتبوا عن قابيل وهابيل في ما بعد حلّلوا قصّتهما من منظور معاصر مع بعد دياليكتيكيّ، فأشاروا إلى أن الموت العنيف لهابيل كان نتيجة لحالة من حالات الصراع الطبقيّ المبكّرة، وأن العنف هو نتيجة حتميّة طالما أن المجتمع يصنّف الناس على أساس الثروة والسلطة، بدلا من توحيدهم على أساس التعاطف المتبادل والأخوّة الإنسانيّة.

Credits
en.wikipedia.org

الخميس، مايو 23، 2013

يوميّات صانع عطور

يُعتبر جان كلود إللينا احد اكبر صانعي العطورات في العالم اليوم. وقد اقترن اسمه بعدد من أشهر العطورات العالمية التي كان وراء ابتكارها مثل "فيرست" من فان كليف اند أربلز، و"تير دي ايرميس" من دار ايرميس، و"ديكليراسيون" من كارتييه، و"بوا فارين" من لارتيزان وغيرها.
في هذا الكتاب بعنوان "يوميّات أنف: عام في حياة صانع عطورات"، يتحدّث إللينا عن أساليبه في تحضير العطور ويشرح العملية المضنية التي يتطلّبها خلق عطر جديد والاختبارات المتعدّدة وعمليات التصفية التي تسبق طرحه في الأسواق. كما يُضمّن الكتاب ملحقا تفصيليا يشرح فيه كيفية إعداد روائح مختلفة باستخدام موادّ وصيغ كيميائية معيّنة.
يقول المؤلّف في بداية الكتاب: الرائحة تشبه قطعة الموسيقى، يجب أن يكون لها ارتباطات كي تجذبك للدخول إلى عالمها. وصناعة رائحة هي أقرب ما تكون إلى البحث عن إبرة في كومة من القشّ. لقد كرّست كلّ حياتي للعطور بحثا عن أسلوب للتعبير عن المشاعر. ومثل هذا الأمر يمكن في كثير من الأحيان أن يتسبّب في الإرهاق البدني والعقلي وإنهاك حاسة الشمّ.
ويضيف: أن تحاول اكتشاف ما يمكن أن تتضمّنه رائحة جديدة يشبه أن تحفر عميقا في ذاكرتك. في البداية، ستجد تلميحا من هنا وهناك. لكن ينبغي عليك أن تتجرّد من عواطفك الخاصّة، لأنك لا تستطيع أن تضع ذكرياتك في زجاجة. الأمور لا تعمل بهذا الشكل.
ويشير إللينا في جزء آخر من الكتاب إلى أن أدواته التي يستعين بها في مهنته هي عبارة عن قلم رصاص وورق وذاكرة، وأن من عادته أن يرسم الروائح في ذهنه قبل خربشة الصيغ وتمريرها إلى مساعده في المختبر. وهو يفتخر بكونه يستخدم أقلّ عدد من المكوّنات في العالم، حيث يتألّف كلّ عطر من عطوراته من اقلّ من 200 مادّة مقارنة بألف إلى ألف وخمسمائة مادّة للعطر النموذجي.
وإللينا هو أوّل صانع عطورات يستخدم رائحة الشاي في ابتكاراته. وقد استوحى هذه الفكرة من زيارات زوجته المتكرّرة لمحلّ متخصّص في إنتاج أنواع مختلفة من الشاي. لكنّه أيضا يحبّ العمل مع روائح أقدم وأكثر قتامة، مثل نفحات العرق التي أضافها إلى عطر تير دي ايرميس الذي يحتلّ اليوم المرتبة الخامسة في قائمة أكثر العطورات مبيعا في فرنسا.
ولد جان كلود إللينا (64 عاما) لأب كان يشتغل بالعطور، ونشأ في "غراس" عاصمة العطور في جنوب شرق فرنسا، والتي تنتج حصّة الأسد من الروائح الطبيعية المستخدمة في صناعة العطور في البلاد. وقد أخذ أولى خطواته في عالم العطور وعمره ستّة عشر عاما، ثم عمل بعد ذلك لمدّة ثلاث سنوات كمساعد صانع عطور في شركة غيفودان السويسرية. وبعدها عمل في نيويورك وجنيف، قبل أن ينتقل إلى باريس عام 1975م.
في الكتاب، يتناول إللينا أيضا قوّة العطر ودور الإلهام في استنباط وخلق رائحة جديدة. يقول: الروائح تتمتّع بقوى سحرية قادرة على أن تنقلك إلى ماضيك وأن تؤجّج خيالك. وكلّ رائحة لها طابعها المميّز الخاصّ بها. وفي أيدي العطّارين الكبار، يتحوّل صنع عطر جديد إلى نوع من الخيمياء. وغالبا ما يبدأ كلّ شيء بلحظة إلهام. والإلهام يمكن أن يأتي من أيّ مكان: سوق، منظر طبيعي، مقهى .. إلى آخره. ذات مرّة شممت رائحة كومة من الكمثرى الشتوية في سوق ايطالي. وأتذكّر أنني أنفقت بضع سنوات بعد ذلك في محاولة لتحويل تلك التجربة إلى عطر.
ثم يتحدّث عن مواصفات الرائحة ودور الحواسّ. يقول: يجب أن تكون النفحات الأولى من أيّ عطر ممتعة ومرغوبة، حتى لو كانت الرائحة تتطوّر لتصبح بعد ذلك أكثر تعقيدا. الأمر يعمل مثل النوتات الموسيقية لأغنية. وبالنسبة لصانع العطور، تتشابك الحواسّ الخمس كلّها. وعلى الرغم من أن صانع العطور يركّز على حاسّة الشمّ بشكل خاصّ، إلا انه يوظّف في عمله الحواسّ الأربع الأخرى بشكل متزامن.
ويعبّر إللينا عن أسفه من حقيقة أن تجّار السوق هم من يحكم هذه الصناعة، ويصف الصراع النفسي بين رغبته في إرضاء ربّ عمله والجمهور وبين حرصه على أن يظلّ مخلصا لرؤيته الفنّية. "العطر في جزء كبير منه فنّ وليس علما. ولكي تخلق عطرا، فأنت لست بحاجة لأن تحكي قصّة. وعندما أصمّم رائحة، أضع في حسباني أن تظلّ على الأرفف لأطول فترة ممكنة. وفي معظم الأحيان، يلزمك عشر سنوات لكي تبتكر رائحة جديدة يمكنها الصمود والاستمرار بحيث تصبح مع مرور الوقت علامة فارقة في هذه الصناعة.
صانعو العطورات، مثل جان كلود إللينا، يسعون للاستفادة من تلك الطاقة التي للكيمياء كي يوظّفوها في خدمة الإغواء. وقد استخدم مهارته في خلق عطور كلاسيكية رائعة (القائمة الكاملة لابتكاراته على هذا الرابط ). كما انه يكتب عن الفنّ والأدب والموسيقى واليابان والرسم والبحر والسماء، إلى جانب العطور، ويأخذ العبرة من كلّ هذه الأشياء في إبداعه. "أحبّ البحر والأفق، خاصّة عندما تمتزج زرقة السماء مع زرقة البحر. وأقدّر الهيئات الجميلة والملابس الخفيفة المنسدلة والأناقة الرصينة والمنضبطة. وأؤمن بالسعادة وبالروحانية البسيطة، كما أفضّل الاتصال بالعين على الثرثرة والكلام الطويل".
وبالنسبة له، فإن العيش مع إحساس متعاظم بالرائحة يبدو أمرا مثيرا للاهتمام. وهو كثيرا ما يستمتع حتى بالروائح المزعجة. فعندما كان بصحبة أشخاص آخرين في رحلة في جبال الألب الفرنسية، لاحظ كيف أن الأزهار في إحدى التلال بدأت في إفراز رائحة تشبه العرق البشري. وقد فرّ من كانوا معه من المكان، لكنه ظلّ واقفا هناك كي يسمح لتلك الرائحة البهيمية أن تغسله، كما يقول. ثمّ يروي قصّة حدثت له في إحدى رحلاته بالطائرة قائلا: جلست إلى جوار امرأة كانت تضع واحدا من عطوراتي. كان العطر يكافح كي يغطّي على رائحة السغائر الملتصقة بملابسها، في حين كانت حركة زوجها تكشف عن نفحات دورية من ثوم لم يتمّ هضمه بعد".
مثل كلّ شيء في الثقافة الإنسانية، فإنّ تصوّراتنا عن العطور تتغيّر باستمرار. وإللينا يصف كيف تمّ حرمان صناعة العطور من روائح نادرة كالنعناع والليمون من خلال توظيفها بإسراف في صناعات معاجين الأسنان والعلكة وسوائل التنظيف. ويؤكّد على انه من الصعب خلق نكهات وروائح جديدة وحقيقية في عالم متطوّر باستمرار، مشيرا إلى أنه بعد أن عرف العالم نكهة ورائحة قويّة مثل الكوكاكولا، أصبح من المستحيل استعادة براءة وطزاجة الرائحة الأولى.
وعن أسماء العطورات والارتباطات والمعاني التي تثيرها يقول: عندما أريد أن استثير رائحة ما، استخدم علامات لا ارتباط بينها إذا ما أخذت بشكل منفصل. لذا فإن أسماء العطورات قد لا تشي بالضرورة بمضمونها. فعطر او بارفامي او تي فيه (Eau Parfumée Au Thé Vert)، ومعناه ماء معطّر مع شاي أخضر، ليس في تركيبته أيّ قدر من الشاي. كما لا توجد مانغو، مثلا، في عطري المسمّى اون جاردان سور لا نيل (Un Jardin Sur Le Nil)، أو حديقة النيل. ومع ذلك يشعر الناس بوجود تلك النكهات والروائح هناك. ويشير إللينا إلى انه معجب برائحة عطر غاردينيا لـ شانيل، لأنه لا يتضمّن رائحة زهرة، بل رائحة السعادة، على حدّ وصفه.
وهو يدلّل على إحساسه العالي بأدقّ جزيئات العطور وقدرته على التقاط أيّة نقطة في سلسلة من الروائح بقوله: عند قطف الياسمين الطازج صباحا فإنه ينفث عبيرا اخضر خفيفا، أما إن قطفته في نهاية اليوم فإنه يبعث رائحة حارقة تشبه رائحة القطط الكبيرة. ويضيف: اشعر بمتعة كبيرة في استنباط مفاهيم جديدة للروائح وإعطاء الحياة أفكارا مجرّدة. وقد اعتدت على أن أمدّ أنفي إلى الخارج، وخصوصا عندما تعطي الطبيعة نفسها هزّة بعد المطر. وتجذبني بشكل خاص فكرة أن رجلا "أو امرأة" يمكن أن يختار عطرا معينّا وهو في سنّ العشرين، لكنه ما يزال يريد اقتناء نفس ذلك العطر بعد أن يكون قد بلغ الستّين، أي بعد أن يكون قد انغمس في بعض الخيانات الزوجية".
وإللينا يؤمن بأن العطر يحتاج لأن يتناسب مع عصره، لا أن يتوافق مع اتجاه أو موضة. ويضيف: أنا متعجّب كيف أن عطرا مثل تير دي ايرميس أصبح رابع أكثر العطورات مبيعا في فرنسا، ومندهش بنفس الوقت لأن عطرا مثل اون جاردان ابريه لا موسون (Un Jardin Après La Mousson) لم يكتسب النجاح الذي يستحقّه، رغم أنّني اعتبره واحدا من أكثر التوليفات الزهرية جمالا التي ابتكرتها في حياتي. ثمّ يصف مزاج عطره الآخر المسمّى جور دي ايرميس (Jour d’Hermès) بقوله: إنه أنوثة نقيّة، وهو بالنسبة لي بدعة في حدّ ذاته. كنت أرغب في أن اخلق رائحة خاصّة بالمرأة دون أيّة ارتباطات عطرية ذكوريّة على الإطلاق.
ثمّ يشرح أسباب شعبية عطر تير دي ايرميس (Terre d'Hermes) ورواجه الغير عاديّ بقوله: رائحة تير دي ايرميس هي قصيدة إلى نجيل الهند. هذا العطر له شخصيّة المطر وجذور الأرض. انه عطر طقوسيّ، هذه هي الكلمة الأنسب لوصفه. ولا عجب أن اسمه يختزل طبيعته: رائحة الأرض في أفضل حالاتها، الأرض المبلّلة بعد المطر، الرائحة الاستوائية اللاذعة جدّا، المعدنية تقريبا، والحادّة نوعا ما، ولكن الممتعة والمنعشة والمليئة بالذكريات؛ الذكريات العطرة من مرحلة الطفولة والصبا. ويضيف: غالبا ما يُصنّف هذا العطر على أنه "ذكوريّ"، غير أنني لا أتفق كثيرا مع هذه الوصف. أعتقد أن العطر لا علاقة له بالجنس. أنت تضع ما تحبّ ولا يهمّ بعد ذلك إن كنت رجلا أو امرأة".
اليوم يشغل جان كلود إللينا منصب كبير صانعي العطور في دار ايرميس الباريسية المرموقة، ويدير عمله من مكتبه القائم وسط تلال مكسوّة بالصنوبر فوق مياه خليج انتيب على ساحل البحر المتوسّط. وقبل انضمامه إلى ايرميس، وضع إللينا ثلاثة شروط: أن يبقى على مقربة من مسقط رأسه في غراس، وأن يكون متحرّرا من القيود والمعوّقات التسويقية، وأن يكون له القول الفصل في ما يتعلّق بأسماء وأسعار وتصاميم عطوراته. وقد قفزت المبيعات السنوية في قسم العطور بـ ايرميس من ستّين مليون يورو وقت التحاقه بالشركة قبل تسع سنوات إلى حوالي 140 مليون يورو في العام الماضي.

الاثنين، مايو 20، 2013

سيرة إمام وعارف من القرن العشرين

يتحدّث مارتن لينغز في هذا الكتاب بعنوان "متصوّف ووليّ من القرن العشرين: سيرة حياة الشيخ أحمد العلاوي" عن شخصية دينية غير معروفة نسبيّا للدارسين خارج العالم الإسلامي. إذ يتناول حياة وتعاليم الشيخ احمد بن مصطفى العلاوي (1869 - 1934) مؤسّس إحدى أهمّ الطرق الصوفيّة في شمال أفريقيا والمعروفة بالطريقة العلاويّة.
ووفقا لمجلّة دراسات الشرق الأدنى، يُعتبر هذا الكتاب احد أكثر المصادر شمولا عن التصوّف التي كتبها مفكّر غربيّ. كما أن قراءته شرط أساسيّ لأيّة دراسة جادّة عن الصوفية، بحسب ما يقوله المفكّر الأمريكي من أصل إيراني سيّد حسين نصر في استعراضه للطبعة الأولى من الكتاب.
المؤلّف مارتن لينغز، المعروف أيضا باسم أبو بكر سراج الدين، هو كاتب وباحث إنجليزي سبق وأن ألّف ثلاثة كتب عن التصوّف في الإسلام. لكن كتابه الأشهر الذي حظي، وما يزال، بشعبية كبيرة هو السيرة التي كتبها عن حياة الرسول بعنوان محمّد: حياته استنادا إلى مصادر مبكّرة. وقد اكسبه هذا الكتاب شهرة واسعة في العالم الإسلامي ونال عليه العديد من الجوائز، كما اعتُبر أفضل سيرة كُتبت عن الرسول بالانجليزية.
النصف الأوّل من هذا الكتاب هو عبارة عن عرض لتاريخ التصوّف في شمال أفريقيا مع نبذة عن حياة الشيخ العلاوي. بينما النصف الثاني مخصّص لكتابات الشيخ مع مختارات من قصائده الصوفية المعروفة. وإحدى الملاحظات الجانبية المثيرة للاهتمام هو أن لينغز يشبّه مكانة الشيخ بالعصر الذهبي لمتصوّفة العصور الوسطى ويقرن عظمته بتلك التي للمتصوّف الهنديّ رامانا ماهارشي.
المعروف أن الشيخ أحمد العلاوي ولد في مستغانم بالجزائر عام 1869، وتلقّى تعليمه الأوّلي في بيت والده العالم. وقد أطلق على طريقته اسم العلاوية نسبة إلى الإمام عليّ بن أبي طالب الذي قال انه ظهر له في رؤيا واقترح عليه هذا الاسم.
يشير لينغز إلى إن الغرض من تأليف كتابه هو الذهاب إلى ما هو ابعد من الاستشراق الأكاديمي، في محاولة لتمكين حتى أولئك الذين لا يمتلكون خلفية عن الإسلام من فهم موضوعه وأخذ فكرة، ولو عامّة، عن أصول التصوّف الإسلامي. وهو يقدّم للقارئ رؤية عن شخصية وحياة الشيخ العلاوي، سواءً من خلال الناس الذين عرفوه أو من خلال مجموعة كتاباته التي تركها.
ثمّ يتحدّث عن بعض مواقف وأفكار الشيخ العلاوي التي تدلّل على انفتاحه وتسامحه، فقد كان احد الدعاة الأوائل للحوار بين الأديان، كما عُرف عنه احترامه غير العاديّ للمسيحيين واطلاعه الكبير على الإنجيل. وهناك أيضا محاولاته المتعدّدة للتوفيق بين الإسلام والحداثة، وتشجيع أتباعه على إرسال أطفالهم إلى المدرسة لتعلّم اللغة الفرنسية، ثم دعوته إلى ترجمة القرآن الكريم إلى اللغة الفرنسية ولغة الأمازيغ من أجل جعله أكثر يسرا، وهو الموقف الذي أثار في زمانه جدلا كبيرا.
الهالة التي اكتسبها الشيخ في أوساط المتصوّفة الكلاسيكيين يعزوها المؤلّف إلى حقيقة أن الشيخ كان منخرطا في القضايا المعاصرة، بالإضافة إلى الكاريزما الشخصية التي كان يتمتّع بها والتي أجمعت عليها مصادر عديدة. وما من شكّ - يقول المؤلّف – في أن جاذبية الشيخ وأفكاره الحضارية والمتسامحة أسهمت في انتشار إسلام يتّسم بالمعرفة والحكمة في أوربّا وفي إقبال العديد من الأوربيّين على اعتناق الإسلام.
ثم يتحدّث عن شخصية الشيخ كما تعكسها نظرة من كانوا يتعاملون معه من داخل دائرته. ويستشهد بكلام طبيبه الفرنسي مارسيل كاريه الذي لازمه أربعة عشر عاما وكتب يقول في مذكّراته: التقيت الشيخ العلاوي لأوّل مرّة في ربيع عام 1920. لم يكن لقاء صدفة، بل دُعيت إليه بصفتي طبيبا. وكان ذلك بعد بضعة أشهر من بدء ممارستي للطبّ في مستغانم. وما أثارني بصفة خاصّة هو ذلك الشبه الغريب بين ملامح الشيخ وبين الوجه الذي يُستخدم عادة لتمثيل المسيح. كنت اعرف أنني في حضرة شخصية غير عاديّة. كانت الغرفة مثل جميع الغرف في منازل المسلمين، خالية سوى من القليل من السجّاد والفرش. وكانت هناك خزانتان اكتشفت في ما بعد أنهما تحتويان على عدد من الكتب والمخطوطات. كان الشيخ العلاوي يجلس بصمت ووقار في زاوية الغرفة واضعا يديه على ركبتيه".
في جزء آخر من الكتاب، يتحدّث المؤلّف عن مذهب وحدة الوجود الذي يحتلّ مكانا مركزيا في معظم التقاليد الصوفية للإسلام، بل وأيضا في كلّ التقاليد الصوفية الأخرى. كما يتناول جوانب أخرى من مذهب الشيخ مثل "العوالم الثلاثة" التي تمثّل التسلسل الهرميّ للوجود، و"السلام العظيم" الذي يحقّق بلوغه غاية الرحلة الداخلية. كما يناقش مواضيع هامّة أخرى مثل النبوّة والقداسة.
الكاتب مارتن لينغز كان معروفا بكثرة أسفاره، على الرغم من انه في أخريات حياته لم يغادر منزله في لندن إلى حين وفاته في العام 2005. وبالإضافة إلى كتاباته في التصوّف، كان لينغز ضليعا بحياة وأدب وليام شكسبير. وقد أشار في عدد من كتاباته إلى المعاني الباطنية والروحانية العميقة التي وجدها في مسرحيات وأعمال الشاعر الانجليزي. "مترجم".

السبت، مايو 18، 2013

الأساطير واللغة 2 من 2

وُجدت الأساطير مع الإنسان منذ آلاف السنين. وقراءتها تساعدنا على فهم الحياة والتجربة الإنسانية بشكل أفضل وتزيد معرفتنا بالماضي وبالكثير من الحضارات التي سادت ثم بادت. كما أنها تعلّمنا بأن هناك الكثير من الأديان والثقافات في هذا العالم، وبالتالي تجعلنا أكثر تسامحا وانفتاحا.
بعض الأساطير أسهمت في صياغة الأديان وفي تشكيل تاريخ العديد من الأقوام والحضارات. وبعضها كان وما يزال مصدرا للكثير من الأعمال الشعرية والمسرحية والأدبية والموسيقية والفلسفية.
الأساطير القديمة ما تزال تعيش معنا في ثقافتنا ونجد لها مرجعيات في العديد من المفردات والتعبيرات اللغوية المعاصرة.

  • أغاني السيرانات:
    في بعض الأحيان، نسمع أو نقرأ عبارة "أغاني السيرانات". والسيرانات هنّ حوريّات بحر بملامح فاتنة. كنّ يستلقين على الشواطئ للإيقاع بالبحّارة من خلال أغانيهنّ الساحرة التي تصيب عقل من يسمعها بالخبل والذهول. الإغريق المتأخّرون يصفونهنّ كنساء لهنّ أجنحة الطيور، وهي صورة مستعارة من قدامى المصريين.
    أغاني الحوريّات، لفرط جمالها، تصيب العقل بالتشوّش والذهول لأنها تعمل على شلّ قدرة الإنسان على التفكير والحكم العقلاني على الأمور. في الأوديسّا، تحذّر سيرسي اوديسيوس من الاستماع إلى السيرانات لأن أغانيهنّ قد تدفعه إلى الجنون. كما تحثّ بحّارته على ربطه بالسارية وسدّ أذنيه بالشمع كي تكونا منيعتين على الاستماع لتلك الأغاني الساحرة.
    أسطورة السيرانات يبدو أنها موجودة في العديد من ثقافات العالم. في الأسطورة هنّ مخلوقات خطيرة جدّا، ولكنهنّ أيضا يتمتّعن بجاذبية لا تقاوَم. كما يمكن اعتبار قصّتهن أمّاً لجميع الرموز الأسطورية الأنثوية، فهنّ مثيرات وفاتنات وقويّات.
    في جميع الحضارات القديمة تقريبا، كانت الأنثى تُعبد كآلهة، وفي نفس الوقت يُخشى جانبها كشيطان. والسيرانات يجسّدن جوهر السحر الذي تملكه المرأة وتزهو به على الرجل. لكن في الفنّ، فإن الأسطورة تتحدّث إلى الجنسين. وهي، بمعنى ما، تمثّل كلّ تلك الأشياء التي يقضي الإنسان حياته وهو يتجنّبها خوفا، لكنّه يندم على ذلك في النهاية.
    السيرانات نجدها اليوم في العديد من الأعمال الفنّية والأدبية وفي شعار شركة ستاربكس وفي رواية فرانز كافكا بعنوان صمت السيرانات .
    في وقتنا الحاضر، تكتسب أغاني السيرانات معنى مجازيّا. فالساسة الذين يبذلون للناس الوعود السخيّة والبرّاقة كي ينتخبوهم، إنما يعكسون بهذه الوعود معرفتهم بسيكولوجيا الإنسان وميله لتصديق الكلام المنمّق والمعسول. لذا فإن هؤلاء الساسة بارعون في غناء السيرانات، وبالنتيجة فإن الناس يميلون إلى الافتتان بـ "غنائهم" وتصديق وعودهم.

  • حصان طروادة:
    تتحدّث هذه الأسطورة عن إحدى أكثر الحيل شهرة في جميع العصور. الحرب بين الإغريق وأهل طروادة هي الآن في عامها العاشر. الطرواديّون شعروا بالابتهاج عندما استيقظوا في صباح احد الأيّام ليجدوا أن الجيش الإغريقي الذي كان يحاصر مدينتهم قد غادر أخيرا. غير أن الإغريق تركوا وراءهم هديّة غريبة هي عبارة عن حصان خشبيّ عملاق.
    تنفّس الطرواديّون الصعداء لأنهم اعتقدوا أنهم ارتاحوا أخيرا بعد أن خاضوا حربا ضارية وطويلة. وعندما رأوا الحصان الضخم أمام بوّابة مدينتهم ظنّوه رمزا للسلام وتحيّة للإلهة أثينا. لكنّ بعض الأهالي خمّنوا أن الحصان الخشبي قد يكون خدعة وأنه من الأسلم أن يتمّ إحراقه في مكانه.
    عرّاف المدينة، واسمه لوكون، حذّر الملك برايام حاكم المدينة من الحصان قائلا انه مكيدة وليس رمزا للسلام. غير أن بوسيدون، إله البحر، الذي كان يقف إلى جانب الإغريق، أرسل إحدى أفاعي البحر الضخمة كي تقتل لوكون وولديه. برايام ظنّ أن لوكون قُتل لأنه أدلى بنبوءة كاذبة. لذا أمر الملك بإحضار الحصان الخشبيّ إلى داخل أسوار المدينة.
    كان الإغريق قد وضعوا خطّة محكمة بعد عشر سنوات من الحصار الفاشل الذي فرضوه على طروادة. فقد تظاهروا بأنهم تخلّوا عن الحرب وقرّروا العودة إلى ديارهم. لكنهم تركوا ذلك الحصان الخشبيّ خارج الأسوار بعد أن ملئوه بالجند.
    وبعد يوم وليلة من الاحتفالات الصاخبة، انهار الطرواديون من الإنهاك الشديد بسبب إفراطهم في شرب النبيذ. الجنود الإغريق الذين كانوا مختبئين داخل الحصان استغلّوا الوضع وخرجوا من مخبئهم وفتحوا بوّابة المدينة. ثم دخل الجيش الغازي بأكمله إلى داخل المدينة وسوّوا أسوارها بالأرض ثم باشروا في قتل أو أسر جميع سكّانها.
    أسطورة حصان طروادة تحمل رمزيّة رائعة، وهي تعيدنا إلى ماض بعيد كان يخلو تقريبا من اللغة، وإلى مكان كانت فيه الرموز مرتبطة ارتباطا وثيقا بسعي الإنسان للبقاء على قيد الحياة. الحصان هو رمز للحرب، لكنه بنفس الوقت نموذج أصيل لقدرة الإنسان على الابتكار وعلى التدمير. كان حصان طروادة الوسيلة المثلى لحسم نزاع ملحميّ طويل أدّى في النهاية إلى القضاء على حضارة.
    وعلى الرغم من أن هذه القصّة منشؤها التاريخ القديم، إلا أننا ما نزال إلى اليوم نستخدمها في لغة الخطاب اليومي. وعندما نطلق على شيء ما "حصان طروادة"، فإننا نعني أنه حسن المظهر ولكنّه ينطوي على نيّة شريرة بداخله.
    وقد يكون حصان طروادة شخصا أو جماعة ما تحاول الإطاحة بشركة أو بلد أو حكومة من الداخل. كما يمكن أن يُطلق هذا الوصف على مجموعة مخرّبة أو جهاز يتمّ دسّه داخل صفوف العدو، أو على هديّة تُقدّم إلى شخص ما بنيّة الخداع وإيقاع الضرر. وتنويعا على هذا المعنى، تُستخدم هذه العبارة لوصف نوع من برامج الفيروسات التي تبدو قانونية وبريئة في الظاهر، لكنّ تأثيرها مدمّر على جهاز الحاسوب الذي تُنصب عليه.


  • سهم كيوبيد:
    لآلاف السنين، ظلّ الناس يتساءلون عن الكيفية التي يقع فيها البشر في الحبّ، أو كيف ينجذبون عاطفيّا إلى بعضهم البعض. وكانوا يعتقدون أن قوى خارجية تضرب ضربتها فجأة وتجرّد الإنسان من إرادته الواعية.
    الدراسات الحديثة تؤكّد أن هناك استجابات فسيولوجية يتمّ تحفيزها بأنواع مختلفة من الكيمياء الداخلية، بما في ذلك الغدد الصمّاء والأدرينالين والاندورفين والأوكسيتوسين.
    اليونانيون القدماء كان لهم تفسيرهم الخاصّ عن سرّ الوقوع في الحب، إذ كانوا يعزون ذلك إلى ما يُعرف بسهم إيروس إله الحبّ. سهم إيروس "أو كيوبيد عند الرومان" يشير ضمنا إلى وجود الفيرومونات وغيرها من الإشارات الفيزيائية والكيميائية.
    لكن ما هو مفقود في هذه الأسطورة في كثير من الأحيان هو حقيقة أن إيروس أو كيوبيد كان له سهمان: احدهما ذهبيّ يجلب الحبّ والجاذبية، والآخر رصاصيّ يُُحدث الكراهية والتنافر.
    أبوليوس يشير إلى هذه الثنائية في روايته الشهيرة عن كيوبيد وسايكي، بينما تتضمّن ترنيمة هوميروس إلى أفرودايت مقطعا يقول إن الحبّ لا يعرف حدودا وأن الإلهة وابنها يضربان جميع المخلوقات الحيّة برغبة غير عقلانية.
    في أوّل مرّة ظهر فيها كيوبيد، وكان ذلك في كتاب التحوّلات لـ اوفيد، استخدم سهمه بطريقة شرّيرة. أبوللو تعمّد إهانته عندما وصفه بأنه ولد سخيف لا عمل له سوى إطلاق السهام. وقد انتقم منه كيوبيد بأن أطلق عليه سهما ذهبيّا ليجعله يقع في الحبّ، كما أطلق سهما آخر، رصاصيّا هذه المرّة، باتجاه دافني الجميلة ليجعلها تخشى الحبّ وتكرهه. لذا فإن أبوللو في القصّة يطارد دافني إلى أن تتحوّل إلى شجرة غار كي تهرب منه، وكلّ هذا بسبب سهام كيوبيد التي لا ترحم.

  • نهر ستيكس المظلم وكعب أخيل:
    كثيرا ما يأتي الحديث عن نهر ستيكس المظلم مترافقا مع الحديث عن كعب أخيل. في الأساطير اليونانية، كان نهر ستيكس حدّا فاصلا بين العالم العلوي للأحياء وعالم الموتى السفلي. كان النهر أسود لدرجة انه يستحيل رؤية أيّ شيء تحت سطحه.
    الإغريق كانوا يعتقدون أن آلهتهم لا تختلف كثيرا عن البشر من حيث أنها، هي أيضا، عرضة للأفكار والمشاعر الشرّيرة. الفارق الوحيد هو أن الآلهة اكبر وأقوى من البشر، كما أنها مستثناة من الشعور بالخوف من الموت.
    كان الموت بالنسبة لليونانيين القدماء شيئا مرعبا. تصوّرهم المأساوي عن أرض الموت الكئيبة هو الذي كان يدفعهم للتعلّق الشديد بالأرض ومباهجها. كانوا يعتقدون أن أرواح البشر بعد موتهم تسكن في منطقة باردة ومظلمة تُدعى هيديز. هناك يقضي الأموات وقتهم في البكاء والتطلّع للعودة إلى الأرض التي تركوها وراءهم.
    عندما تصل أرواح الموتى إلى نهر ستيكس، يتمّ نقلهم في قارب يقوده بحّار عجوز وغامض يقال له كيرون. البحّار لا يتكلّم أبدا إلى أيّ من ركّابه، كما أن أحدا منهم لا يتحدّث معه. صمت الموت يلفّ الجميع منذ اللحظة التي يستقرّون فيها على القارب.
    ويتوجّب على كلّ راكب أن يدفع لـ كيرون أجرا نظير نقله في قاربه. لذا كان اليونانيون يضعون عملة نقدية في فم كلّ شخص يموت. كما أن البحّار لا يحمل سوى أولئك الذي تمّ دفنهم بعد موتهم. ومصير كلّ من لا يفي بهذين الشرطين هو أن يهيم على وجهه على شاطئ النهر بلا هدف لمئات السنين. فيرجيل ودانتي وصفا في وقت لاحق الأرواح وهي تتدافع بشكل محموم ويائس على شاطئ نهر ستيكس للحصول على مكان في القارب.
    عندما تصل الأرواح إلى الشاطئ الآخر، تدخل من بوّابة كبيرة يحرسها كلب له ثلاثة رؤوس. وخلف هذه البوّابة يتمّ إصدار الحكم النهائي، فالأخيار يذهبون إلى الفردوس أو الحدائق السماويّة. أما الأشرار فيُرسلون إلى تارتاروس أو الجحيم، وهو مكان غامض تسكنه الأشباح والظلال والكوابيس.
    بعض علماء النفس يشيرون إلى أن تارتاروس، أو الجحيم، ليست سوى رمز لهذا العالم الذي نتقبّل فيه كلّ شيء ظاهريّا ودون نقد أو تمحيص. أمّا "الأجر" الذي يتقاضاه كيرون من ركّاب قاربه فهو رمز لشرط تخلّي الإنسان عن أي رغبة متبقيّة له في الواقع الماديّ الذي كان يعيش ضمنه قبل موته.
    نهر ستيكس هو رمز للانتقال من حالة الحياة إلى الموت. غير أن مياه هذا النهر هي التي منحت القوّة التي كانت تسعى إليها والدة أخيل لحماية ابنها.
    تذكر الأسطورة أن أخيل كان ابنا لـ ثيتيس، وهي حورية بحر ونصف إلهة. وأبوه كان بيليوس، ملك منطقة في جبل بيليون. وقد سمعت أمّه ذات مرّة كلام ساحرة تتحدّث عن موت أخيل في حرب ستحدث مستقبلا في طروادة. لذا أخذت الأمّ رضيعها إلى أن بلغت به نهر ستيكس المظلم كي تغمره في الماء ليصبح خالدا. كانت تمسك به من كاحله وهي تغمره. لذا أصبح جسده غير معرّض للخطر باستثناء بقعة واحدة فيه هي كعبه.
    لكن في وقت لاحق، مات أخيل قرب نهاية حرب طروادة نتيجة سهم أصابه في كعبه بعد قتله للبطل هيكتور. الأسطورة تشير إلى أن الجرح الذي أصاب أخيل كان مميتا لأن كعبه كان الموضع الوحيد الذي اجتمعت فيه قابليّته للفناء من شتّى أنحاء جسده. أوفيد يشير في "التحوّلات" إلى أن أبوللو هو من حدّد لـ باريس نقطة ضعف أخيل وساعده في مهمّة قتله.
    ومثل العديد من الأساطير، فإن وجود النهر في هذه الأسطورة يحمل رمزيّة خاصّة. فالنهر دائم الجريان ومياهه تتغيّر باستمرار. لذا فإن الأنهار رمز مثاليّ للتحوّلات والانتقال من طور لآخر. بل إنها تمثّل اكبر التحوّلات جميعا: أي الانتقال من الحياة إلى الموت، كما يجسّده نهر ستيكس الذي يجب أن يعبره جميع البشر قبل أن يدخلوا هيديز أو عالم الأموات.
    ورغم أن أسطورة أخيل قديمة جدّا، إلا أنها لم تدخل التداول اللغوي إلا في القرن التاسع عشر. وهي تُستخدم ككناية عن الضعف القاتل أو المنطقة الهشّة والسريعة العطب. وأوّل من استخدمها كان الشاعر الانجليزي سامويل تيلر كولريدج عندما وصف ايرلندا بأنها "الكعب الضعيف لـ أخيل البريطانيّ". هذه الأيّام، لو سمعت مديرا أو مسئولا يتحدّث عن احد أقسام مؤسّسته واصفا إيّاه بأنه "كعب أخيل" المؤسّسة، فالمقصود أن ذلك القسم لا يحقّق مكاسب أو أرباحا وأن بقاءه على هذا الوضع قد يشكّل خطرا على مستقبل الشركة.

    موضوع ذو صلة: نساء الأوديسّا
  • الأربعاء، مايو 15، 2013

    الأساطير واللغة 1 من 2

    وُجدت الأساطير مع الإنسان منذ آلاف السنين. وقراءتها تساعدنا على فهم الحياة والتجربة الإنسانية بشكل أفضل وتزيد معرفتنا بالماضي وبالكثير من الحضارات التي سادت ثم بادت. كما أنها تعلّمنا بأن هناك الكثير من الأديان والثقافات في هذا العالم، وبالتالي تجعلنا أكثر تسامحا وانفتاحا.
    بعض الأساطير أسهمت في صياغة الأديان وفي تشكيل تاريخ العديد من الأقوام والحضارات. وبعضها كان وما يزال مصدرا للكثير من الأعمال الشعرية والمسرحية والأدبية والموسيقية والفلسفية.
    الأساطير القديمة ما تزال تعيش معنا في ثقافتنا ونجد لها مرجعيات في العديد من المفردات والتعبيرات اللغوية المعاصرة.

  • موسيقى اورفيوس:
    أحيانا، تتردّد على الألسن عبارة "الموسيقى تروّض الوحوش"، في إشارة إلى ما للموسيقى من قوّة في إثارة مشاعر الإنسان بل وحتى الحيوان.
    العلم الحديث يشير إلى أن الموسيقى تعمل على مستوى أعمق في الدماغ، وهو أمر ما يزال تفسيره إلى اليوم لغزا. وهناك من العلماء من يتحدّث عن القوّة الغريبة للموسيقى في استحضار تجارب وحالات تقصر عنها غيرها من الفنون.
    عبارة "الموسيقى تروّض الوحوش" مستوحاة من الأسطورة اليونانية القديمة عن أورفيوس، الموسيقيّ الذي أحبّه أبوللو إله الموسيقى. هذه الأسطورة، مع العديد من الأساطير الأخرى، تشهد على أن موسيقى أورفيوس كانت قادرة على تهدئة أكثر الحيوانات عنفا وتوحّشا.
    الموزاييك الرومانيّ يصوّر أورفيوس وهو يعزف على القيثارة بينما يحيط به في جوّ من الوئام حشد من الحيوانات التي كثيرا ما يعادي بعضها بعضا في الأحوال الطبيعية. تشير الأسطورة إلى أن اورفيوس عندما يغنّي كان يستدرج البشر والحيوانات المتوحّشة والأنهار وحتى الصخور الصمّاء كي تتبعه وتقتفي أثره. ذات مرّة، عندما كان يعزف موسيقاه الشجيّة في الغابة، اقتلعت أشجار السنديان نفسها من جذورها وتبعته وهو يهبط إلى سفح الجبل ثم غرست نفسها على شاطئ البحر في المكان الذي أنهى اورفيوس أغنيته عنده. وعندما مات في نهاية الأسطورة بكت الطيور على أطراف التلال وأسقطت الأشجار أوراقها أسفاً وفاضت الأنهار بمياهها حزنا على رحيله.
    القيثارة في هذه الأسطورة ترمز إلى تقدير الموسيقى والفنون. والآلهة والبشر الذين يحملون هذه الآلة يتميّزون غالبا بإحساسهم العالي ورهافة مشاعرهم. وإذا رأيت صورة لشخص وسيم يحتضن هذه الآلة الوترية الصغيرة، فهناك احتمال كبير بأنه إمّا أبوللو أو اورفيوس، وهما أكثر الشخصيات في الأساطير الإغريقية ميلا إلى الموسيقى. أمّا إن سمعت ذات يوم موسيقى حزينة تتحدّث عن حبّ ضائع أو بلا أمل، فاعلم أن روح اورفيوس هي من ألهمت صاحبها ذلك اللحن.
    اورفيوس، كشخصية رمزية، يرتبط بالموسيقى والحزن وبعدم قدرته على نسيان حبّه لزوجته يوريديسي. وليس من المستغرب أن نرى حضوره في العديد من المعالجات الحديثة لهذه القصّة. فهو موجود، على سبيل المثال، في فيلم اورفيوس الأسود وفي لوحة كميل كورو وفي موسيقى جاك اوفنباخ وفي تمثال رودان ، بالإضافة إلى عشرات الأعمال الأدبية والفنّية والمسرحية.

  • لمسة ميداس:
    في الأسطورة، كان ميداس ملكا على فريجيا، وهي منطقة تقع اليوم في تركيا. كان هذا الملك معروفا بحماقته وجشعه. كان شخصا ثريّا جدّا وكان يعيش في قصر فخم مع ابنته الوحيدة. متعته الأولى كانت جمع الذهب وهاجسه الدائم كان تكديس المال. وقد اعتاد على أن يمضي أيّامه في إحصاء ثروته من النقود الذهبيّة.
    لكن ذات يوم، مرّ بمملكته دايونيسيس إله الخمر والمجون. فدعاه ميداس إلى قصره كي يقوم بواجب إكرامه. ومن باب ردّ الجميل، عرض عليه دايونيسيس أن يحقّق له أمنية، وحثّه على أن يفكّر جيّدا في نوعيّتها. فتمنّى ميداس أن تتوفّر له القدرة على تحويل كلّ شيء يلمسه إلى ذهب. ووعده دايونيسيس أن يحقّق له أمنيته تلك اعتبارا من اليوم التالي.
    وفي صباح ذلك اليوم، استيقظ ميداس من نومه مبكّرا كي يتأكّد أن أمنيته أصبحت حقيقة. ومدّ يده ليلمس طاولة فتحوّلت فورا إلى ذهب. وغمره شعور بالفرح والسعادة لما حدث. ثمّ لمس كرسيّا وسجّادة وباباً فتحوّلت جميعها إلى ذهب. ثمّ جلس إلى المائدة لتناول الإفطار ومدّ يده إلى وردة كي يشمّ عبيرها فتحوّلت في الحال إلى ذهب. وبعد قليل جاءت ابنته الحبيبة لتطوّقه بذراعيها فلم تلبث أن تحوّلت إلى تمثال من الذهب. عندها هبّ ميداس من مكانه مذعورا وسارع من ساعته إلى دايونيسيس ملتمسا منه أن يبطل مفعول تلك الأمنية.
    شعر دايونيسيس بالحزن لما حلّ بميداس وقال له: عليك أن تذهب الآن إلى نهر باكتولوس وتغسل يديك من مائه. وذهب الملك إلى النهر وفعل ما طُلب منه. وعندما عاد إلى قصره كان كلّ شيء قد عاد إلى طبيعته الأولى. ومن يومها تغيّر ميداس كثيرا وصار شخصا آخر. أصبح إنسانا كريما يعطف على الآخرين ويتحسّس همومهم ومشاكلهم. وعاش شعبه حياة مرفّهة بعد أن قرّر أن يقاسمهم ثروته الطائلة.
    أمنية ميداس لم تكن في الواقع نعمة وإنّما لعنة. وجشع الملك يدعونا لأن ندرك قيمة السعادة الحقيقية وأن نفكّر في العواقب التي قد تقودنا لأن نصبح عبيدا لرغباتنا الأنانية. الثراء قد لا يجلب السعادة بالضرورة وقد لا يحلّ كلّ المشاكل، لأن الثروة قد تخلق مشكلات من تلقاء نفسها.
    هذه الأيّام عندما نقول إن لشخص ما لمسة ميداس، فإننا نعني أنه يملك ثروة كبيرة، أو انه ناجح في جميع مشاريعه الماليّة وأن كلّ ما يفعله مضمون الربح. لكن يمكن أن يكون لهذه العبارة معنى ساخر، انطلاقا من حقيقة أن لمسة ميداس كانت في واقع الأمر نقمة أكثر ممّا هي نعمة.


  • صخرة سيزيف:
    من التعبيرات المتداولة والمستندة إلى أساطير عبارة "مهمّة سيزيفية" التي تشير إلى عمل مضنٍ ومستعصٍ وعبثيّ وليست له نهاية. في الأساطير اليونانية، كان سيزيف ملكا على كورينث وكان فخورا جدّا بذكائه وخداعه الذي لا ينتهي للآلهة وللبشر، وإغوائه لابنة أخيه وخرقه لقانون إكرام الغرباء بقتله الضيوف.
    كلّ هذه الانتهاكات الفادحة استوجبت عقابه وذلك بوضعه في تارتاروس، وهي أسفل درَك من الجحيم. مهمّة سيزيف الأبدية هناك كانت تلزمه بدحرجة صخرة إلى قمّة جبل. وعندما يصل إلى القمّة تتراجع الصخرة إلى أسفل الجبل، وبالتالي كان عليه دائما أن يبدأ من جديد في دفع الصخرة إلى قمّة الجبل في مهمّة لا تنتهي أبدا.
    هذه العقوبة كانت إحدى أكثر العقوبات ترويعا التي يمكن أن تواجه إنسانا. ولحسن الحظ، فإن أحفاد سيزيف لم تلاحقهم تلك اللعنة. فحفيده المسمّى بيلليروفون كان البطل الذي قتل وحش الشيميرا بمساعدة كلّ من أثينا وبيغاسوس الجواد المجنّح.
    سيزيف، ببعديه الوجودي والمأساوي، نجده اليوم في رواية يوم في حياة إيفان دينيسوفيتش للكاتب الروسي الكسندر سولجينِتسين وفي كتاب أسطورة سيزيف لـ البير كامو. كامو أضفى على سيزيف مسحة نبل ورأى أن حكايته تلخّص مصير الإنسان المعاصر الذي يصحو في الصباح ليذهب إلى عمله ثم يعود في المساء إلى بيته، وفي اليوم التالي يكرّر نفس ما فعله في اليوم السابق.. وهكذا.
    لكن سيزيف، حسب كامو أيضا، كان يمرّ بمرحلة من مراحل تطوّر الوعي، فقد تقبّل مهمّته على الرغم من عبثيّتها لأنها سمحت له بأن ينمو وأن يتعلّم. لقد عرف سيزيف مصيره وتقبّله، وبإمكان البشر أن يتعلّموا منه فيقبلوا أقدارهم.
    يقول البير كامو في كتابه: إن أسوا مصير يمكن أن يواجهه الإنسان هو أن يجد نفسه مسجونا في وجود عبثيّ، لكنه يجهل عبثيّته. لذا فإن سيزيف بعد أن أدرك عدمية مصيره كان يحقّق انتصارا صغيرا في كلّ مرّة يدفع فيها بالصخرة إلى قمّة الجبل. كان قد فهم عدم جدوى عمله ولم يعد منشغلا بمحاولة أن يجد معنى لما يقوم به.

  • صندوق باندورا:
    كثيرا ما نقول لشخص ما على سبيل التحذير: لا تفتح هذا، انه صندوق باندورا"، ما يعني أنه لو فعل هذا الشيء فستكون النتائج وخيمة بحيث لا يمكن تجنّبها أو إبطالها مفاعيلها.
    هيسيود، الشاعر الروماني، كان المصدر الأساسيّ لقصّة باندورا. وأصل الأسطورة أن زيوس كبير الإلهة أمر هيفيستوس زوج افرودايت بأن يصنع له، أي لـ زيوس، ابنة. وقد صنع له امرأة جميلة وأسماها باندورا. كانت باندورا عبارة عن هديّة جميلة شارك جميع الآلهة في تشكيل ملامحها. وكانت أوّل امرأة تُخلق على الأرض في عالم كان حتى ذلك الوقت مقتصرا على الآلهة والرجال فقط.
    وأرسل زيوس ابنته باندورا إلى الأرض لتتزوّج ابيميثيوس، وهو رجل مهذّب ووحيد. لكن كان لـ ابيميثيوس أخ اسمه بروميثيوس، وكان زيوس حانقا على الأخير لسرقته النار وإعطائها للبشر دون إذن من زيوس.
    وقبل أن يرسل زيوس باندورا إلى الأرض أعطاها صندوقا له قفل ثقيل وأخذ منها وعدا بألا تفتح ذلك الصندوق أبدا. غير أنها كانت امرأة فضولية وأرادت أن تعرف ما بداخل الصندوق.
    وفي إحدى الليالي، وبينما كان زوجها نائما، سرقت منه المفتاح وفتحت الصندوق. ومنه خرجت إلى العالم كافّة الشرور والآفات التي لم يخبرها البشر من قبل، كالأمراض والكراهية والحسد والجريمة والألم والموت والحزن.
    عندما فتحت باندورا الصندوق لم يكن ذلك الفعل يعبّر عن خبث أو سوء طويّة. كانت فقط تمارس فضولها، لأنها عندما رأت ما حدث سارعت إلى إغلاق الصندوق ولكن بعد فوات الأوان.
    باندورا هي النسخة اليونانية من حوّاء التي حُذّرت بألا تأكل التفّاحة. حوّاء أيضا كانت جميلة وفضولية ولم تستطع مقاومة أكل الفاكهة المحرّمة. ونتيجة لذلك طُردت هي وآدم من الجنّة التي أصبحت فردوسا مفقودا لأن ذرّية آدم وحوّاء، أي البشر، عانوا من الآثار السلبية لذلك الفعل، أي الألم والخطيئة والموت. لقد حُرم البشر وإلى الأبد من نعمة الخلود وأصبح يتعيّن عليهم أن يناضلوا وأن يعانوا من مشاكل ومشاقّ الحياة.
    ومن الواضح أن هاتين القصّتين توفّران مبرّرا جيّدا للرجال لأن يلوموا النساء ويحمّلوهنّ المسئولية عن كافّة الشرور والمصائب التي حلّت بالأرض.
    سيغموند فرويد ذهب إلى أن صندوق باندورا يرمز إلى أعضاء الأنثى التناسلية، وأحيانا إلى الأخطار والرغبات والمخاوف المكبوتة في اللاوعي. والأدباء والشعراء، مثل فولتير وغوته، رأوا في باندورا معنى مجازيّا يتمثّل في أن جمال الأنثى غالبا ما يخفي ميلها إلى الخداع والتدمير.
    أسطورة صندوق باندورا تنطوي في أصلها على تحذير للبشر بأن لا يحشروا أنوفهم في ما لا يخصّهم. وهذه الأيّام أصبحت العبارة تُستخدم للإشارة إلى أن عملا ما، مهما بدا صغيرا وبلا أهميّة، يمكن أن يؤدّي إلى نتائج قويّة ومؤلمة وذات آثار بعيدة المدى، وأن تَرْك وضع ما على حالته الراهنة قد يكون أفضل كثيرا من تغييره. من قبيل هذا، أن تسمع تصريحا لوزير أو مسئول في بلد ما يؤكّد فيه انه لن يناقش مسألة معيّنة لأنه لا يريد أن يفتح "صندوق باندورا"، ما يعني أن مناقشة تلك المسألة يمكن أن تؤدّي إلى نتائج وخيمة وغير متوقّعة.
  • الأحد، مايو 12، 2013

    لماذا مات سقراط؟

    روبن ووترفيلد مترجم وباحث وأستاذ للفلسفة اليونانية القديمة. وكتابه "لماذا مات سقراط: تبديد الأساطير" هو سرد كاشف ومفصّل عن الأسباب والتداعيات التي أطاحت بالفيلسوف الأهمّ والأشهر في العالم.
    في الكتاب، يحاول المؤلّف رسم صورة لمجتمع أثينا خلال السنوات الثلاثين التي سبقت محاكمة سقراط والتي انتهت بإعدامه في العام 399 قبل الميلاد.
    الصورة التي لدينا اليوم عن المحاكمة وعن الرجل نقلها أتباع سقراط المباشرون، أي أفلاطون وزينوفون الرواقيّ، وتكرّست في العديد من الأعمال الأدبيّة والفنّية من ذلك العصر. وهي صورة لرجل نبيل يهمّ بتناول كأس من الشراب السامّ بعد أن حكمت عليه ديمقراطية أثينا القديمة بالإعدام ظلماً.
    لكن ووترفيلد يشير إلى أن هذه الصورة ليست حقيقية تماما بعد أن خالطها الكثير من الخرافات والأساطير التي سرعان ما تحوّلت بالتواتر إلى حقائق تاريخية لا تقبل الشكّ. وربّما لهذا السبب ما تزال قصّة حياة وموت سقراط تفتن الناس وتثير كثيرا من الجدل والتكهّنات.
    كانت المحاكمة في جزء منها استجابة لعصر مضطرب. فقد كانت أثينا في ذلك الوقت تعاني من آثار هزيمتها في الحرب مع سبارتا وتمرّ بتغييرات اجتماعية عاصفة. فرَق القتل والمصادرات، ومن ثمّ الحرب الأهلية كانت بعض أعراض الطغيان المدعوم من سبارتا. ثم لم يلبث أن انتشر وباء التيفويد الذي أدّى إلى مقتل حوالي ربع سكّان المدينة. لكن مع نجاح الأثينيين في استعادة الديمقراطية أخيرا، بدأت عملية تسوية حسابات. والمؤسف أن بعض أفراد الدائرة المقرّبة من سقراط لم يكونوا بعيدين تماما عن تلك المشاكل. لذا بادر الديمقراطيون الجدد إلى توجيه التهم له بالمعصية وإفساد الشباب والدعوة لعبادة آلهة جديدة.
    ووترفيلد درس العديد من المصادر اليونانية الفعلية من تلك الفترة. وهو يرى أن تهمتي المعصية وإفساد شباب أثينا كانتا بالفعل كافيتين لإصدار حكم بالموت على سقراط. غير أن الادّعاء اتّهمه بما هو أكثر. فقد رأى أن سقراط لم يكن مجرّد شخص ملحد ومعلّم روحيّ لطائفة غريبة. لكنّه كان أيضا شخصا نخبويّا أحاط نفسه بشخصيّات غير محبوبة سياسيّا. وكان هو من درّس وعلّم أولئك الأشخاص الذين اعتُبروا مسئولين مباشرة عن الهزيمة في الحرب.
    وكانت مزاعم المحكمة تلك لا تخلو من حقيقة. فـ أفلاطون وزينوفون اللذان كانا من أقرب أصدقاء سقراط، كانا يؤلّهانه كمعلّم وموجّه. بينما تسبّب كلّ من آلسيباياديز وكرايتياس، اللذين كانا هما أيضا قريبين جدّا من سقراط، في دفع أثينا إلى شفا كارثة عسكرية. وقد وظّفت المحكمة كلام هذين الأخيرين وأفعالهما ووضعتها في سياق سياسيّ يدفع باتجاه تأكيد التهم وتثبيت الحكم.
    يتوقّف ووترفيلد مطوّلا ليصف هاتين الشخصيّتين وغيرهما من الشخصيّات الطموحة والمنعدمة الضمير التي هيمنت على الحياة العامّة في ذلك العصر. كان آلسيباياديز أحد جنرالات أثينا البارزين وكان مشهورا بوسامته وبكثرة خيوله وبثرائه وإفراطه في السُكْر. وقد فّرّ إلى سبارتا ثمّ إلى بلاد فارس، وأخيرا دبّر مؤامرة ضدّ الديمقراطية في عام 411 قبل الميلاد. وكان سقراط على علاقة غراميّة مع آلسيباياديز استمرّت عدّة سنوات. في ذلك الوقت، كان أمرا طبيعيا أن يصطفي الأستاذ واحدا من تلاميذه ويقيم معه علاقة حميمة. غير أن سقراط وآلسيباياديز كانا شريكين غير محتملين: الأوّل فيلسوف عجوز ودميم إلى حدّ ما، والثاني شابّ ارستقراطيّ ساحر وطموح ومتكبّر.
    أما كرايتياس الذي سبق له هو أيضا أن تتلمذ على يد سقراط فقد أصبح في ما بعد احد أعضاء الطغمة التي استولت على السلطة بعد ذلك بثلاث سنوات. وعندما كان في السلطة، حكم كرايتياس على المئات من أهل أثينا بالموت بإجبارهم على تناول السمّ، كما دفع بآخرين غيرهم للذهاب إلى المنفى.
    والنقطة التي يثيرها المؤلّف هي أن موت سقراط كان احد أسبابه هو علاقته المثيرة والفاحشة مع هذين الشخصين اللذين كانا من أعنف وأكثر أعداء الديمقراطية في زمانه. وليس هناك من شكّ في أن ارتباط سقراط بـ آلسيباياديز على وجه الخصوص وُظّف ضدّه في المحكمة. وهذه ليست نظرية ووترفيلد وحده، بل كان هذا الرأي رائجا على نطاق واسع في أثينا القديمة أيضا.
    بحلول العام 399 قبل الميلاد، كان كلّ من كرايتياس وآلسيباياديز قد قُتلا. وكان على المحكمة أن تبتّ في المهمّة التي لم تُنجز بعد، أي التخلّص من سقراط نفسه.
    لقد اعتُبر سقراط شرّا ينبغي إزاحته لأنه بدا وكأنه يؤمن بالحكم عن طريق الخبرة ويفضّل الحكم الأوليغاركي "أي حكم الأقليّة الديكتاتورية" على الديمقراطية التقليدية، ومن ثمّ عُدّ مسئولا عن نتيجة الحرب مع سبارتا التي دامت ما يقارب الثلاثين عاما. لذا كانت إدانته والحكم عليه بالموت أمرا لا مفرّ منه.
    ومن سوء حظّ سقراط، أن قائمة المتعاطفين معه كانت تضمّ أيضا جماعات وفرَقاً محتقرَة ومنبوذة اجتماعيّا. وقد استغلّت المحكمة هذا العامل الإضافي في تثبيت الحكم. الكلبيّون، مثلا، كانوا قد نصّبوا سقراط معلّما لهم. وكان هؤلاء معروفين بابتذالهم وجموح أفكارهم. كما كانوا يسخرون من القانون علنا ويرفضون اعتبار أنفسهم مواطنين.
    الآباء الطيّبون وأرباب الأسر المحافظة الذين وجدوا سقراط مذنبا بتهمة "إفساد الشباب" لم يكونوا خائفين كثيرا من مغازلات الفيلسوف ونزواته، بقدر ما كانوا قلقين من احتمال أن يتحوّل أبناؤهم إلى كلبيّين ساخرين.
    كانت أثينا آنذاك في حالة اضطراب ومجتمعها غارقا في المشاعر الدينية، لدرجة أن أيّ مصيبة تحلّ يمكن أن تُفسّر على أنها علامة تحذير من الآلهة. وكانت خسارة الحرب تعني أن الآلهة غاضبة، ولم يكن سقراط سوى القربان أو كبش الفداء المناسب. ترى مَن غيره يمكن أن يكون مسئولا عن الهزيمة وهو الذي كان يدرّس الشباب ويحرّضهم على أن يتمردّوا على آبائهم ويشكّكوا في القيم القديمة؟
    الدين في أثينا كان شأنا عامّا ومرتبطا ارتباطا وثيقا بقيم المدينة. وكانت المعصية أو انعدام التقوى تُعرّف وفقا لمعايير المجتمع، تماما مثلما نعرّف هذه الأيّام مفردات مثل الفحش أو الفجور.
    من الناحية الفنّية، صُنّفت المحاكمة تحت فئة "المحاكمات المقرّرة"، أي التي تفترض وجود درجات مختلفة ومتفاوتة من الذنب. فإذا وُجد المدّعى عليه مذنبا، فإن المدّعي العام يقترح عقوبة، بينما يحقّ للمدّعى عليه أن يقترح عقوبة اقلّ. ثم تكون هناك جولة ثانية من التصويت.
    ولكي نفهم لماذا مات سقراط، من المهمّ أن ننظر في عوامل أخرى، من بينها سلوك سقراط نفسه. إذ يشير أفلاطون إلى أن سقراط هو من وضع خطّة موته لأنه لم يقل شيئا في دفاعه عن نفسه. وهذا الكلام لا يخلو من حقيقة. فقد سخر من إجراءات المحكمة، وبدلا من أن يقترح دفع غرامة أو الذهاب إلى المنفى، أصرّ على أنه يريد عشاءَ مجانيّا على نفقة الدولة! الكثيرون ممّن كتبوا عن سقراط آنذاك ونُشرت كتبهم بعد وفاته، ومن بينهم أفلاطون وزينوفون، احتاروا في تفسير ذلك التصرّف الغريب.
    في الصفحات الأخيرة من كتابه الذي يتناول فيه وقائع المحاكمة، يقدّم أفلاطون شرحا مذهلا عن تأثيرات السمّ على جسد سقراط. ويصف الشلل الصاعد ببطء، بدءا من القدمين ثم الساقين وحتى الصدر، بينما يظلّ عقل سقراط صافيا متنبّها إلى أن يصل الموت بهدوء. رواية أفلاطون عن الحادثة غنيّة بقوّتها الانفعالية وبتفاصيلها الإكلينيكية الدقيقة.

    Credits
    en.wikipedia.org

    الخميس، مايو 09، 2013

    المكتبة في الليل

    البيرتو مانغويل مفكّر وكاتب ومترجم أرجنتيني ومؤلّف عدد من الكتب، أشهرها تاريخ القراءة وقاموس الأماكن المتخيّلة ومدينة الكلمات .
    "المكتبة في الليل" هو آخر كتب مانغويل، وهو عبارة عن رحلة مشوّقة في العديد من الأماكن والأزمنة لاستكشاف تاريخ المكتبات ومجموعات الكتب الخاصّة والأشخاص الذين كانوا وراءها والكتب التي تضمّها.
    مانغويل نفسه خبير لامع في كلّ ما له علاقة بالقراءة والمكتبات. وهو يمتلك مكتبة واسعة ومتنوّعة أسّسها في طرف مزرعة في منطقة اللوار الفرنسية يعود تاريخها إلى القرن الخامس عشر.
    عنوان الكتاب استمدّه المؤلّف من كونه يفضّل الجلوس في المكتبة ليلا بعد أن يكون الظلام قد خيّم على الكون في الخارج. يقول موضّحا هذه النقطة: في الليل يتغيّر الجوّ وتصبح الأصوات مكتومة والأفكار يصير صوتها أعلى. الوقت يبدو أقرب إلى تلك اللحظة في منتصف الطريق بين اليقظة والنوم. بِرَك الضوء التي تتسرّب من المصابيح تشعرني بالدفء. وفي رائحة الرفوف الخشبية وعطر المسك المنبعث من الأغلفة الجلدية ما يكفي لتهدئة الأعصاب وإعداد الإنسان نفسه للنوم".
    في المقدّمة يشرح مانغويل علاقته الوثيقة بعالم الكتب والمكتبات. يقول: في شبابي الأحمق، عندما كان أصدقائي يحلمون بالأعمال البطولية في عالم الهندسة والقانون والماليّة والسياسة الوطنية، كنت أحلم بأن أصبح أمين مكتبة". ويضيف: بعد أن بلغت السادسة والخمسين، وهي السنّ التي تبدأ فيها الحياة الحقيقيّة بحسب دستويفكسي، عادت إليّ تلك الفكرة المثالية، أي أن أصبح أمين مكتبة. لقد عشت طوال عمري بين أرفف الكتب التي ظلّت تتزايد باستمرار إلى أن أصبحت اليوم تهدّد بطمس حدود البيت نفسه. وعنوان هذا الكتاب كان ينبغي أن يكون "رحلة ليليّة حول غرفتي". لكن ممّا يؤسف له أن غزافييه دو مِستر سبقني إلى هذا العنوان قبل أكثر من قرنين من الزمان عندما اختاره لأحد كتبه".
    يتضمّن كتاب المكتبة في الليل خمسة عشر فصلا يتحدّث المؤلّف في كلّ منها عن تمظهر أو وظيفة ما للمكتبة. مثلا، هناك فصل بعنوان "المكتبة كأسطورة"، وآخر بعنوان "المكتبة كظِلّ" وثالث بعنوان "المكتبة كعقل"، ورابع بعنوان "المكتبة كنظام"، وخامس بعنوان "المكتبة كشكل"، وسادس بعنوان "المكتبة كجزيرة"، وهكذا.. ثمّ يربط الكاتب كلّ فصل بتجربته الحياتية في ترتيب ونقل وقراءة الكتب في مكتبته الخاصّة.
    وقد جمع مانغويل في هذه الفصول عددا من الحكايات المسلّية والقراءات الموثّقة والصور الفوتوغرافية في قالب أشبه ما يكون بسيرة ذاتيّة مصغرّة للكاتب. وهو ينتقل من التاريخ إلى الجغرافيا والعكس، ويتحرّك باستمرار من فكرة لأخرى، وأثناء ذلك ينقل قصصا لا تُعدّ ولا تُحصى.
    يتحدّث مثلا عن كتاب الفهرست، وهو فهرس مشروح للأدب العربيّ جمعه ابن النديم ابتداءً من العام 987. ثمّ يتناول النزاع بين ميكيل أنجيلو والبابا كليمنت السابع على تصميم المكتبة الكبيرة في فلورنسا. ثمّ يعرّج على المكتبة التي جرفتها المياه إلى الشاطئ مع روبنسون كروزو في رواية دانيال ديفو المشهورة.
    وعبر صفحات الكتاب تتناثر بعض المقاطع والأفكار الجميلة التي تمنح هذا الكتاب سحرا خاصّا، كقول مانغويل مثلا:
    "في الضوء، نقرأ ابتكارات الآخرين، وفي الظلام نبتكر قصصنا الخاصّة".
    "الكتب القديمة التي عرفنا عنها ولم نمتلكها تعبر طريقنا وتدعو نفسها ثانية. والكتب الجديدة تحاول إغواءنا يوميّا بالعناوين المثيرة والأغلفة المحيّرة".
    "في الليل، عندما تُضاء مصابيح المكتبة، يختفي العالم الخارجيّ ولا يعود موجودا سوى فراغ الكتب".
    "في الظلام، بينما النافذة مضاءة وصفوف الكتب تتألّق، تصبح المكتبة مساحة مغلقة، كوناً لا شكل له".
    "كلّ واحد من كتبي هرب، إمّا من النار أو الماء أو غبار الزمن أو من القرّاء المهملين أو يد الرقيب، وأتى إلى هنا كي يحكي لي قصّته".
    "في الليل، هنا في المكتبة، يصبح للأشباح أصوات".
    "عندما تقرأ كتابا وأنت جالس داخل دائرة فأنت لا تقرؤه بنفس الطريقة عندما تكون جالسا داخل مربّع أو في غرفة سقفها منخفض أو في أخرى ذات عوارض خشبية عالية".
    "كلّ قارئ ما هو إلا فصل واحد في حياة كتاب. وما لم ينقل ما عرفه للآخرين فكأنّه حكم على ذلك الكتاب بالموت حرقا".
    "الكتّاب يكتبون لأنهم بالأساس قرّاء ملتزمون، وهم يفعلون ذلك في غرف تصطفّ على جنباتها الكتب".

    عقل مانغويل النشط والمتحفّز يقرأ ويتذكّر، وأثناء ذلك يخلق ارتباطات وصورا ذهنية لا تخلو من طرافة. انه يتخيّل الكتب وهي تتحدّث مع بعضها وتغنّي وترقص، وأحيانا تغادر الأرفف ويواجه بعضها بعضا على الأرضية، حيث تتبادل الإهانات واللكمات ويمزّق كلّ منها صفحات الآخر. وعندما تُطفأ الأنوار تستقرّ وتهدأ لتمارس الحبّ، وبالتالي تتناسل كتبا أخرى. "كلّ كتاب ينادي على الآخر بشكل غير متوقّع. ونصف سطر يمكن أن يتردّد صداه في سطر آخر لأسباب قد لا تكون واضحة في ضوء النهار. وإذا كانت المكتبة في النهار صدى للنظام والترتيب الشديد والمطلوب في العالم، فإن المكتبة في الليل تبدو فرحة بالتشوّش المبهج للأشياء في الخارج".
    فهرس الكتاب يكشف عن قراءات المؤلّف وثقافته المتنوّعة والواسعة، من اسخيليوس وستيفان تسفايغ وإميل زولا إلى آنّا اخماتوفا، وخوان دي زوماراغا الذي كان مسئولا عن إنشاء أوّل مطبعة في العالم الجديد، وفي نفس الوقت عن تدمير معظم كتب إمبراطورية الأزتيك.
    ويشير مانغويل إلى انه خارج اللاهوت والأدب الفانتازيّ، لا يوجد سوى القليلين الذين يمكن أن يشكّكوا في أن الملمح الرئيسيّ لهذا الكون هي خلوّه من أيّ معنى أو غرض. ومع ذلك ما يزال الجنس البشريّ يقدّس المعرفة ويسعى إليها ويوظّفها في محاولته ترتيب وفهم الكون.
    ويضيف: الكتاب المقدّس يعلن أن غايته إيصال الحقيقة النهائية والمطلقة إلى البشر. لكنّ المكتبات الشخصيّة التي نجمع محتوياتها قطعة قطعة تمثّل اقتناعنا بأن الحقيقة جزئيّة ونسبيّة، وهي بناء تعاونيّ وليست كلاما تنطق به قوّة علوية".
    ثمّ يصحب المؤلّف القارئ في رحلة عبر الزمان والمكان متذكّرا برج بابل الذي اغتالته ذات مرّة يد إله غاضب، ومكتبة الإسكندرية التي أحرقت عن طريق الخطأ عندما أضرم يوليوس قيصر النار في سفنه. كما يذكّرنا بأن المكتبات ظلّت تُبنى باستمرار من قبل البشر كي تؤوي أفكار بشر آخرين. وقد كان هذا هو الحال دائما منذ عهد الملك الآشوري آشور بانيبال الذي أمر بجمع الألواح الطينية من جميع أنحاء إمبراطوريّته كي تُدوّن عليها الكتب.
    ويحفر مانغويل عميقا بحثا عن الدروس المستفادة من القصص الكلاسيكية، من قبيل تحليله القويّ لملحمة غلغامش ودراسته الممتعة لـ دون كيشوت وللسياق الاجتماعي والثقافي الذي كتب فيه ميغيل دي ثيرفانتيس تلك الرواية.
    ثم يسرد قصّة من التاريخ البعيد. يقول: في العام 336، كان راهب قد رأى ربّه ورسم مشاهد من حياة بوذا على جدران احد الكهوف. وعلى مدى ألف عام، حوّلت الصدفة هذا الكهف وغيره من الكهوف القريبة إلى مستودعات من المخطوطات والأدوات الدينية. وبعد ما يقرب من ألف عام بعد ذلك، أدّت الصدفة إلى إعادة اكتشاف الموقع الذي يُعرف اليوم باسم كهوف موغاو أو كهوف الألف بوذا بالصين.
    ويعلّق على ذلك بقوله: القصص هي ذاكرتنا، والمكتبات هي مستودعات تلك الذاكرة، والقراءة هي الحرفة التي نستطيع من خلالها إعادة تشكيل تلك الذاكرة بترجمتها إلى تجاربنا الخاصّة".
    غير أن الرحلة التي يأخذنا إليها المؤلّف ليست سعيدة دائما. إذ يتحدّث في جزء من الكتاب عن العديد من المكتبات والكتب المفقودة، من مكتبة الإسكندرية، إلى النصوص الضائعة لبعض كتّاب الإغريق القدماء، إلى التدمير الرهيب للكثير من الأعمال والكتب في الأمريكتين على يد الإسبان. المسيحيون الكاثوليك دمّروا مكتبات كبيرة في المكسيك وأمريكا الوسطى وقضوا على تاريخ حضارات ضاع تراثها إلى الأبد. والعثمانيون دمّروا في القرن السادس عشر مكتبة كورفينا العظمى، التي قيل إنها كانت واحدة من دُرَر التاج الهنغاري.
    ثم يتطرّق إلى الكتب الممنوعة، ومجموعات الكتب السرّية التي جُمعت في معسكرات الاعتقال وحافظت على حرّية الفكر في مواجهة الاستبداد، والمكتبات الخيالية أو الكتب التي لم تُكتب بعد مثل تلك التي حملها الكونت دراكيولا ووحش فرانكنشتاين. كما يشير أكثر من مرّة إلى تدمير مكتبات حضارتي المايا والأزتيك من قبل الغزاة والمبشّرين. ويعلّق بقوله: عندما يكون محتوى الكتب متوافقا مع الكتب المقدّسة، تصبح الكتب زائدة عن الحاجة. وإذا كانت غير متوافقة، تصبح غير مرغوب فيها. وفي كلا الحالتين ينبغي أن تُحرق. ويضيف: إن كتابا ممنوعا أو محروقا يمكن أن يكون أكثر تخريبا من كتاب سليم لأنه، بغيابه، ينال نوعا من الخلود".
    مانغويل يرى أن المكتبة الرقمية هي بالنسبة للمكتبة التقليدية كالتصوير الفوتوغرافي بالنسبة للرسم. غير انه يشدّد على افتتانه بالمباني ورفوف الكتب وخطط ترتيبها وبالشخصيات الإنسانية التي تنتشر في مشهد المكتبة. المكتبة، عنده، ليست قاعدة بيانات فقط. إنها مكان يسمح لحكمة الإنسان وخياله أن يزدهرا. والمكتبة ليست شيئا مادّيّا، بل هي جوّ وثقافة وتاريخ متراكم يغرق في عمق الجدران والأرفف. وهو يرى أن الكتاب الذي يُقرأ على شاشة ولا نستطيع أن نملكه ولا أن نحبّه أو نمسك به بأيدينا، لا يمكن أن نهضمه أو نستوعبه في عقولنا.

    Credits
    stuckinabook.com

    الاثنين، مايو 06، 2013

    !بُوسان المتعجرف والبارد

    أحيانا اُتّهم بأن أفكاري عن الفنّ تقليدية. وهذا اتّهام ظالم. فلو كنت تقليديّا بالفعل لأحببتُ الرسّام نيكولا بُوسان.
    عاش هذا الرسّام في القرن السابع عشر وقضى معظم حياته في ايطاليا. وهو فرنسيّ كان يستلهم موضوعات لوحاته من الأساطير والأدب. ولوحته رعاة أركاديا هي واحدة من أكثر الأعمال شهرة في متحف اللوفر في باريس.
    بالنسبة لعشّاق الفنّ الأصيلين، فإن حبّ هذا الرسّام هو المحكّ الحقيقيّ للذوق الرفيع. أن تفهم بُوسان وتُعجب به، فإن هذا هو طقس العبور كي تصبح عاشقا حقيقيّا للفنّ.
    مؤرّخ الفنّ تيموثي كلارك ألّف مؤخّرا كتابا عن لوحة بُوسان طبيعة مع رجل قتلته أفعى الموجودة في الناشيونال غاليري. وأنا أتساءل: كيف وبأيّ منطق يمكن لأيّ شخص أن يشعر بالانجذاب نحو هذا الرسّام المُملّ؟!
    ليست المسألة انه لم تُتح لي الفرصة لكي أصبح مفتونا بـ بُوسان. فقد قضيت ذات مرّة ليلة في فيللا ميديتشي في روما لرؤية معرض لأعمال بُوسان. وكان هناك في نفس الوقت معرض آخر في المدينة لأعمال بوتيتشيللي. وأتذكّر كيف أن الايطاليين نفروا من الانضباط البارد لـ بُوسان.
    هذه هي مشكلتي مع الرسّام. أجد أعماله بلا دم أو روح. بالطبع، أستطيع أن أرى جدّية ونطاق فنّه. وليس هناك مكان أفضل من الناشيونال غاليري حيث لوحته عن الرجل والأفعى التي درسها كلارك. لكن أين هي الحياة في لوحاته؟ أين الافتتان؟ أجد لوحاته مثل المعادلات الرياضية التي تشرح كيف ينبغي أن يكون الفنّ العظيم .
    سيزان كان معجبا بـ بُوسان. وأنا أحبّ سيزان. لكن بالنسبة لي، فإن الفرق بينهما واضح. في فنّ سيزان، هناك توتّرات عميقة، سكون صُوَره يُدمدم بالخطر. وأنا لا أجد توتّرات في بُوسان. غطرسته مطلقة وعالمه الفنّي مغلق.
    وعندما يتحمّس له الناس، فإنني لا أستطيع كتم شعوري بأنهم دجّالون ومحتالون على مستوى ما. أنا متأكّد من أنني مخطئ. ولكن عندما يتعلّق الأمر بـ بُوسان، فأنا شخص غير مثقّف ومعادٍ للقيم الفنّية السائدة وأخشى أن أظلّ هكذا دائما.

    ❉ ❉ ❉

    المقال أعلاه كتبه الناقد جوناثان جونز قبل أسابيع في جريدة الغارديان. والكاتب يطرح في مقاله سؤالا قديما - جديدا يتعلّق بماهيّة الفنّ الجيّد والفنّ الرديء، وهل هناك معايير محدّدة يمكن الاستناد إليها للتمييز بين النوعين؟
    في بعض الأحيان، يعبّر بعض الناس عن إحباطهم عندما يجدون شيئا يعتقدون انه فنّ جميل، بينما يعتبره آخرون فنّا رخيصا. ومسألة النسبية في تقييم الأعمال الفنّية موجودة حتى في أوساط النقّاد ومؤرّخي الفنّ. فما يعتبره شخص ما فنّا رخيصا قد ينظر إليه آخر باعتباره فنّا عظيما.
    غير أن الفكرة السائدة في أوساط بعض الفئات، وخاصّة من يُسمّون بالنخبة أو المثقّفين، هي أن الفنّ الراقي يمكن أن نجده في قصيدة لـ إليوت أو لوحة لـ بيكاسو أو سيمفونية لـ موزارت. في حين أن الفنّ الرخيص أو الرديء هو ذلك الذي يفضّله غالبية الناس والطبقات الشعبيّة خصوصا. واقرب مثال يرد إلى الذهن هو لوحات نورمان روكويل وموسيقى البوب وتلك اللوحات البرّاقة التي تزيّن التقاويم المكتبية والروايات الرومانسية الشعبية.
    في بدايات القرن الماضي، بدأ الناس يتداولون مصطلحا فنّيا جديدا هو الكيتش آرت، وهي كلمة ألمانية تشير إلى نوع من الفنّ الذي يعكس ذوقا رديئا بسبب بهرجته المفرطة وإغراقه في العاطفية. هذا النوع من الفنّ غالبا ما يروق للطبقات الشعبية من المجتمع. ومن سماته انه منفصل عن الحياة كما انه لا يهتمّ كثيرا بالعوامل الحرفية ولا بالاعتبارات الجمالية.
    الفنّ الرخيص أصبح هذه الأيّام يرتبط بالثقافة الشعبية وما ترمز له من انحلال وسلبية وتقليد وسطحية وابتذال بالإضافة إلى طابعها الاستهلاكي والميكانيكي، وفي المقابل يتسم الفنّ الرفيع بالتفرّد والتعقيد والفردانية والأصالة والعمق. لذا من غير المستغرب أن يذهب بعض النقاد إلى اعتبار فنّ اندي وارهول وروي ليكتنشتاين من قبيل الفنّ الرخيص بالنظر إلى شعبيته وتوظيف الآلة في إنتاجه وغلبة الطابع التجاري عليه.
    في فنّ الحداثة وما بعدها، بما في ذلك الأدب، لم يعد يُنظر إلى الكيتش آرت والفنّ الشعبيّ على انه فنّ رخيص أو عديم القيمة. بل جرى عليه ما جرى على كثير من الفنون التي كان يُنظر إليها بدونية، وأصبح مع مرور الأيّام جزءا لا يتجزّأ من البنية العامّة لمفهوم الجمال السائد. وقد راج هذا الفنّ وازدهر بسبب سخرية النقّاد منه واحتقارهم له. بل إن بعض الأعمال الفنّية المصنفة على أنها رخيصة بيعت بملايين الدولارات، مثل بورتريه فلاديمير تريتشيكوف عن الفتاة الصينية ذات الوجه الأزرق والبورتريه الغريب الذي رسمه سلفادور دالي لـ مونا فون بيسمارك.
    السؤال الذي يطرح نفسه اعتمادا على مضمون المقال أعلاه هو: هل من الضروري أن يكون كلّ شيء في الفنّ معذّبا وصادما وباعثا على الخوف والتوتّر والخطر كي يُعتبر فنّا أصيلا وجيّدا؟
    هناك عبارة مشهورة تقول إن الجمال يكمن في عين الناظر، أي أن المتلقّي هو الذي يقرّر لنفسه إن كانت هذه القطعة الفنّية جميلة أم غير ذلك. والواقع انه لا توجد معايير واضحة ومحدّدة للفنّ الجيّد أو الجميل، كما أن النقّاد والخبراء مختلفون كثيرا حول هذه النقطة. والأمر يتعلّق في النهاية بذائقة الفرد نفسه وطريقته في النظر إلى العمل الفنّي. لذا لا تدع أحدا يحدّد لك معنى الفنّ، ولا تهتمّ بما يقوله الآخرون أو بما يؤمنون به. فقط ركّّز على أن تُبقي عقلك مفتوحا وخذ وقتا كافيا في دراسة وتأمّل الأعمال الفنّية ودرّب نفسك على تبيّن محاسنها وسلبيّاتها.